منذ ثلاثة أعوام، كنت في أمستردام في زيارة سريعة، لم أكن في مدينة أوربية متوسطة الرُقي والتحضر، بل كنت في أكثر المدن رقيا وحضارة ونظافة ونظاما. فشربت الصدمة الحضارية كاملة ودفعة واجدة، القانون والنظام والعدل والحرية والنظافة والتنظيم ودقة المواعيد وانعدام البطالة. كلها أشياء توقعتها وانبهرت بالرغم من ذلك حين عايشتها، وأكثر ما أبهرني هي الحرية التي تتمتع بها الفتيات والنساء في الشوارع. يسرن بلا قلق ولا انحناء ولا تراجع حتى يمر رجل ما بجوارهم، لا يتفادوا احتكاك محتمل لأنه لن يحدث احتكاك، مرفوعات الوجه فعليا. لسن مثلنا نضع نظراتنا في الأرض عابسات في وجه المارة حولنا حتى نحافظ على أنفسنا من التحرش أو السخافة بكلمة ما. شاهدت فتيات يرتدين الشورت أو الفستان وهن على دراجاتهن، في البداية كنت أتلفت حولي لأراقب نظرات الرجال.. هل سينظرن إلى سيقانهن.. الغريب أنه لم يحدث أي رد فعل حولهن.. كانت الفتيات تمر أمامي ببساطة وثقة حسدتهن عليها وتفكرت أن الفارق بيننا وبينهن الكثير جدا.

ذات مرة كانت تعبر الطريق فتاة جميلة وكنت أنا وصديقي ننتظر صديق ثالث في ميدان الدقي. فعلقت أنها جميلة فقال: “يبدو أنها غير مصرية بنسبة كبيرة” فسألته لماذا؟ ما دليلك؟ فقال لي:” بصي على مشيتها.. مش خايفة وبتبص قدامها عادي”.

الأعراف والتقاليد في الريف تُعطي الرجل حق الامتلاك للأراضي والبيوت والحيوانات، وكذلك أن تكون له سلطة مُطلقة في قرار زواج بناته. وفي كثير من الأحيان يتسبب ذلك في الزواج المبكر بجانب الإصرار على الختان والتسريب من التعليم ونفسيا ومعنويا يُفضل ابنه الذكر على الإناث. حتى في حصصهن من الطعام، فالولد والشاب يحوز على النصيب الأكبر من البروتين والخبز والفاكهة. فتصبح الجملة هكذا أكثر واقعية: الأعراف والتقاليد تُعطي الرجل حق الامتلاك للأراضي والبيوت والحيوانات والنساء

(1)

اليوم هو اليوم العالمي للاحتفاء بالمرأة وبإنجازاتها وبالنماذج التي تؤثر في حياتنا بدء من المرأة الريفية البسيطة والعاملة في المصنع. إلى الحقوقيات اللاتي يحاربن يوميا من أجلنا وإلى سيدات الأعمال والساسة.. يعني هذا اليوم معمول عشان نتذكر أن دورنا مهم وأننا قويات وفاعلات في مجتمعاتنا ومنتجات ومبدعات ولازم نكمل في المطالبة بحقوقنا وأولها الحق في المساواة والحرية ونبذ العنف..

منذ أكثر من أسبوع خرج علينا الشيخ علي الطيب شيخ الأزهر بفتوى “حق الكد والسعاية” وقال إن المرأة لها حق النصف في ثروة زوجها في حالة الوفاة والطلاق وليس الثُمن فقط. وذلك في حالة أن كانت تعمل مثله، حسنا، استند فضيلة الشيخ في هذه الفتوى إلى واقعة حدثت في أيام خلافة عمر بن الخطاب. حين قضى بين امرأة وطليقها باقتسام الثروة لأنها كانت تعمل بالغزل في المنزل بينما يقوم الزوج بالتجارة.

الدكتور أحمد الطيب

(2)

لو أردنا تقييم وضع المرأة المادي والصحي والحقوق والعمل فهناك عدة أرقام صادرة عن جهات رسمية قد لا تمثل الواقع حقا. ولكن هي كل ما لدي لأرجع إليه حين أفكر في تلخيص وضع المرأة في أرقام، هذه هي الأرقام التي وصلت لها:

-في نهاية عام 2019، أعد مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء تقريرًا بالأرقام عن وضع المرأة المعيلة في مصر. جاء فيه أن من أكبر المشكلات عدم استطاعة السيدات المعيلات الإنفاق على صحتهن، وعدم وجود دخل كاف لهن. وأخيرًا سكن بعضهن في أماكن لا توجد بها خدمات أساسية مثل المياه والصرف الصحي، ما يصعب من مسؤولياتهن.

