– بسط الاحتلال البريطاني سيطرته المسلحة على مصر عام 1882م، لإخماد واحدة من أعظم ثورات الشعوب في القرن التاسع عشر هي الثورة العرابية 1881م، وهي ثورة وطنية كانت تواجه في وقت واحد: فساد وتحلل وترهل واستبداد الحكام من سلالة محمد علي باشا، كما كانت تواجه في الوقت ذاته أسوأ ماعرف القرن التاسع عشر من تدخل أوروبي وتغلغل ونهب منظم واستغفال للشعوب واستغلال ثرواتها حتى بات المصريون غرباء في بلدهم.

– ثم تحول الاحتلال إلى حماية -اللقب المهذب للاستعمار- في ديسمبر 1914 أي بعد ستة أشهر فقط من اندلاع الحرب العالمية الأولى واستمرت الحماية مفروضة على البلاد حتى وضعت الحرب أوزارها في 11 نوفمبر 1918.

– قبل أن تنتهي الحرب كان المصريون يفكرون في مستقبل بلادهم، وبالتحديد في استقلالهم عن بريطانيا، لهذا ما إن انتهت الحرب، حتى اتصل ثلاثة منهم يقودهم سعد زغلول، بالتنسيق مع الحكومة، بالمندوب السامي البريطاني في القاهرة، والتقوا به في 13 نوفمبر 1918، لعرض مطالبهم في الاستقلال، وهو المطلب الذي نظر إليه الإنجليز بعين الاستخفاف.

–  ثم في مارس 1919، وبعد أربعة أشهر من ذلك اللقاء، يقرر الإنجليز معاقبة سعد زغلول ومعه حمد الباسل وإسماعيل صدقي ومحمد محمود، فتندلع في عموم البلاد ثورة، هي المتمم والمكمل للثورة العرابية 1881م التي أرست مبدأ “مصر للمصريين”.

– بدأت الثورة عنيفة في شهرها الأول -شهر مارس- حيث كانت الغلبة فيها للفلاحين الذين كانوا وقودها المبارك، ثم في شهرها الثاني -شهر أبريل-  آلت مقاليدها لتحالف الأعيان من كبار الملاك مع ممثلي الطبقة الوسطى الناشئة من الأفندية، فانتقلت مبكرا من الريف إلى المدينة، ومن العنف إلى السياسة، ومن القوة إلى الاعتدال، وصار هدفها هو: كيف يمكن تحقيق الاستقلال دون الإضرار بمصالح الاستعمار؟!

– في 28 فبراير 1922م  أعلنت بريطانيا -من طرف واحد- أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، بما يوهم إلغاء الحماية، ولكنه في جوهره كان استقلالا محدودا جدا، إذ بقي محتفظا بجوهر الحماية  من حيث: احتفاظ بريطانيا بالحق في تأمين مواصلاتها الإمبراطورية في مصر، ثم احتفاظها بالحق في الدفاع عن مصر ضد أي غزو أو تدخل أجنبي، ثم احتفاظها بالحق في حماية الأقليات والمصالح الأجنبية، ثم احتفاظها بالانفراد بالسودان تحت المسمى الباطل الكاذب ” الحكم البريطاني – المصري المشترك”.

– تحت اسم الاستقلال، وتحت اسم إلغاء الحماية، احتفظ الإنجليز بمضمون الاحتلال وواقعه وأهدافه ووسائله طوال الفترة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين حيث: ألغى زعيم الأمة مصطفى النحاس في 8 أكتوبر 1951 اتفاقية 1936م ومعها اتفاقية 1889 بشأن السودان وهما الاتفاقان اللذان كانا يضفيان الشرعية القانونية على الوجود البريطاني في وادي النيل، ثم انطلق الكفاح الشعبي المسلح ضد القواعد البريطانية المسلحة في منطقة قناة السويس فور إلغاء الاتفاقية.

