أشعلت الحرب الروسية في أوكرانيا نقاشا موازيا حول علاقتها بقضية الديمقراطية. واختار البعض أن يكون انحيازه لأحد طرفي النزاع على ضوء موقفه من قضية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. فأدان الهجوم الروسي على أوكرانيا خوفا من تحول انتصارها إلى انتصار للاستبداد وغياب الديمقراطية. ودعم البعض الآخر أوكرانيا باعتبارها تسعي لبناء نظام ديمقراطي بعيدا عن النموذج الروسي والنظم الاستبدادية.

والواقع، أن هذا الجدل مشروع، ومن حق كثيرين أن يسعدوا لهزيمة النظم الاستبدادية ومنها النظام الروسي. ولكن ذلك لا يعني عمليا أن هزيمة القوات الروسية ستكون بسبب غياب الديمقراطية، أو أن انتصارها سيعني انتصارا للاستبداد. إنما نحن أمام حرب تحكمها موازين قوى وكفاءة النظام القائم سياسيا وعسكريا، والذي تمثل الديمقراطية ودولة القانون أحد عناصره التي تساعد على الانتصار. ولكنها ليست العنصر الوحيد.

صحيح، أن الغرب أعلن دعمه لأوكرانيا رسميا وشعبيا، واعتبر أنه يدعم نظام ديمقراطي حليف. وفي نفس الوقت لم يقدم له كما طالب الرئيس الأوكراني “شيك على بياض”. وخاصة في مجال الدعم العسكري. حيث دخلت الحسابات الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية كأساس للتحرك الغربي. وليس فقط أو أساسا حسبه دعم نظام ديمقراطي حليف.

وهنا، سنجد تباين بين الموقف الأوروبي والأمريكي، رغم إيمانهما بالديمقراطية الليبرالية، وبدعم التحالف مع النظام الديمقراطي في أوكرانيا. فقد رفضت أوروبا فرض حظر على واردتها من الغاز الروسي. كما حسمت أمس ألمانيا الجدل الذي دار مع أمريكا وبولندا بخصوص نقل طائرات ميج 29 وسخوي الروسيتان من القواعد البولندية إلى نظيرتها الألمانية. ذلك تمهيدا لإرسالها إلى أوكرانيا. حيث اعتبرت برلين أن هذا العمل سيترتب عليه رد فعل روسي لا يحمد عقباه، وأن ألمانيا لا ترغب في تصعيد المواجهة مع روسيا.

التباين بين الموقف الأوروبي والأمريكي من روسيا ظهر أيضا في موقف الشركات الكبرى. فعلي سبيل المثال، أعلنت شركة توتال الفرنسية أنها باقية في السوق الروسي ومعها كل الشركات والمؤسسات المالية الفرنسية. ولكنها ستكتفي بعدم تطوير أبحاثها مع الشركات الروسية المماثلة لها، وعدم زيادة استثماراتها هناك. وذلك على خلاف شركة شيل الأمريكية التي أعلنت انسحابها من السوق الروسي.

حاولت روسيا طوال الفترة الماضية أن تضغط على الغرب باستخدام أدوات “شبه ناعمة” من أجل أن يقبل بعدم امتداد حلف الناتو إلى البلدان المتاخمة للحدود الروسية. فبدأ في 2014 “بالاستفتاء الديمقراطي” من أجل ضم ثلث أراضي أوكرانيا (القرم) إلى روسيا، ولم يغير الغرب موقفه من مطالبها. واكتفي بإعلان عدم اعترافه بضم القرم وفرض عقوبات محدودة عليها. كما حاصرت روسيا أوكرانيا برا وبحرا وجوا لأسابيع طويلة دون أن يسفر ذلك عن تراجع في الموقف الغربي أو الأوكراني الذي ظل متمسكا بالانضمام إلى حلف الناتو.

والحقيقة، أن الحسابات الاستراتيجية الدقيقة أو الخاطئة التي يتبناها النظام الروسي ستكون هي العامل الأساسي في نجاحه أو هزيمته، دون تجاهل أن النظام الديمقراطي الذي يؤسس لدولة قانون مرشح أكثر من غيره للانتصار في المعارك. ولكن هذا لا يعني ضمان هذا النصر إذا تم تجاهل باقي العوامل الأخرى من توازنات القوى وكفاءة النظام والقدرات العسكرية والسياسية.

فلو قرر بوتين توسيع دائرة هجومه حتى يصل إلى بلدان أوربية أخري مثل بولندا ودول البلطيق وتقمص ثوب التهور الذي عرفه بعض الزعماء في العالم (كما جري مع صدام حسين حين غزا الكويت وأعلن ضمها عام 1993). وأعلن العمل على استعادة “أمجاد” الاتحاد السوفيتي وتحرش بحلف الناتو وأعلن ضم أوكرانيا للاتحاد الروسي، فإن خسارته للمعركة ستكون حتميه حتى لو كان هناك في روسيا نظام ديمقراطي.

صحيح، أن فرص أن تنتج النظم الديمقراطية قادة من هذا النوع محدود وأقل بما لا يقارن من النظم الاستبدادية. إلا أن هذا لا يمنع أن يكون تقييم نظم كثيرة مثل الصين وكوبا وغيرها لا يمكن أن يكون فقط على ضوء غياب الديمقراطية، فالصين غير الديمقراطية التي تفوقت في كل معاركها المحدودة مع الهند الديمقراطية. وقدمت نموذج في التنمية ومحاربة الفقر أكثر إنجازا وتأثيرا في النظام العالمي من جارتها الهندية.

صحيح، أن الصين مثلها مثل كوبا (صاحبه النظام الصحي المتطور عن بعض الدول الأورو[ألبية) تجارب نجاح خاصة واستثنائية لا يقاس عليها في باقي تجارب الدول النامية. فحالة روسيا والصين وكوبا هي نتاج تجارب تاريخية صنعت عبر عشرات السنين وعبر ثورات ونظريات ثورية كانت بنت عصرها، ودماء سالت وملايين الضحايا الذي سقطوا حتى أسسوا لنظم كفئه ومتقدمة. ولكنها غير ديمقراطية. وهي بهذا المعني غير قابلة للاستنساخ عربيا أو في بلاد أخرى. وإلا ستخرج نظما مسخ لا علاقة لها بالنظم المنجزة تنمويا وصناعيا رغم عدم ديمقراطيتها، أو بالنظم المنجزة تنمويا وصناعيا وسياسيا بفضل ديمقراطيتها.

وبناء عليه سيصبح من الصعب تقييم نتائج الحرب الروسية في أوكرانيا على ضوء ديمقراطية النظام الروسي من عدمه واعتبار هزيمته حتمية لأنه غير ديمقراطي. فهذا فهم قاصر في تحليل قضايا العلاقات الدولية والمعارك الكبرى التي يشهدها العالم سواء على الساحة التجارية أو السياسية وأحيانا العسكرية. وإنه إذا نجحت روسيا فسيكون ذلك بفضل حسابات قوة وأوراق ضغط حقيقية امتلكتها في قضية تخص أمنها القومي. ذلك بصرف النظر عن شكل نظامها السياسي. وإذا فشلت فإن هذا سيعني أنها لم تحسب جيدا هذا الحسابات.