نسبة كبيرة من هؤلاء المعيلات دخلهن لا يكفي الأسرة ما ترتب عليه خروج بعض الأبناء من التعليم نتيجة قلة الدخل. كما أن أغلبهن غير متعلمات، وبالتالي تقل فرص العمل لديهن في القطاعات الرسمية لأن قدرات بعضهن محدودة.

المرأة الريفية تلعب دورا مهما في تعزيز التنمية الزراعية والريفية
المرأة الريفية تلعب دورا مهما في تعزيز التنمية الزراعية والريفية

– من المعروف رسميًا أن هناك 33% من الأسر المصرية تُعيلها 18% من النساء، سواء في وجود زوج أو عدم وجوده. و41% من إجمالي العمالة غير الزراعية من الإناث، وأخريات يعملن في وظائف غير رسمية و34% من عمالة الإناث في أعمال هشة. كما أن 6.7% يعملن في قطاع الصناعات، و36.4% من الإناث يعملن في الزراعة و56.8% يعملن في القطاع الخدمي. وتمثل المرأة المصرية 70% من القوى العاملة في قطاع الرعاية مدفوعة الأجر.

-مع جائحة كورونا صدر تقرير عن المجلس القومي للمرأة بعنوان: “رصد السياسات والبرامج الداعمة للمرأة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد”. أوضح أن النساء تشكل نحو 42.4% من الأطباء البشريين و91% من طاقم التمريض الذين يعملون بالفعل في وزارة الصحة، و73% من طاقم التمريض في المستشفيات والمرافق العلاجية في القطاع الخاص. وأشار التقرير إلى أنه من المرجح أن تتعرض النساء اللاتي يعملن في القطاع الصحي للفيروس وتعرضهن للضغط هائل لتحقيق التوازن بين عملهن بأجر والأدوار الأخرى بغير أجر.. وشكل أيضًا عبئًا على العاملات بشكل عام خاصة مع توقف الدراسة وعدم وجود دعم ورعاية للأبناء أثناء تواجد الأم في عملها.

-يشير الدليل الصادر عن البنك الدولي بعنوان قضايا الجنسين في الزراعة إلى “أن قوة إنفاذ القانون الرسمي أضعف من الأعراف والتقاليد في المناطق الريفية. ويلاحظ أن القانون الرسمي يتناول أساساً المشاكل الحضرية وينص على حلول حضرية ويترتب على انتشار مصادر السلطة المحلية آثار على إعمال حقوق المرأة في المناطق الريفية. بمعنى أنـه يمكـن أن يحرمها من قدرتها على المطالبة بحقوقها وتحدي مصادر السلطة”.

وبالطبع فالأعراف والتقاليد في الريف تُعطي الرجل حق الامتلاك للأراضي والبيوت والحيوانات، وكذلك أن تكون له سلطة مُطلقة في قرار زواج بناته. وفي كثير من الأحيان يتسبب ذلك في الزواج المبكر بجانب الإصرار على الختان والتسرب من التعليم ونفسيا ومعنويا يُفضل ابنه الذكر على الإناث. حتى في حصصهن من الطعام، فالولد والشاب يحوز على النصيب الأكبر من البروتين والخبز والفاكهة. فتصبح الجملة هكذا أكثر واقعية: الأعراف والتقاليد تُعطي الرجل حق الامتلاك للأراضي والبيوت والحيوانات والنساء.

– تقول الأمم المتحدة من خلال الاحصائيات التي أغلبها لا يعبر عن الواقع، أن وضع المرأة أسوأ بكثير في الدول العربية عن باقي دول العالم. فعلى سبيل المثال فقد ذكر البيان أن هناك 200 مليون فتاة قبل سن الخامسة تم تشويه اعضائهن التناسلية في العالم. حسنا في مصر وحدها تبلغ نسبة الفتيات اللاتي تعرضن للختان 92% بين الـ15 والـ49 من عمرهنّ، – تعداد مصر السكاني 103 مليون نسمة- ولكن حمدا لله فآخر الإحصائيات. تشير إلى أنّ نسبة الختان انخفضت 13% عند الفتيات بين 15 و17 عاماً مقارنةً مع العام 2008. أمّا فيما يتعلّق بالعنف المنزلي، فامرأة واحدة من كلّ 4 نساء في مصر يعنّفنَ من قبل زوجهنّ وفق التقرير الأخير مركز المصري لحقوق المرأة. وإحصائية أخرى تقول يصل عدد حالات الاغتصاب سنويا إلى أكثر من 200 ألف سيدة، وفقا للمركز المصري لحقوق المرأة.