–  فشلت مساعي الحل السلمي، وفشل الجهاد التفاوضي، وفشلت النخبة الليبرالية بكاملها -الملك والوفد والأحزاب- فشلت فيما حرصت عليه من تناقض: كيف تحصل على الاستقلال عن بريطانيا ثم كيف تحافظ في الوقت ذاته على مصالح بريطانيا في مصر؟ بعبارة صريحة: كانت النخبة الوطنية على مدى أكثر من ثلاثين عاما تريد الحصول على الاستقلال مع استبقاء نواقضه في الوقت ذاته، كانت تريد الحرية وتستبقي قيودها في شكل جديد.

– هذا التناقض وضع نهاية الحقبة ونهاية الطبقة ثلاث مرات: مرة حين ألغى الوفد الاتفاقيات التي عقدها بنفسه فشهد على نفسه بالوصول إلى حائط مسدود، ثم مرة ثانية حين انصرف الناس عن الحلول التفاوضية إلى المقاومة المسلحة، ثم مرة ثالثة حين سقطت البلاد في هوة من الفراغ العميق السحيق ولم يتقدم لملئه غير تنظيم الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952.

– وفي 19 أكتوبر 1954م تقرر -للمرة الأولى- جلاء القوات البريطانية جلاء تاما عن الأراضي المصري في فترة عشرين شهرا، بشرط أن تقدم مصر تسهيلات لبريطانيا تمكنها من العودة لاستخدام القواعد العسكرية في منطقة قناة السويس في حال تعرضت مصر أو دول الدفاع العربي المشترك أو تركيا لعدوان مسلح، على أن يكون ذلك الاستخدام للقواعد العسكرية بعد مشاورات بين مصر وبريطانيا.

– وفي 13 يونيو 1956م كان جلاء الكتيبة الأخيرة من الإنجليز عن مصر، وفي 18 يونيو رفع الرئيس جمال عبدالناصر علم مصر على مبنى البحرية في بورسعيد، لتنتهي قصة الاحتلال العسكري الإنجليزي بعد 74 عاما من بدايتها في صيف 1882.

في السنوات العشر الأولى من القرن ال 21 رأيت – من واقع الخبرة والمشاهدات الصحفية – ما أعاد طرح مسألة الاستقلال الوطني على تفكيري.

رأيت أصابع الأمريكان -الاستعمار الثاني أو الاستعمار غير الأوروبي أو الاستعمار الجديد- تقريبا في كل مكان وفي كل مجال، في الحكومة والمعارضة، في الأحزاب والجمعيات، في العلمانيين والدينيين، في البيزنس والأعمال، في الصحافة والثقافة إلى آخره.

أكتفي هنا بذكر واقعتين كنت شاهدا عليهما:

– الواقعة الأولى في 2010 حيث كنت على موعد لإجراء مقابلة صحفية مع وزير في الحكومة، ولما وصلت وجدت السفيرة الأمريكية مارجريت سكوبي تغادر مقر الوزارة، وهي مثلت بلادها لدى مصر بين عامي 2008 – 2011، فلما التقيت الوزير قلت له: الواجب الصحفي يحتم أن أخبرك أني شاهدت السفيرة الأمريكية على الباب الرئيس لوزارتكم، أجاب: معنى هذا أنت تريد أن تعرف؟، قلت: نعم، قال: ولكن ليس للنشر، قلت: موافق، قال: الوزارة تجهز مسودة مشروع قانون للعرض على البرلمان، والأمريكان لهم ملاحظات على المشروع، لهذا جاءت السفيرة تناقشني فيها. قلت: هل لهذه المناقشات تأثير على مضمون التشريعات؟ قال: هذا يتوقف على موقف الرئيس شخصيا.

