سُجل الخامس من مارس الجاري باعتباره تتويجًا رسميًا وتطبيقًا فعليًا لثمار نضال استمر سنوات طوال، إلى أن اعتلت إحدى النساء. وهي هنا المستشارة رضوى حلمي أحمد علي، كأول قاضية تجلس على منصة المحكمة الإدارية (مجلس الدولة)، التي كانت عصية على المرأة ولأجلها أخذ الكفاح أشكالًا عدة، ما بين المطالبات والدعاوى القضائية وحملات الدعم التي قادتها مصريات رفعن شعار “المنصة حقها”، حتى تمت الاستجابة لهن.

النساء على منصة مجلس الدولة

منذ 76 عامًا وتحديدًا في 1946، تم تأسيس مجلس الدولة كجهة قضائية مستقلة تختص دون غيرها بالفصل في المنازعات الإدارية. بالإضافة إلى منازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه. ويختض مجلس الدولة أيضًا بالفصل في الدعاوي والطعون التأديبية. كما يتولى وحده الإفتاء في المسائل القانونية للجهات التي يحددها القانون. وكذا مراجعة وصياغة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية. فضلًا عن مراجعة مشروعات العقود التي تكون الدولة أو إحدى الهيئات العامة طرفًا فيها “.[1]

منذ تاريخ تأسيسه، لم تشهد منصة المجلس تولي قاضية واحدة. كان ذلك توجهًا عامًا رافضًا لمشاركة النساء في المجلس. رغم أن القانون المصري لا يحظر عمل النساء في القضاء. وقد اتبعت النهج نفسه النيابة العامة منذ تسمية أول نائب عام مصري عام 1881. هي أيضًا لم يكن يسمح للمرأة أن تكون جزءًا من تكوينها.

حقوق النساء في القضاء.. حينما تتوفر الإرادة السياسية

لم يكن هذا الوضع ليتغير إلا بإرادة سياسية حقيقية ومن أعلى رأس السلطة في مصر. وهو ما حدث في يونيو 2021، حينما أعلن رئيس الجمهورية عبد الفتاح السّيسي عن التوجيه ببدء تعيين النساء في مجلس الدولة والنيابة العامة. وقد فُعل العمل بهذا التوجيه بدايةً من العام القضائي (أكتوبر 2021). ذلك ضمن حزمة قرارات أخرى متعلّقة بالتنظيم القضائي الداخلي، شملت:

– بدء عمل العنصر النسائي في مجلس الدولة والنيابة العامة اعتبارًا من 1 أكتوبر 2021.

– اعتبار الأول من أكتوبر كل عام يومًا للقضاء المصري.

– توحيد المستحقات المالية بين الدرجات المناظرة في الجهات والهيئات القضائية الأربع.

– عدم تكرار أسماء المقبولين للتعيين في الجهات والهيئات القضائية. وذلك اعتبارًا من خريجي دفعة عام 2018 بالنسبة لمجلس الدولة والنيابة العامة. ومن خريجي دفعة 2013 بالنسبة لهيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.

– إمداد هيئة قضايا الدولة بأسباب عدم قبول طالب التعيين في الوظائف القضائية لتقديمها إلى جهة القضاء في الدعاوى المنظورة.

– عدم تكرار ندب العضو القضائي الواحد في أكثر من جهة -عدا وزارة العدل- مع وضع سقف زمني لمدة الندب.

– الموافقة على إنشاء مدينة العدالة بالعاصمة الإدارية. وعلى كل جهة وهيئة قضائية موافاة وزارة العدل بطلباتها.[2]

النساء على منصة القضاء.. نضالات عقود تجني ثمارها

على مدار عقود طويلة لم تتوقف النساء المصريات عن المطالبة بحقوقهن المشروعة في تولي المناصب القضائية. ورغم أن القانون المصري لم يحظر تعيين النساء في تلك المناصب إلا أن مجلس الدولة كان يرفض دائمًا أن تكون النساء جزءًا منه. ونتيجة لهذا الوضع شهد تاريخ الحركة النسوية المصرية العديد من التحركات من أجل تمكين النساء من تلك المناصب.

