الأجيال الصاعدة في مصر لا تعرف يوم الاستقلال المصري 15 مارس 1922م. في حين يقرؤون عن يوم الاستقلال الأمريكي ويعرفه طلاب المدارس الأجنبية في مصر. فهل نحن نعرف تاريخ مصر الحقيقي؟

في حقيقة الأمر إن تاريخ مصر لا يعرفه المصريون. بل يعرفون قشورا منه. بدءا من فكرة استسلام المصريين في أعقاب الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م. دونما مقاومة لهذا الاحتلال إلى نجاح مصر في إصدار عملة وطنية في عام 1898. والذي صاحبه محاولة حقيقية لاستقلال مصر رفضها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بدعوى أن إرسال جنود عثمانيين لمصر ليحلوا محل الإنجليز سيعودون بعدها ليكونوا ضد دولة الخلافة في وقت كانت القاهرة أكثر تحررا. وبها حراك ثقافي وفكري عن إسطنبول. إلى نظرة الطبقة السياسية المصرية لإصلاحات اللورد كرومر الإدارية في الدولة كمنجز كانوا يسعون له من عهد الخديو إسماعيل.

كانت مصر نتيجة البعثات وعودة المبتعثين تعج بمناقشات في الصالونات حول المقارنة بين مصر وأوروبا. وكيف تلحق مصر بركب التقدم. ثم جاء انتشار التعليم ولو حتى بصورة نسبية ليخلق وعيا مختلفا. فكانت النخبة المصرية والتكنوقراط المصريون الوطنيون يحاولون جاهدين بث الحداثة في مصر.

وأصبح الصوت عاليا مع انتشار الصحافة في مصر حول سلطة الخديو المطلقة وخلط ماليته بمالية الدولة. وأصبح الصوت عاليا للحد من استحواذ المغامرين الأجانب على امتيازات ومنح من الحاكم على حساب المصريين. فكان مجلس شورى النواب ومجلس النظار ثم الحديث العلني عن مأسسة الدولة.

كان الاحتلال الإنجليزي لمصر احتلالا لدولة بها نخب متعلمة، وتكنوقراط، وصحافة، ورأسمالية تركية مصرية. وهؤلاء لم يستسلموا بل كانت هناك حركات مقاومة. حتى إن الحزب الوطني الذي كان الظهير السياسي للثورة العرابية حل علنا. لكنه ظل يعمل في السر تحت الأرض.

هذا ما جعل ثورة مصر في 1919م حدثا ليس وليد المصادفة. فسعد زغلول الذي قاد هذه الثورة كان عضوا في الحزب الوطني الحر ومن ثم ذهب هو إلى بناء مجموعات تعمل حوله على مدى زمني طويل. وستجد تركيزه على تجديد دم هذه المجموعات بصورة مستمرة. لذا كونت مجموعاته الطبقة السياسية لمصر حتى ثورة يوليو 1952م. هذا ما يعكس بعد نظره.

على جانب آخر كانت الحركة العمالية المصرية لديها الوعي بحقوقها التي أخذ الوعي بها يتنامى. فكان أول إضراب عمالي في مصر عام 1903. والثاني عام 1908 ثم إضراب عمال السكة الحديد 1910م.

هذا الوعي العمالي كان مقدمة لظهور اليسار المصري وأحزابه. فكان الحزب الاشتراكي 1918/1919 ليختفي سريعا ثم الحزب الديمقراطي 1919 ثم الحزب الاشتراكي 1921م.

كان إعلان الحماية البريطانية على مصر مع الحرب العالمية الأولى حاسما في فصل تبعية مصر عن الدولة العثمانية. ليثار تساؤل وحوار وطني حول مصر. كان ممهدا لاستقلال مصر بعد ذلك. حتى إن الطبقة الرأسمالية المصرية من كبار الملاك لم تجد مصالحها إلا بالتحالف مع الوطنيين الذين كانوا يتهمون بأنهم ذوو ميول عنيفة أو حادة. ليشكلوا جميعا الوفد الذي يعبر عن رغبة مصر في الاستقلال الوطني. هذا الاستقلال الذي اضطرت بريطانيا للإعلان عنه في 28 فبراير 1922. لكن في حقيقة الأمر أن الملك أحمد فؤاد الثاني رأى بحسه الوطني أن قبول هذا التصريح في ذات اليوم يشكل أزمة لمصر مع رفض جموع الحركات السياسية في مصر له. ثم أعلن الملك في 15 مارس 1922م. صاحب هذا الإعلان افتتاح سفارات لمصر في لندن وباريس وواشنطن وموسكو. وهذه العواصم طبقا للرؤية المصرية هي مراكز الثقل في العالم آنذاك.

