عندما سألت المذيعة البريطانية كاثي نيومان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: «كيف تنام ليلا وأنت تعلم أن القنابل والرصاص الروسي يقتل الأطفال»، رد لافروف قائلا إن « حياة كل شخص لا تقدر بثمن.. لكن أي عمل عسكري مرتبط للأسف بخسائر بشرية، ليس فقط بين العسكريين ولكن بين المدنيين».

حاولت مذيعة القناة الرابعة الإخبارية البريطانية وراديو «تايمز» خلال مؤتمر صحفي عُقد قبل أيام إحراج الوزير قائلة: «سيد لافروف أنت تقول إنه يتم استخدام الدقة العالية لكن مئات المدنيين لقوا حتفهم بالفعل وهذا الأمر قيد التحقيق بمحكمة الجنايات الدولية.. أتساءل ما إذا كنت تقوم شخصيا بتحضير دفاعك لمحكمة جرائم الحرب؟».

فرد الوزير الروسي: «أتفهم رغبتك في طرح مثل هذه الأسئلة الساخنة لشحن جمهورك عاطفيا.. هذه وظيفتك كما أفهم.. ليس العمل كإعلامية، لكن كأداة لطرق رؤوس الناس بالمعلومات التي يطلبها قادة الغرب»، مضيفا: «لا أبرر أي عمل يؤدي لقتل المدنيين لكننا لم نكن من جاء بتعبير “الأضرار الجانبية”، لقد صاغها زملاؤنا الغربيون خلال مغامراتهم في العراق وفي بلدان أخرى مثل أمريكا اللاتينية وليبيا».

وسأل لافروف المذيعة البريطانية: «هل استخدمتِ ذات مرة أسلوب الشحن العاطفي لتغطية الأحداث في العراق وليبيا عندما سقط مئات الآلاف من الضحايا المدنيين».

المذيعة البريطانية قصدت توريط الوزير الروسي، لكن الدبلوماسي العجوز صدمها وكشف للجمهور أنها تتبنى وجهة نظر مسبقة وتطرح سؤالا موجها هدفه «شحن الناس وطرق رؤوسهم بتصورات يتبناها الطرف الآخر من الصراع».

نجح لافروف في الإفلات من السؤال وقدم إجابة نموذجية ارتدت إلى صدر المذيعة البريطانية، لكن لا يعني ذلك أنها إجابة صحيحة، فبلاده متورطة بالفعل في الاعتداء على جارتها الغربية أوكرانيا وقتل وتشريد مواطنيها، ووسائل إعلامه تمارس نفس عمليات الشحن الممنهج وطرق رؤوس الناس بمعلومات وقصص مضللة وكاذبة، فتحاول تصوير تلك الحرب على إنها عملية عسكرية محدودة تهدف إلى القضاء على «النازيين الجدد» الذين يحاول الغرب زرعهم على الحدود الروسية، وتدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية بدعوى حماية الأمن القومي الروسي.

فبركة وتضليل

منذ أن بدأت عمليات «التحسين» للحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت قبل أسبوعين، كشفت وسائل إعلام الأطراف المتصارعة عن وجهها الحقيقي، وتحولت جميعها إلى منصات إطلاق أخبار وتحليلات كاذبة ومضللة تهدف كل منها إلى شيطنة الطرف الآخر وتحميله مسئولية ما آلت إليه الأمور من قتل ودمار وتشريد للملايين وتضخم في الأسعار.

فمع بداية العمليات العسكرية صدرت تعليمات حكومية إلى وسائل الإعلام الروسية بعدم استخدام مفردات «حرب، وغزو، واعتداء» في إشارة إلى ما يجري في أوكرانيا، وبعد ساعات من القصف الروسي للمدن والقرى الأوكرانية سارعت المنصات الإخبارية التي تسيطر عليها السلطة الروسية إلى اتهام القوات الأوكرانية بارتكاب جرائم حرب في إقليم دونباس، زاعمة أن الضربات التي طالت مدنيين في أوكرانيا لا تأتي من القوات الروسية، بل من «القوميين الأوكران»، الذين دأب الرئيس الروسي فلاديميير بوتين على وصفهم بـ«النازيين»، وعندما كُشف زيف هذه الرواية قدموا أخرى ادعوا فيها أن الجيش الأوكراني يستخدم المدنيين كدروع بشرية وهو ما أدى إلى سقوط ضحايا من غير العسكريين.