هنا، قلت للوزير : مطالب الأمريكان هي مطالب قوى عظمى من حلفائهم الأضعف، وحكيت له ما حدث مع سعد زغلول في وزارته الأولى ( يناير – نوفمبر 1924) حيث شكل أول حكومة في ظل الاستقلال الشكلي الذي منحه الإنجليز لمصر في 22 فبراير 1922م، وبعد دستور 1923،، وبعد الثورة العظيمة في 1919، وخلاصة ما حدث مع سعد زغلول في مواجهة الأنجليز هو: أنه بصفته رئيس الحكومة وصاحب الأغلبية البرلمانية والزعيم الأقوى صاحب الشعبية غير المسبوقة في تاريخ مصر المعاصر أراد تعديل قانون كان قد صدر قبل تشكيل حكومته، كان اسمه قانون تعويضات الأجانب، الموظفين الأجانب الذين يتم الاستغناء عن تعاقداتهم مع الحكومة المصرية، حيث كان القانون يجزل لهم العطاء بصورة مبالغ فيها لا تتناسب لا مع مؤهلاتهم ولا وظائفهم ولا حتى مع إمكانات المالية المصرية، والذي حصل هو أن رئيس الوزراء البريطاني في ذاك الوقت رامزي ماكدونالد رفض هذه الخطوة من سعد زغلول، ثم حذره من الإقدام عليها، والذي حدث من سعد زغلول أنه سمع الرفض فاستجاب له، ثم استمع التحذير فخضع له، وكانت الخلاصة أن تراجع زعيم الأمة والرجل الأقوى في تاريخها عن موقفه وابتلع كلامه، وقال قولته المشهورة: إن قول حكومتنا ببطلان قانون التعويضات لا يعني أن حكومتنا سوف تمتنع عن تنفيذه.

كان سعد زغلول من الحكمة بحيث أدرك حدود القوة، وأدرك أن الاستقلال ليس ورقة، وأن الاستقلال ليس تصريحا يمنحه الإنجليز، وأن ما أنجزته ثورة الشعب في مارس وأبريل 1919 هو نفطة البداية في كفاح طويل على طريق الاستقلال الذي فقدته مصر منذ سقطت قبل 2500 عام ليتداول على حكمها الفرس ثم الإغريق ثم الرومان ثم العرب ثم الترك ثم الأوروبيين.

– الواقعة الثانية: في أثناء الانتخابات الرئاسية في صيف 2012، كنت على قرب من أحد المرشحين، وكنت على موعد صحفي معه، في الفترة بين فرز الأصوات في الجولة الثانية وإعلان النتائج، وكان إعلان النتائج بصفة رسمية قد تأخر، في ذلك اليوم أيضا تكرر المشهد، رأيت السفيرة الأمريكية آن باترسون التي مثلت بلادها لدى القاهرة من أغسطس 2011 إلى أغسطس 2013، رأيتها تهم بالمغادرة من أمام بوابة بيته. قلت له: ممكن استفسر عن سبب زيارة السفيرة الأمريكية؟، قال: جاءت تسألني لماذا تؤخرون إعلان النتائج، وقلت لها: ليست لي صفة تمنحني القدرة على إجابة السؤال، أنا مجرد مرشح، أنا لست من يدير الانتخابات. بماذا ردت على سيادتك؟، أجاب: لم ترد بشيء، عندها قلق، وليست هذه أول مرة تزورني لهذا الغرض.

كنت أعرف السفيرة من قبل، وكنت أعرف لماذا أرسلوها إلى مصر في هذا التوقيت بعد أشهر قليلة من ثورة 25 يناير 2011، وكنت أعرف دورها في الباكستان بين 2007 و2010 حيث كانت المهندس لتجريد الرئيس الباكستاني من سلطته عبر إعادة رسم المشهد السياسي الباكستاني بكامله، فعندما جاءت لمصر توقعت أن يكون دورها هنا مثل دورها هناك، وكان دورها في مصر تأسيس شراكة في الحكم بين الجيش والإخوان، وقد سعت في ذلك سعيها، حتى إذا سقط الإخوان انتهت مهمتها وعادت إلى بلادها.

باختصار شديد: كان الأمريكان- الاستعمار الجديد –  شركاء فعليين في المشهد السياسي المحلي سواء قبل أو بعد ثورة 25 يناير 2011م.

هذا هو قدر مصر التاريخي، النابع من قدرها الجغرافي، أن يكون استقلالها في مواجهة امبراطوريات عاتية من الفرس إلى الإغريق إلى الرومان إلى العرب إلى الترك إلى الأوروبيين، إلى الأمريكان.

فقدت مصر استقلالها -أول مرة- عندما فقدت امبراطوريتها القديمة، وربما كانت هذه الحقيقة الدافع وراء النزوع الإمبراطوري لدى محمد علي باشا ثم لدى الخديوي إسماعيل ثم النزوع القومي العربي لدى جمال عبدالناصر.