غيرت مصر العلم والنشيد الوطني وأخذت ثوبا جديدا مع تحفظات بريطانيا في إعلان 28 فبراير واعتراض مصر عليه. كان الاستقلال منقوصا فكانت المفاوضات شاقة حتى عام 1936م. تخلصت مصر بموجبها من القوات الإنجليزية في القاهرة. وخرج الإنجليز من ثكنات قصر النيل والعباسية إلى قناة السويس. تخلصت مصر بموجبها تدريجيا من المستشارين الأجانب وسطوتهم في الجهاز الحكومي. فضلا عن مفاضات شرسة لإلغاء الامتيازات الأجنبية. وبالتالي إلغاء القضاء الأجنبي في مصر. والذي كان يمس السيادة الوطنية.

بدأت مصر في بناء جيش وطني لأول مرة منذ عام 1882م. والذي فتح الباب للطبقة الوسطى. فكان جمال عبد الناصر وأنور السادات ضباطا في الجيش المصر بسبب معاهدة 1936م. وبغض النظر عن صعود وأفول شمس الديمقراطية في مصر ومحاولات الإنجليز فرض سطوتهم. فالحقيقة أن مصر كانت تمارس درجة عالية جدا من الاستقلال السياسي الذي صاحبه عدد من الخطوات التي دعمت هذا الاستقلال. منها:

أدرك المصريون أن المواصلات والاتصالات هما محركان أساسيان للمستقبل. لذا أنشئت وزارة المواصلات والاتصالات وشيد لها بناية في شارع رمسيس على أحدث الطرز المعمارية ما زالت باقية إلى اليوم. وخصصت لها موازنة لتنفيذ خطط التحديث والتطوير.

كان التعليم هدفا للتقدم لذا تم مضاعفة عدد المدارس في مصر منذ ذلك التاريخ حتى حصول المصريين على مجانية التعليم مع حكومة الوفد في 1950 مع طه حسين. مع إنشاء جامعات مصرية في الإسكندرية والشروع في بناء جامعة أسيوط في الصعيد. والبدء في استصلاح الأراضي البور في شمال الدلتا وتمليكها في المنطقة من دمياط لكفر الشيخ لصغار المزارعين.

الاستقلال الاقتصادي مع إنشاء بنك مصر لتعزيز دور المصريين في اقتصادهم. ثم ظهور مصنعين مصريين وطنيين قدما نماذج ناجحة مثل “ياسين” الذي أسس مصانع للزجاج وغيره.

كانت معركة الاستقلال الاقتصادي هي المعركة الأهم بالنسبة للمصريين في ظل سيطرة أجنبية ظاهرة على مفاصل الاقتصاد الوطني. خاصة التجارة الداخلية وحركة التصدير والاستيراد. وهي التي كانت تدر أرباحا طائلة آنذاك. ثم كان تخصيص جزء كبير من الدخل الوطني لسداد الدين الخارجي. والذي كان ذريعة التدخل في شؤون مصر ثم احتلالها في عام 1882م. لذا كان تصفية هذا الدين هدفا لمصر آنذاك.

تسبب الدين العام في نزيف لإيرادات مصر وإعادة تصديرها للخارج. بلغ الدين الذي ورط فيه الخديو إسماعيل مصر 76 مليون جنيه مصري. دفعت عليه فوائد 245 مليون جنيه. وكان صندوق الدين الذي أنشئ من قبل الدول الدائنة والحكومة المصرية والذي لم يكن يسعى جديا لتصفية الدين. بل استثمر في أذون الخزانة البريطانية. وفي عام 1940 نجحت مصر في إلغاء صندوق الدين وتصفية الدين الخارجي ليتم ضخ أموال في موزانات التعليم والصحة والمرافق في مصر.