في المقابل حاولت القنوات والصحف الغربية التي تدعي التزامها بالحياد والموضوعية، أن تغسل سمعة حكومات الحلفاء الغربيين الداعمين للحكومة الأوكرانية وتبرئتها من تهمة إشعال شرارة ما جرى بدخولها في مفاوضات مع كييف للانضمام إلى حلف الناتو دون النظر إلى عواقب مثل هذا القرار الذي كان الجميع يعلم أنه سيتسفز موسكو ويدفعها إلى التدخل عسكريا قبل أن تصل قوات حلف الأطلسي لحدودها.

وعملت منصات صحفية غربية كبرى ترفع شعار النزاهة على النيل من الروس وشيطنتهم، وتم تقديمهم كما يظهرون في أفلام هوليود باعتبارهم «أشرار قساة وقتلة باردون»، وبثت العديد من وسائل الإعلام التقليدي والبديل فيديوهات تصور عمليات قصف لمنشأت وتجمعات سكنية، ولاحقا وبعد إجراء ما يسمى التحقق العكسي للأخبار والصور ظهر أن تلك المقاطع مفبركة تم اقتطاعها من أفلام وألعاب فيديو.

لم تطرح تلك المنصات الرأي الآخر كما تنص قواعدها وأكوادها، فغاب الضيوف الروس عن برامجها وتغطياتها، وتبنت وجهة النظر والروايات التي تروجها حكوماتها لشحن الرأي العام العالمي ضد الروس بهدف إخراج موسكو من دائرة التنافس على قيادة النظام الدولي القائم والمستقبلي.

تغطية عنصرية

كشفت تغطية بعض المنصات الإعلامية الغربية عن عنصرية وتمييز المراسلين الذين ينقلون الأحداث، فعلى سبيل المثال، وصفت مراسلة «إن بي سي» اللاجئين الأوكرانيين الذين يعبرون الحدود إلى بولندا بأنهم «ليسوا لاجئين من سوريا، بل من أوكرانيا المجاورة.. بصراحة هؤلاء مسيحيون؛ إنهم بيض، ويشبهون الأشخاص الذين يعيشون في بولندا»، فيما قال مراسل «سي بي إس» في تغطيته إن «هذا المكان ليس العراق ولا أفغانستان اللذين شهدا صراعات على مدار عقود.. هذا بلد متحضر نسبيًّا، وأوروبي نسبيًّا، ولن تتوقع أو تتمنى أن يحدث شيء كهذا فيه».

هذه التعبيرات العنصرية دفعت جمعية الصحفيين العرب وصحفيي الشرق الأوسط إلى إدانة «التغطية العنصرية للحرب»، وأكدت رفض المقارنات التي تبرر بعض النزاعات وتتعاطف مع أخرى، مما يسهم في إزالة سياق النزاعات ويقلل من الشعور بمعاناة السكان الذين يعانون من الاحتلال والعدوان، وقالت إن «الضحايا المدنيين والنزوح في البلدان الأخرى أمر مقيت بالقدر نفسه في أي مكان».

الحجب والحجب المضاد

بدأت عمليات الحجب والحجب المضاد عمليا قبل اندلاع العمليات العسكرية، ففي أوائل الشهر الماضي أغلقت السلطات الروسية مكتب «دويتشه فيله» الألمانية لديها، ومنعت بث برامجها عبر القمر الصناعي وكل وسائل البث الأخرى، وذلك ردا على منع بث قناة «روسيا اليوم» في ألمانيا بدعوى إنها «أداة دعائية للكرملين تروج لنظرية المؤامرة وتبث معلومات مضللة لصالح الحكومة الروسية».

بعد أيام من الغزو شددت موسكو الحصار على وسائل إعلامها وقررت وقف بث عدد من المنصات المستقلة الناقدة، منها راديو «إيخو موسكفي» وقناة «دوزد تي في» وحجب مواقعهما على الإنترنت بعد اتهامهما بنشر أخبار كاذبة حول تصرفات العسكريين في أوكرانيا.

