مبدئيا -وكما كتبت وقلت عديد المرات- لا أنازع في حق روسيا الاستراتيجي في وقف تمدد حلف الأطلنطي إلى حدودها الشرقية. ولا في سعيها لاستعادة كرامتها المهدرة. ولا أنكر أخطاء الغرب في التعامل المهين معها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولا أدافع عن هذه الأخطاء. كذلك لست في حاجة إلى من يذكرني بجرائم الغرب الاستعماري ضد الإنسانية وضد شعوب المستعمرات على وجه الخصوص والنهب الرأسمالي القديم والمتجدد لثروات هذه الشعوب. ولا لمن يسرد عليَّ وقائع التآمر الأورو/أمريكي لتنصيب وحماية حكام فاسدين وطغاة في دول القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. من أجل تسهيل وتأمين تبعية الأسواق واستغلال الموارد.
ولكن وسط هذه الحقائق في الماضي والحاضر لا بد من التساؤل بمنتهى الجدية والموضوعية: هل الأمن القومي الروسي واسترداد الكرامة هما وحدهما السياق الاستراتيجي للغزو الروسي لأوكرانيا؟. وهل هذا الغزو هو فجر عصر جديد يوقف مظالم الغرب الاستعماري لبقية شعوب العالم؟.
تتفرع عن السؤال الأول حزمة تساؤلات: فهل كان انضمام أوكرانيا للأطلنطي قيد البحث أو مطروحا على أجندة الحلف؟ وهل تواجدت على الأراضي الأوكرانية قوات أو أسلحة أطلنطية تهدد الأمن الروسي كما وجدت بالفعل الصواريخ السوفييتية على الأراضي الكوبية خلال الأزمة الشهيرة التي يبرر البعض السلوك الروسي في أوكرانيا بالسلوك الأمريكي فيها؟ أو كانت مثل هذه القوات والأسلحة ستتواجد في أجل منظور في أوكرانيا عدا صفقات متوسطة الحجم والنوع وعدة عشرات من المدربين والمستشارين العسكريين الأمريكيين. فضلا عن معونة اقتصادية محدودة؟. و هل كان بوتين غافلا عن استحالة رضوخ واشنطن لطلبه الإذعاني بالتعهد علنا وكتابة بعدم منح عضوية الأطلنطي لجيرانه الأوكرانيين؟
إن النظام غير الموالي لروسيا في كييف والقائم منذ ثماني سنوات لم يتلق وعدا لا صريحا ولا ضمنيا بضمه للحلف. ولا توجد على أرضه قوات ولا أسلحة تهدد روسيا. وكل ذلك إدراكًا من العواصم الأطلنطية لمغبة هذه الخطوة على العلاقات مع روسيا وعلي الأمن الأوروبي والأمن الدولي بالتبعية. لذا كان يكفي موسكو أن تعلن عزمها استخدام القوة لمنع انضمام أوكرانيا للأطلنطي. بوصفه أحد أركان عقيدتها الاستراتيجية. ليتكرس هذا المبدأ كأحد المسلمات النهائية في العلاقات الدولية. مثله في ذلك مثل التزام الولايات المتحدة بمنع ضم تايوان للصين. أو بحماية أمن الخليج. ومثل التزام إسرائيل المعلن باستخدام القوة لمنع سقوط النظام الأردني. أو مثل إعلان بريطانيا قديما أنها ستحارب لحماية استقلال بلجيكا ردعا لاستيلاء فرنسا أو ألمانيا عليها مما يهدد الأمن البريطاني.
ومن المؤكد أن روسيا كانت ستجد تفهما بل تعاطفا من أغلب الدول والشعوب وصناع السياسة في الغرب. حتي وإن علت بعض الأصوات -التي ستخفت بمرور الوقت- بالرفض والاحتجاج.
إذا فإن اختيار الرئيس الروسي بوتين للبديل المتمثل في الغزو يندرج في سياق أوسع كثيرا من الأمن القومي ووقف التوسع الأطلنطي إلى حدود روسيا الغربية. وهو سياق يشمل أمن نموذج الحكم والسياسة في عموم روسيا. وفي محيطها أو ما يسمي بمجالها الحيوي. أي مكونات الاتحاد السوفييتي السابق أو الإمبراطورية القيصرية القديمة. كما يشمل هذا السياق أيضا تنفيذ مشروع الأوراسية كنقيض لمشروع التحول الديمقراطي في روسيا ودمجها في تقاليد وقيم الحكم والسياسة السائدة في الثقافة الأوروبية منذ عصر التنوير.
نموذج الحكم الذي يمثله ويفضله ويدافع عنه بوتين هو الأوتوقراطية أو السلطة المطلقة غير القابلة للمساءلة. لا على مستوى الرئيس فحسب ولكن أيضا على مستوى أجهزة التنفيذ حتى أصغر ضابط أمن أو أصغر موظف بيروقراطي. وغير المقيدة بقانون ولا دستور حتي وإن وجد قانون ودستور. والقائمة على فردية القرار ومركزية صنع السياسة بما في ذلك تخصيص الموارد وتوزيع الثروة وعلاقات الإنتاج والتحالفات المجتمعية.