هنا لا بد أن نسأل: لماذا احتلت بريطانيا مصر؟

كان هناك قلق أوروبي -وبصفة خاصة بريطانيا- من نمو مصر العلمي والاقتصادي وطموح حكامها السياسي. حيث امتدت حدود مصر لأوغندا على حدود المستعمرات البريطانية. ومنها كينيا. فضلا عن رصد الإنجليز نمو وعي وطني مصري من التكنوقراط الذين سعوا للحد من الموظفين الأجانب في الدولة. كذلك كانت الصحافة في عصر الخديو إسماعيل. كانت بريطانيا تقيم الوضع في مصر والأصوات تتعالى بحكومة على غرار الحكومات الأوروبية. فلو تأخر الاحتلال البريطاني سنوات قليلة كان سيصعب على بريطانيا وغيرها احتلال مصر. هذا ما تشير إليه العديد من الوثائق البريطانية التي سعت إلى تقاسم المصالح بينها وبين فرنسا في مصر.

لماذ منحت بريطانيا مصر استقلالها؟

كانت بريطانيا تدرك تماما أن الوضع لا يمكن أن يستمر في مصر على ما هو عليه. هناك متعلمون وحركات عنف ضد المحتل وإدراك شعبي بأن الاحتلال ليس له شرعية وأن المصريين قادرون على إدارة وطنهم. لذا كان الاستقلال بيد بريطانيا لا بيد المصريين أفضل. ووضع الإنجليز شروطا تضمن مصالحهم التي جرى تأكيدها في معاهدة 1936م. والتي حينما أدرك الساسة المصريون تغير موازين القوة بصورة نسبية عن ذي قبل ألغيت المعاهدة ليكون الطريق مفتوحا لخروج الإنجليز من مصر خاصة من منطقة قناة السويس.

لماذا الاستقلال كان منقوصا؟

أدرك المصريون آنذاك أن إعلان الاستقلال ما هو إلا مرحلة لطريق الاستقلال الذي يتطلب جهودا. منها إلغاء الامتيازات والديون وغيرها. ثم النهوض على المستويات كافة. كما أن إقليم قناة السويس مثل مع السودان مشكلة. لذا كانت حركة المقاومة الفدائية في القناة والتي لو استمرت لخرج الإنجليز من مصر مرغمين لكنهم أربكوا المشهد حتى لا يخرجوا.

لماذا تعثرت هذه المرحلة في تاريخ مصر من 1922 إلى 1952؟

تعثرت هذه المرحلة بسبب رغبة العرش في السيطرة على مقاليد الحكم. فكان أداء الملك فؤاد سلبيا بدءا من عام 1923 حين وضع الدستور. والذي كانت به مشكلات اعترضت عليها القوى الوطنية. ثم عدم إدراك الرأسمالية المصرية والعرش التحولات الناتجة عن انتشار التعليم في مصر ونمو وعي وطني متزايد بالحق في الثروة الوطنية. فضلا عن عدم بناء الوفد أكبر الأحزاب المصرية رؤية فكرية يعمل من خلالها وينشرها حتى يؤمن الناس بها.

نشأ حزب الوفد حزبا شعبويا من تحالف كتل مصرية متعددة. لكنه لم يكن له أذرع فكرية تنظر له وتخاطب الجماهير لكي تؤمن بالأفكار التي يطرحها. حتى في تعامله مع معاهدة “صدقي-بيفين” كان يستخدم الشعبوية أكثر من الحوار.

لذا حينما قامت حركة 23 يوليو في ظل تخبط العرش المصري في سياسته. ثم في تناطح الساسة على الكراسي. مع تراجع قدرة الوفد على بناء قاعدة صلبة خارج نطاق الرأسمالية والمتعلمين المتشيعين له. لم يجد حين حُل على يد الضباط الأحرار في الشارع من يدافع عنه. لكن يبقى هنا أن مصر كانت مستقلة وكان استقلالها حينئذ سببا في استقلال العديد من الدول ومنها الهند درة التاج البريطاني.