وأعلنت السلطات هناك أن أي وسائط إعلامية روسية لن تقوم بحذف المحتويات التي تنتهك اللوائح، سيُجرى حظرها، وينطبق هذا أيضا على نشر «معلومات غير صحيحة عن قصف مدن أوكرانية ومقتل مدنيين خلال عمليات للجيش الروسي»، وبالفعل اقتصرت تغطيات وسائل الإعلام الروسية على المعلومات والأخبار التي تقدمها سلطات موسكو.

كما قيدت الحكومة الروسية أيضا منصات «تويتر وفيسبوك وانستجرام» حتى تضمن إحكام السيطرة على ما يتلقاه الشعب الروسي من محتوى إعلامي يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وحجبت موقع «بي بي سي» ضمن مجموعة من منصات إعلامية غربية تم حجبها.

وبعد أن أقر مجلس النواب الروسي قانونا يفرض عقوبات تصل إلى السجن 25 عاما، وغرامات مالية ضخمة على من ينشر أخبارا مزيفة تشوه سمعة الجيش الروسي، أو تدعو إلى فرض عقوبات على روسيا، قرر عدد من المنصات الإعلامية الغربية أبرزها «سي إن إن» و«إيه بي سي» و«سي بي إس» الأميريكية و«راي» الإيطالية والإذاعة العامة الكندية، و«بلومبيرج» أنها ستوقف موقتا بث تقاريرها من روسيا، بسبب القانون الجديد لـ«حماية مراسليها»، مع تأكيد استمرارها في نشر المعلومات المؤكدة وغير المضللة، لكن من خارج روسيا.

ورغم هجوم دول الغرب حكومات ومنظمات أهلية لعمليات حصار الإعلام وحجب منصاته في روسيا، قررت دول الاتحاد الأوربي حجب قناتي «روسيا اليوم» و«سبوتنيك» الروسيتين، بدعوى مكافحة التضليل الروسي وإغلاق صنبور التلاعب بالمعلومات في أوروبا، وهو ذات القرار التي اتخذته بريطانيا حتى لا تتلوث الشاشات البريطانية، بحسب ما قالته نادين دوريس وزيرة الثقافة البريطانية.

لا مهنية ولا حياد في أزمنة الحرب

كشفت الحرب الحالية في أوكرانيا كما سابقتها، عن أن كل ما تلوكه المنصات الإعلامية عن الحياد والموضوعية في أزمنة الحروب والصراعات ليس سوى تعبيرات يراد بها خداع الجمهور وإقناعه بما يعرض عليه من محتوى لضمان تحقيق أهداف ممولي تلك المحطات.

هناك بالطبع من يتوخى الحد الأدنى من المهنية، وهي بطبيعة الحال لا تعني الحياد أو الموضوعية، فالمهنية هنا تعني أن البعض قادر على توصيل رسالته وتحقيق أهدافه دون أن يُشعر المتلقي بأنه يتم تضليله.

معظم المنصات الدولية الغربية تمارس التضليل، لكنها تصنع ذلك بحرفية فائقة لا تكشف عن نواياها في المحتوى الذي تعرضه بشكل مباشر، قد تمارس بعض تلك المنصات الحياد والموضوعية مادام ما تقدمه لا يتعارض مع مصالح وأهداف الممولين، لكن عندما تتعارض المصالح وتختلف الأهداف قل على هذه المهنية السلام، وفي أوقات الحرب يصبح الانحياز هو الأصل، فتُشهر أسلحة المنع والحجب ووقف البث لكل من يقدم محتوى أو وجهة نظر مخالفة.

أما وسائل الإعلام في الدول التي تحكم بالحديد والنار فالرقيب الحكومي يتكفل بصناعة المحتوى من الألف إلى الياء بدءا من اختيار الأخبار وترتيبها وطريقة عرضها وتحديد الضيوف والمصادر بل تحديد الموضوعات ومحاور مناقشتها، ومن يخرج عن السيطرة يتم حجبه ووقفه وسجن القائمين على إدراته وكله بالقانون.

وفي الحالتين يصبح التغييب والتلاعب بالرأي العام هو القاعدة.. البعض ينفذها بشكل ناعم والآخر بشكل خشن وسافر.