وبالطبع فليست روسيا وحدها هي التي تحكم بهذه الطريقة وإنما سائر الجمهوريات السوفييتية السابقة عدا أوكرانيا بعد ٢٠١٣. وعدا جورجيا نسبيا. فكيف يقبل بوتين نجاح واستقرار نموذج (غربي) يحاسب فيه الرئيس وحكومته وموظفوه. ويأتي ويذهب بإرادة الناخبين دون تلاعب أو تحايل. ويضمن حرية التعبير والتظاهر ويأمن فيه المواطن من السجن أو الاغتيال أو التشريد إذا انتقد حاكمه أو طالب بحقوقه؟! وكل ذلك في دولة كانت غالبا تابعة لروسيا وكانت ولا زالت تربط شعبها بالشعب الروسي المحكوم بالنموذج البوتيني علاقات دم وعلاقات اجتماعية وثقافية وتاريخ مشترك طويل. وكل ذلك أيضا مع وجود ناشطين روس يطمحون إلى إحلال النموذج الغربي الليبرالي في الحكم والسياسة محل النموذج الأوتوقراطي الحالي؟
لا تنفصل العقيدة الأوراسية التي أشرنا إليها توا عن طبيعة النظام الحاكم. فهذه العقيدة -كما يشرحها منظرها الأكبر حاليا ألكسندر دوجين- تجعل من الهوية الأرثوذكسية السلافية الإمبراطورية أساسا ومغزى. بل ورسالة روسيا في التاريخ وفي العالم. فبعد أن يرفض دوجين الليبرالية القائمة على حقوق وحرية المواطن الفرد وبعد أن يرفض الاشتراكية القائمة على حقوق أو سيادة الطبقة العمالية يختار بصفة قطعية ونهائية الفاشية التي لا تعترف بأي حق سياسي إلا للأمة بوصفها الكائن السياسي الأعظم والمطلق فوق الفرد والطبقة. أو بمعني أصح التي يجب أن تذوب فيها حقوق فيها الأفراد والطبقات والمصالح والأفكار. وبالطبع تتجسد إرادة الأمة وطموحها ورسالتها التاريخية في القائد الأوتوقراطي الذي يعبر عن تلك الإرادة ويفهم هذه الرسالة ويخلص لها.
ومن أهم تلك الطموحات بعث الروح القومية بالعودة إلى الجذور أو ثوابت الهوية ثم استعادة الوطن والمجد التاريخيين للآباء المؤسسين. وهو ما يعني استعادة حدود الإمبراطورية القيصرية في آسيا وشرق أوروبا وإحياء مشروع الجامعة السلافية الذي يشمل البلقان حتى صربيا.
إذا فهي أيديولوجية عدوانية بطبيعتها. وإذا فليس فيها جديد عن فاشية موسوليني في إيطاليا ولا جديد عن نازية هتلر في ألمانيا. ولا مثيلتهما اليابانية. بمعنى أنها إحياء للنزعة القومية المسلحة التي قاست منها الشعوب الويلات دماء ودمارا وقمعا وتمزيقا في حربين عالميتين وقبلهما.
سيقول البعض إن بوتين كان مضطرا لحماية الأقليات الروسية في مناطق شرق أوكرانيا. وأقول إنني أوافق على حماية هذه الأقليات. بل وأوافق على انفصال هذه المناطق واتحادها مع روسيا مادامت هذه رغبة السكان. غير أني أعود وأقول إن هذه مجرد ذريعة. لأنه كان بوسع بوتين أن يكتفي بالاعتراف باستقلال الإقليمين الانفصاليين وبتوغل عسكري محدود فيهما كما توقع الرئيس الأمريكي جو بايدن في بداية التصعيد. وكما فعلت تركيا في قبرص عام ١٩٧٥ حين كان أتراك الشمال القبرصي مهددين من قبل الضباط القبارصة اليونانيين الفاشيين المنقلبين حين أعلنوا الوحدة الفورية مع اليونان. التي كانت بدورها خاضعة لحكم انقلاب عسكري فاشستي. ولكن الرجل -أي بوتين- لم يتورع عن نزع صفة الدولة بالمطلق عن أوكرانيا ككل. ولم يتوان في نزع استحقاق شعبها أن تكون له دولته المستقلة. إذ إنها في رأيه لا تعدو أن تكون تخليقا اصطناعيا افتعله لينين وأكمله ستالين كما جاء في خطابه الافتتاحي للغزو.
