في خريف عام 2020، لاحظ طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة أن قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية يطرح مقررات جديدة ولافتة. إلا أن أبرزها على الإطلاق كانت مادة بعنوان “عائلة إبراهيم في القرآن والإنجيل” تقدمه البروفيسور إليزابيث كينيدي. التي تُظهر سيرتها الذاتية المنشورة على موقع الجامعة إلى جوار درجتها العلمية واهتماماتها الأكاديمية بعلوم الكتاب المقدس. إنها تجيد خمس لغات هي العربية والعبرية واليونانية والآرامية والألمانية إلى جانب الإنجليزية. بينما أكثر ما يلفت النظر إليها هو أن تلك السيرة الأكاديمية مصحوبة برتبة كنسية حيث تخدم كينيدي كقسيسة بأحد الكنائس البروتستانتية الأمريكية.

لم يكن طلاب كينيدي يتوقعون إجادتها للغة العربية إلى هذا الحد، فقد اعتاد طلاب الجامعة الأمريكية على أساتذة أجانب ينطقون العربية بحروف مكسورة. وهو ما غيرته كينيدي كليًا حين لفظت اسم أحد طلابها بنطق صحيح “عمرو محمد أحمد” بلا أي لكنات غربية. ثم بدأت محاضرتها الأولى تروي لطلابها سيرتها الذاتية وهي تعرض صورًا من الطفولة فتظهر فيها كطفلة شقراء وحيدة في مدرسة أردنية. حيث قضت طفولتها هناك فتعلمت العربية كأصحابها الأصليين. وتقول: “لم أشعر أبدًا بالغربة في الأردن فقد حصلت على التوجيهية أو الثانوية العامة من هناك. وعشت طفولتي بالكامل في الشرق إلا لحظات قليلة شعرت فيها بالخطر كحرب الخليج مثلًا. حيث كان أبي يقود سيارته بحذر بشعره الأسود فلا يكشف عن هويته الأمريكية بينما طلب منا أنا وأختي أن نختبئ فلا يرانا أحد وسط هذا العداء”.

البروفيسور إليزابيث كينيدي: دراسة الأديان تحتاج جرأة وشجاعة وانفتاح وقبول قد يكون بعض الطلاب غير مستعدين لها

كسر جبل الجليد

في بداية كل محاضرة تطرح كينيدي سؤالًا شخصيًا على طلابها كطريقة لكسر الجليد أو كجسر يربط بين الطلاب وبين أبطال حكايات القرآن والإنجيل. فإذا درست لهم هجرة النبي إبراهيم من بلاده تسأل الطلاب عن البلاد التي عاشوا فيها أو تركوها بالشكل الذي يجعل أبطال القصص الديني أحياء وحاضرون في قاعة الدرس. وهو التحدي الأكبر الذي يواجه أستاذة مقارنة الأديان في المجتمع المصري الذي صار متحسساً تجاه تابوهات الدين. وما تخلفه تلك النقاشات من عداء محتمل فتقول: “في تلك المساحة أوفر لطلابي مناخًا آمنًا للنقاش والتفكير النقدي يحتاجونه ليس فقط كطريقة لفهم الدين. بل لفهم أنفسهم والمجتمع الذي يعيشون فيه لنعيد طرح أسئلة عن الإيمان والله والوجود ونبحر عميقًا في تلك السرديات”.

بعد ثلاث سنوات من تدريس مقررات مقارنة الأديان تصبح إليزابيث كينيدي أحد أشهر الأساتذة في الجامعة الأمريكية فجميع فصولها كاملة العدد. يتسابق الطلاب على التسجيل فيها بعد أن نجحت في خلق تلك المساحة الآمنة التي سعت إليها. وهو الأمر الذي غاب عن تدريس “مقارنة الأديان ” في مصر كعلم غالبا ما يتم تدريسه في جامعات ومعاهد العلوم الدينية. كطريقة لتفنيد أو دحض أفكار الأخر وليس كنقطة للبحث عن نقاط التلاقي في الأديان الإبراهيمية.