***************

صحيح أن تصريح 28 فبراير 1922 منح مصر استقلالا شكليا وصوريا، إذ كان الاستقلال  مقيدا من أطرافه الأربعة بالتحفظات الأربعة، لكنه يظل حدثا تاريخيا من الوزن الثقيل:

– فقد جاء من مخاض ثورة شعبية مجيدة خرج منها الشعب المصري منتصرا على إمبراطورية عظمى خرجت لتوها منتصرةً من حرب عالمية كبرى.

– كما مثل فارقا ضخما في تاريخ مصر السياسي إذ غدت مصر بموجبه “دولة مستقلة ذات سيادة “فلم تعد -في القانون الدولي- ما كانت عليه من قبل ذلك، فلم تعد ولاية عثمانية، ولم تعد محمية بريطانية، وهذا بكل يقين مركز دولي جديد تماما لم تكن مصر تعرفه قبل ذلك التاريخ.

– ثم كان هذا التصريح نقطة الارتكاز الذي تأسست عليه الحقبة الملكية 1923- 1953، كما كان نقطة الارتكاز التي حرضت على الحالة الثورية التي سبقت ثورة 23 يوليو 1952 ومهدت لها الطريق وهيأت لها القبول الشعبي الذي حظيت به عند قيامها في مطلع النصف الثاني من القرن الـ 20.

– لكن يظل التصريح والاستقلال الذي ترتب عليه ابن ظروفه التي انتجته، ويمكنك أن ترى بذرة التصريح وبذرة الاستقلال المقيد في المقابلة الأولى بين أعضاء الوفد المصري والمندوب السامي البريطاني في القاهرة يوم 13 نوفمبر 1918 بعد 48 ساعة من وقف مدافع الحرب، وقبل خمسة أشهر من اندلاع الثورة المجيدة في التاسع من مارس 1919.

لم تكن النخبة المصرية سواء في الحكم أو خارجه تغفل أن اللحظة مواتية لرفع مطلب الاستقلال الوطني، لكنها -في الوقت ذاته- كانت من الوعي بما يكفي لفهم حدود القوة وحدود الإمكانات في مواجهة إمبراطورية عاتية.

***************

تشكل الوفد من ثلاثة: سعد زغلول، عبدالعزيز فهمي، على شعراوي، في مواجهة سير رجنلد ونجت Sir Reginald Wingate المندوب السامي البريطاني في مقر دار الحماية في القاهرة .

– قال سعد زغلول: الحرب حريق انطفأ ويلزم تنظيف آثاره مثل الأحكام العرفية ومراقبة الجرائد والمطبوعات، فالناس ينتظرون بفارغ الصبر زوال هذه المراقبة.

– رد المندوب السامي: سوف أكلم في ذلك قائد الجيوش ثم الحكومة البريطانية وعلى المصريين أن يصبروا ويطمئنوا فلن يكون إلا خيرا.

– قال سعد زغلول: الحرب قد توقفت، والمصريون لهم الحق في أن يكونوا قلقين على مستقبل بلادهم.

– رد المندوب السامي: يجب ألا تتعجلوا، وأن تكونوا متبصرين في سلوككم، فإن المصريين -في الحقيقة- لا ينظرون إلى العواقب البعيدة.

– قال سعد زغلول: هذه العبارة مبهمة ولا أفهم المعنى المراد منها.

– رد المندوب السامي: أريد أن أقول: المصريون ليس عندهم رأي عام بعيد النظر.

– قال سعد زغلول: لا أستطيع الموافقة على هذا الكلام، فأنا وزملائي منتخبون من الرأي العام.

– رد المندوب السامي: كثير من الكتابات والحركات من محمد فريد وأمثاله من الحزب الوطني ليس فيها تعقل ولا روية وتضر مصر ولاتنفعها، فما هي أغراض المصريين؟

– أجاب علي شعراوي: نريد أن نكون أصدقاء للانجليز، صداقة الحر للحر، لا صداقة العبد للحر.

– رد المندوب السامي: إذن أنتم تطلبون الاستقلال.

– قال سعد زغلول: ونحن له أهل !

***************

الحديث مستأنف في الأسبوع المقبل بمشيئة الله.