كانت أولى هذه النضالات للرائدة عائشة راتب التي شغلت لاحقًا منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية، وكانت أول سفيرة في تاريخ مصر، والتي تقدّمت بدعوى قضائية لتمكينها من التعيين كقاضية في مجلس الدولة. لكن ردعوتها رُفضت عام 1952.

اقرأ أيضًا: ما لم يستطيعه عبد الناصر

عائشة راتب
عائشة راتب

قالت المحكمة -في حيثيات حكمها حينها- إن “قصر بعض الوظائف كوظائف مجلس الدولة أو النيابة أو القضاء على الرجال دون النساء لا يعدو هو الآخر أن يكون وزنًا لمناسبات التعيين في هذه الوظائف، تراعي فيه الإدارة بمقتضى سلطتها التقديرية الاعتبارات شتى وأحوال الوظيفة وملابساتها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد”. وقال رئيس الوزراء حينها إن “تعيين المرأة في القضاء ضد تقاليد المجتمع”.[3]

استمر هذا الوضع من الإقصاء والتمييز ضد النساء داخل أهم الهيئات المنوط بها تحقيق العدالة ما بين المواطنين والمواطنات. وفي عام 2010 أصدرت للجمعية العمومية لمجلس الدولة قرارًا يؤكد استمرار منهج رفض تولي النساء. إذ رفضت الجمعية العمومية للمجلس، بغالبية ساحقة، تعيين المرأة قاضية. وذلك ردًا على قرار رئيس مجلس الدولة الأسبق محمد الحسيني فتح باب التعيين للإناث، لتندلع الأزمة داخل المجلس، ويتم وقف القرار بعد تصويت الجمعية العمومية برفضه. وكان ذلك انطلاقًا مما نصت عليه المادة 186 من لائحة مجلس الدولة. وتنص على أنه “لا يجوز اتخاذ أي إجراءات بشأن تعيين أعضاء في مجلس الدولة على خلاف رأي الجمعية العمومية للمجلس”.[4]

ثورة يناير وتمكين النساء

في أعقاب ثورة 25 من يناير 2011، ارتفعت وتيرة نضالات الحركة النسوية المصرية. وكذلك ارتفعت الأصوات المطالبة بتمكين النساء من كافة المناصب في الدولة كجزء لا يتجزأ من تحقيق العدالة والمساواة ما بين الجنسين. وقد أسفرت تلك الجهود خلال إعداد الدستور المصري عام 2014. فنصت المادة 11 على “تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق، وكذلك تكفل للمرأة حقها في تولّي الوظائف العامة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية من دون تمييز ضدها”.

إلا أن اعتراف الدستور بحق النساء في التعيين داخل الجهات القضائية في الواقع العملي لم يسفر عنه تغيير في توجه مجلس الدولة نحو رفض تعيين النساء. ففي العام نفسه تقدمت أمنية جاد الله، بعد أن حصلت على “ليسانس الحقوق” عام 2013 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، لشغل المنصب القضائي في مجلس الدولة، أسوة بزملائها من الخرّيجين. وذلك بناءً على إعلان رسمي صادر عن المجلس بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2014.

“المنصة حقها”.. في وجه رفض النساء في القضاء

وفي الموعد المحدد، سحبت “أمنية” ملف المجلس لشغل وظيفة مندوب مساعد في مجلس الدولة. لكنها فوجئت بتجاهل طلبها و20 من طلبات تخصّ زميلاتها. لم يُسمح لهن كخرّيجات بتقديم الأوراق التي تقدّمن بها. ذلك على عكس الخرّيجين الذكور الذين لم يواجهوا أي مشاكل. وهو الوضع الذي دفع أمنية جاد الله إلى تأسيس مبادرة “المنصة حقها”.