“كنت أعمل كأستاذة في كلية اللاهوت الإنجيلية لسنوات طويلة وهي الكلية التي تخرج قساوسة للكنائس الإنجيلية في مصر” تقول كينيدي التي جاءت إلى مصر في نهاية التسعينات. لتبدأ رحلة التدريس مع زوجها أستاذ اللاهوت أيضًا ولكنها تفرق بين طريقتين للتدريس. موضحة: “في المعاهد الكنسية يلتزم الأستاذ بتقليد الكنيسة وأفكارها وعقيدتها بينما في الجامعة الأمريكية. فإن علوم الأديان تدرس كجزء من مقررات الآداب والفنون الليبرالية في قسم التاريخ باعتبار الأديان جزء من تاريخ العالم”.

وأكدت أن الجامعة لم تلزمها بطريقة محددة في التدريس مما فتح لها آفاقا واسعة.

دراسة الأديان تحتاج جرأة

“هذه المادة ليست لجميع الطلاب فإذا كنت غير متحمس أترك مكانا لغيرك” هكذا تكتب كينيدي ضمن إرشادات مقرراتها الأكاديمية. فهي تؤمن أن دراسة الأديان تحتاج جرأة وشجاعة وانفتاح وقبول قد يكون بعض الطلاب غير مستعدين لها. ولكنها في الوقت نفسه تؤمن أنها تتعلم من طلابها يومًا بعد يوم في رحلة مليئة بالشغف والعطاء والنقاش المستمر.

تقارن كينيدي في مقررها الشهير “قصة عائلة إبراهيم” بين سرديات مختلفة لقصص النبوة ففي كل أسبوع يكون على طلابها قراءة جزءا من سفر التكوين. حيث تدور أحداث قصة إبراهيم عليه السلام ونسله من الأنبياء مع دراسة ما يقابل تلك القصة في إنجيل لوقا ورسائل بولس الرسول. مع قراءة بعض من نصوص القرآن الكريم وقصص الأنبياء كجزء من التراث الإسلامي. ويكتب طلابها كل أسبوع ورقة عما رأوه في تلك السرديات من تشابه واختلاف. فتقول: “هناك الكثير من نقاط الاتفاق والتلاقي بين النصوص الإبراهيمية ولا نكتفي بالقراءة. بل نربط ذلك بتاريخ كتابة تلك النصوص وبالمجتمعات التي عاش فيها أبطال تلك الحكايات فيعودوا للحياة مجددًا فنقرأ قصص إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وسارة وهاجر ونبحر في عالم الشرق القديم”.

“تمنوا لي التوفيق، سأخدم اليوم كقسيسة في الكنيسة الإنجيلية وسأقدم درسًا من الكتاب المقدس” تقول كينيدي لطلابها وهي تستعد لارتداء قبعة القسيسة ليزا. حيث ينادونها في الكنيسة بهذا الاسم فتقف على المنبر لتقدم درسًا من الكتاب المقدس. بينما تتابعها عيون المصلين بشغف وانبهار بقوة حضورها ولغتها العربية السليمة وهي تقرأ من الكتاب المقدس فلا تخطئ في النحو. قائلة: “لم يتفق السنودس الإنجيلي في مصر على رسامة المرأة قسيسة. ولكن بعض الكنائس تقدم لي الدعوة للمشاركة في الصلاة والخدمة كقسيسة تمت رسامتها في الولايات المتحدة الأمريكية”.

 العذارى الجاهلات والحكيمات

الشهر الماضي كانت القسيسة ليزا قد أنهت محاضراتها في الجامعة صباحًا ثم ذهبت للصلاة وخدمة يوم الأحد. في الكنيسة الإنجيلية بالتجمع الخامس الملاصقة للجامعة. حيث قدمها راعي الكنيسة للحاضرين كقسيسة وأستاذة لمقارنة الأديان فقدمت درسًا عن قصة العذارى الجاهلات والحكيمات. أحد أشهر قصص العهد الجديد ثم اشتركت في خدمة التناول من الأسرار المقدسة وبعدها التف الحاضرون حولها. لاسيما النساء يسألن عن عربيتها السليمة وطريقتها البارعة في فهم الكتاب المقدس. فتجيب قائلة “التفاف النساء حولي يشعرني دائما بحاجتهن إلى وجود قسيسات وراعيات من النساء”.

ولا ترى إليزابيث في أدوارها المتعددة كأستاذة جامعية وقسيسة وزوجة وأم. أية بطولة فقط قلبها المفتوح وابتسامتها الشاسعة وانفتاحها على الجميع. يجعل منها نموذجًا فريدًا لسيدة غربية الملامح شرقية الهوى تفهم الدين كممارسة ومعاملة وليس طقوس وتقاليد.