قد يقول البعض لكن الغرب وبقية دول العالم لم يكونوا ليعترفوا باستقلال روس شرق أوكرانيا. وأن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا سيفرضون عقوبات على روسيا حتى في هذه الحالة. والرد هو أن نعم لم يكن العالم سيعترف بذلك الاستقلال وهذا الانفصال ولكنه كان سيصبح أمرًا واقعا مثله مثل ضم شبه جزيرة القرم. ومثل جمهورية شمال قبرص التركية ولم تكن العقوبات سترتقي إلى هذا المستوى والنطاق. وعموما لم تكن الأزمة ككل ستصبح أزمة عالمية كبرى من النوع الذي اعتقدنا أنه لم يعد قابلا للتجدد منذ منصف ستينيات القرن الماضي.
وعن السؤال الرئيسي الثاني في بداية المقال فإنني أعرف أن كثيرين يتعاطفون مع بوتين بدعوى أن ما يفعله في أوكرانيا هو ضرورة وفرصة طال انتظارها لإنهاء نظام القطبية الأمريكية الواحدة. و بزوغ فجر عصر جديد. ولكن هذا أيضا نذير شؤم. ففضلا عن أن روسيا المتخلفة صناعيا وتكنولوجيا -إلا من صناعة السلاح- ليست مؤهلة لتكون قطبا دوليا مناظرا إلا بالعدوان والابتزاز العسكري فقط لا غير. فإنها لم تعد وحدها في الساحة العالمية في مواجهة أمريكا كما كانت الحال في حقبة الحرب الباردة. فهناك الصين الأكثر تأهيلًا وقد تنضم ألمانيا واليابان في مرحلة لاحقة. فتتعدد الأقطاب وتفشي النزعة القومية في البلدين وليس في كثرة وحوش الغابة أي ضمان لعدم اقتتالها. بل إن الحربين العالميتين لم تشتعلا إلا بسبب تعدد الأقطاب وكثرة واتساع مصالحها ومطامعها المتعارضة. فكان لدينا في الحرب العالمية الأولى الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية المجرية الشائخة والإمبراطورية الألمانية الفتية وحليفتها العثمانية المحتضرة ثم إمبراطورية بريطانيا العظمى. وفرنسا بالطبع. وفي الحرب العالمية الثانية كان لدينا ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية واليابان. ثم الاتحاد السوفييتي وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. و فيما عدا السوفييت والولايات المتحدة وبريطانيا نسبيا كانت النزعة القومية المسلحة هي التي أوقدت نيران الحربين.
وأخيرا يقول متحذلقون كثر إنه لا فرق حقيقي بين نموذج الحكم والسياسة الأوتوقراطي الصريح في روسيا وبين النموذج الديمقراطي المزعوم في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وسأضيف هنا إلى ما ذكرته في الفقرة الأولى عن جرائم الاستعمار الغربي والنهب الرأسمالي للشعوب وانحيازات النظام للأغنياء أن كل ذلك لا ينفي وجود فارق حقيقي مهم بين النموذجين. وهو أنه بينما لا يستطيع النموذج الديمقراطي إلا أن يبطئ أو يؤخر التطور السياسي المدفوع بصراع القوى الاجتماعية وعلاقات الإنتاج. أو يزيد من كلفته الإنسانية فإن النموذج الأوتوقراطي يصادر أو يؤمم كل هذاه الصراعات الطبيعية في المجتمع بالكلية ومن ثم يجمد التطور السياسي بدعوى وحدة الأمة والتضحية من أجلها.
لكل هذه الأسباب أتمني هزيمة بوتين والبوتينية. بغض النظر عن حسابات اللحظة الآنية. وإن كنت أدرك أن نسبة لا يستهان بها من المصريين والعرب -ومنهم مثقفون- لا يشاطرونني هذا التمني. بل ويتمنون العكس. بما أنه يتحدى الغرب فقط لا غير. حتى وإن كان يمثل كل ما تجاوزه التاريخ ووصمه بالفشل وجلله بالعار. ولكن هذا لا يفاجئني. فقد اعتاد جزء كبير من نخبنا الثقافية والسياسية أن يقف في الجانب الخطأ من التاريخ. فاصطف كثيرون منهم مثلا مع هتلر بدعوى أنه يحارب عدوهم التاريخي متمثلا في بريطانيا العظمى. رغم أنه صنف العرب والمصريين ضمن الأجناس البشرية المنحطة. وصفق من كانوا قبلهم لجنرالات تركيا العثمانية الذين تحالفوا مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. وفيما بعد هللوا فرحا بمحاولة انقلاب الجنرالات السوفييت على جورباتشوف لوأد سياساته الإصلاحية وإعادة الوجه الستاليني للحكم والسياسة هناك. بغض النظر عن مآلات تجربة الرجل. ولا أشك أن ذلك سيتكرر في المستقبل. إذ لو كان هؤلاء يتعلمون من أخطائهم ما كنا قد انحدرنا إلى ما انحدرنا إليه في كل المجالات حتى أوشك التاريخ أن يلفظنا نهائيا.