و”المنصة حقها” مبادرة حقوقية توعوية تهدف لدعم الفتيات ومكافحة التمييز. فيما يتعلق بقضية حرمان المرأة المصرية من تولي القضاء.[5]

ومن خلال تلك المبادرة سلكت الدكتورة أمنية، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر ورفيقاتها، العديد من الطرق من أجل الاعتراف بحق النساء في تولي المناصب القضائية. ورفعت أمنية وزميلاتها دعاوى قضائية للحصول على حقوقهن. لكن للأسف الشديد خسرن الدعوى الأولى في عام 2017. [6]

أمنية جاد الله
أمنية جاد الله

مؤسسة مبادرة “المنصة حقها” منذ بدايتها لديها موقف معلن بأهمية اعتلاء المرأة المنصّة في كل المؤسسات القضائية بلا تمييز، كالرجال تمامًا. لما في ذلك من أهمية تعزيز سيادة دولة القانون. فضلًا عن ترسيخ مفهوم الحيادية والاستقلال للسلطة القضائية، والتزامها بنصوص الدستور والقانون، الذي أقسم أعضاؤها على احترامه وإعلاء شأنه.[7]

وقد تقدمت المبادرة بثلاث دعاوى قضائية وخمسة طعون ضد مجلس الدولة. ذلك من أجل تمكين النساء من المناصب القضائية. وكان آخر هذه الدعاوى عام يونيو 2021، حيث تقدمت الحملة بدعوى للقضاء الإداري تطعن على قرار مجلس الدولة الصادر في 14 مارس 2021، بقصر التقديم للدفعة الاستثنائية بمجلس الدولة على أعضاء هيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة. ما عني إقصاء المحاميات وعضوات هيئة التدريس من القرار. وقد اختصمت الدعوى رئيس الجمهورية، ووزير العدل، ورئيس مجلس الدولة. وتم قيدها برقم 51786 لسنة 75 قضاء إداري.

تضامن واسع مع حق النساء في المناصب القضائية

خلال رحلة الحملة، كان لمبادرة “المنصة حقها” أثر اجتماعي كبير فيما يتعلق بدعم النساء لتولي المناصب القضائية. ففي عام 2017 أعلن 122 حزبًا ومنظمة وجمعية أهلية، إلى جانب شخصيات عامة، التضامن الكامل مع أمنية جادالله مؤسسة المبادرة في أحقيتها في التعيين بمجلس الدولة كمندوب مساعد.

كان ذلك في شهر نوفمبر، حينما قال الموقعون على بيان مشترك، إن هذه القضية تمثل خطوة جديدة على طريق نضال النساء من أجل حصولهن على حقوقهن، في مواجهة تعنت بعض الهيئات القضائية في مصر، وإصرارها غير المبرر على عدم حصول النساء على هذا الحق. وهو موقف يتناقض مع مبدأ المساواة بين النساء والرجال وفقًا للمادة (53) من الدستور.[8] لينتهي هذا الوضع ببيان صادر عن مجلس الدولة يوم الخامس من مارس 2022، قال فيه المستشار محمد حسام، رئيس مجلس الدولة، إنه لأول مرة منذ 75 عامًا تجلس المرأة على منصة قضاء مجلس الدولة، وتكون شريكة تحقيق العدالة الإدارية.[9] في اعتراف صريح بهذا الحق الذي ناضلت النساء لأجله عقودًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] https://www.ecs.eg/ مجلس الدولة المصري

[2] https://www.youm7.com/story/2021/6/2/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A8%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%89-%D8%A8%D8%AF%D8%A1-%D8%B9%D9%85%D9%84/5340908

[3] https://www.independentarabia.com/node/309021/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D9%86%D8%B5%D8%A8-%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D9%86%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%8A

[4] https://www.youm7.com/story/2010/3/1/%D8%B9%D9%85%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D9%81%D8%B6-%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D9%82%D8%A7%D8%B6%D9%8A%D8%A9/195633

[5] https://www.facebook.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B5%D8%A9-%D8%AD%D9%82%D9%87%D8%A7-Her-Honor-Setting-The-Bar-277991102857130/about

[6] https://www.lahamag.com/article/142859-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B5%D8%A9-%D8%AD%D9%82%D9%87%D8%A7-%D8%B5%D8%B1%D8%AE%D8%A9-%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%8A%D9%8A%D8%B2

[7] https://www.lahamag.com/article/142859-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B5%D8%A9-%D8%AD%D9%82%D9%87%D8%A7-%D8%B5%D8%B1%D8%AE%D8%A9-%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%8A%D9%8A%D8%B2

[8] https://www.alaraby.co.uk/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%85%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%84%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%A8-%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9

 

[9] https://www.elwatannews.com/news/details/5979493