(3)

إذن فالمرأة تُنتج وتُعيل وتشارك ربما أكثر من الرجل في بعض القطاعات، سواء زوجة أو مطلقة أو أرملة. تعاني من قلة الرعاية الصحية وهي الأكثر عرضة لسوء التغذية والفقر وتدهور صحتها أكثر من الرجل. معرضة للتحرش والعنف والاغتصاب والطلاق الغيابي والتشرد بأطفالها في الشارع. وبالرغم من كل هذا لا نزال نتحدث في بديهيات، كل ما نريده هو المساواة في قانون الأحوال الشخصية وقانون العمل. لا نريد فتاوى لن يأخذ بها الرجال، فالرجال يصفقون للفتاوى التي تمنحهم حقوقا ويهاجمون أو يتجاهلون فتاوى تمنح للمرأة حقوقا ومساواة معهم مثل فتوى “حق الكد والسعاية”. نحن لا نريد فتوى أو رأي أو كلام مُرسل، نحن نريد قانون به بنود واضحة وقوية.

قانون الأحوال الشخصية الحالي يرتكز ظاهريًا على الشرع والدين، على الرغم من أن الكثير من بنوده ليست من الشرع، فليس من الشرع ألا يُوثق الطلاق الشفهي. فلا تستطيع المطلقة الزواج مرة أخرى؛ لأنه غير موثَّق ولا تستطيع الاستمرار في الزواج؛ لأنها -شرعًا- باتت محرمة. أو أن يرجع الزواج في قرار الطلاق استنادًا لحالته النفسية أو العصبية وقتها. حيث إنه “كان متعصب شوية” أو “ساعة شيطان”، وكذلك يمنح الرجال امتيازًا بلا مبرر. وهو الطلاق الغيابي الذي يجعل من الزوجة لعبة في يد زوجها، يطلقها متى أراد ويرجعها لعصمته دون أن تعرف أو يؤخذ رأيها في الرجعة. وكذلك في حالة الطلاق؛ فالولاية على الأطفال في يد الزوج، وهي أيضًا ورقة ضغط في يد الأب. ويكون ضحيتها الأبناء ومستقبلهم ودرجة ومستوى تعليمهم، أيضا حين تتزوج المطلقة مرة أخرى تذهب عنها حضانة الأبناء. بلا اعتبار لنفسية الأطفال، وكأنَّ الأم تُعاقب؛ لأنها تزوجت مرة أخرى.

الزوجة لا تستطيع السفر إلا بإذن زوجها ولا تستطيع اصطحاب أحد أبنائها معها في السفر إلا بإذن الأب. وكأنها بلا أهلية قانونية لنفسها أو لأبنائها.

نريد قانون ينصف المرأة سواء زوجة أو مطلقة، تعمل أو بلا عمل، قانون يحميها من الافتراء والتحرش ويمنحها حق الولاية على أطفالها حتى وهي لا تزال زوجة. فمن حقي أن اصطحب طفلي معي في السفر، وأن استخرج له شهادة ميلاده لو زوجي خارج البلاد. فهي ليست عاهرة تحاول الصاق نسب طفلها لرجل ما، أن يمنحني القانون بندا قويا حتى يُعاقب المتحرش والمغتصب بأقصى عقوبة. وأن يتم دعم الفتيات في اقسام الشرطة وليس تخويفهم من رجال الشرطة بأنهن سيُفضحن والمسامح كريم. ننتظر قانون يمنع الطلاق الشفهي وسرعة توثيق الطلاق كتابيا عند المأذون وتغريم من يتأخر. وإعلام الزوجة بالطلاق يُلزم به المأذون ويُعاقب في حالة تخاذله عن إعلام الزوجة. نريد قانون يمنح الزوجة العاملة التي شاركت في تأسيس وتأثيث بيتها نصف ثروة الزوج، فهو صنع هذه الثروة بمشاركتها. عملها في المنزل أيضا لا بد أن يمنحها جزءا من الثروة، فالأعمال المنزلية لا تحتسب ولا يعتبرها الرجال عملا “انتي قاعدة ف البيت بتعملي إيه يعني؟”. أريد قانونا يلزم الأب والزوج بمتابعة حالة الابنة/الزوجة الصحية كل عام، ننتظر قانون حاسم فيم يتعلق بضرب الزوج لزوجته. فنحن لسنا في غابة ونحن لسن أشياء يؤدبها الزوج أو الأب، فالقانون يجب أن يكون متحضرا مدنيا، يساوي بين الطرفين.. نريد شارع آمن وقانون عادل ومُفعل.. ليس الأمر مستحيلا.