يحتل صوم القيامة المعروف باسم الصوم الكبير مكانة بارزة في الكنيسة القبطية. حيث يمتد الصوم الذي بدأ بما يسمى أسبوع الاستعداد إلى ثمانية أسابيع يمتنع فيها المسيحيون عن أكل الأطعمة المشتقة من الحيوانات، كاللحوم، الألبان، البيض، والأجبان. كما يمتنع الصائمون فيه عن تناول الأسماك. لتصبح المقليات والخضروات والفواكه طعامًا أساسيا طوال 55 يومًا من بدء الصوم وحتى عيد القيامة. إلا أن اللافت في هذا الصوم هو ذلك الأسبوع الإضافي الذي يبدأ به الأقباط صومهم. حيث يعرف باسم أسبوع هرقل أو صيام الاستعداد. إلا أن هذا الأسبوع قد أثار جدلًا حول أصله وأسباب إلحاقه بالصوم الكبير. وهو أمر تنفرد به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وحدها بين كنائس العالم حتى كنائس العائلة الأرثوذكسية الشرقية لا تقر هذا الأسبوع الإضافي.
يشرح ماركو الأمين الباحث المتخصص في التاريخ الكنسي أصل هذا الأسبوع. فيقول إنه يسمى بجمعة هرقل أو صوم الاستعداد. حيث يرجع فرض صوم ما قبل عيد الفصح (القيامة) للقرن الثاني الميلادي. ومن الممكن بسهولة افتراض أصل رسولي للصوم ما قبل العيد. وأضاف: لكن اختلف المسيحيون طوال فترة القرون الثلاثة الأولى على كيفية الصوم ومدته. ولكنها في أقصى مددها لم تتجاوز مدة الأسبوع الواحد. وهو ما حدث في مصر أيضًا حتى عصر البابا أثناسيوس الرسولي.
كيف استقرت مدة الصوم الكبير حتر بلغت أربعين يومًا؟
يوضح الأمين: عاب اثناسيوس الرسولي على المصريين عدم التزامهم بصوم الأربعين يومًا المقدسة. وفي عهده استقر صوم أربعين يوم قبل يوم عيد قيامة المسيح. وكان نهاية الصوم هو جمعة الصلبوت المعروفة باسم الجمعة العظيمة. وليست جمعة الختام مثلما هو الوضع حاليًا.
ويضيف: تطورت الممارسات الطقسية للصوم على يد الرهبان في فلسطين. وأكاد أجزم أن زيادة مدد الصوم كان من ضمن التقليد الرهباني المصري في الأساس. وقد دخلت للكنيسة عبرهم حتى وصلت عدد أسابيع الصوم إلى ثمانية أسابيع.
يشير الأمين، في تصريحات خاصة: ورأت الكنيسة الرومية تخفيف حدة الممارسة تلك حسب بأن جعلت أول أسبوع في الصوم هو أسبوع مخفف ويسمى بمرفع اللحم أي يمنع فيه أكل اللحوم فقط. لكن مسموح فيه بالمنتجات الحيوانية الأخرى. أما الأسبوع الأول المعروف بأسبوع الاستعداد هو معروف فقط في الكنائس ذات الطقس اليوناني أي الكنيسة الرومية والقبطية ومثيلاتها الحبشية والأريترية.
لماذا يسمي الأسبوع الأول في الصوم باسم هرقل؟
يرجع الأمين زيادة أيام الصوم إلى ثمانية أسابيع إلى القرن التاسع. فيوضح: أقدم شهادات تأتينا من تلك الفترة وفي القرن العاشر عزى المؤلفون المسيحيين سواء القبط أو الملكانيين زيادة هذا الأسبوع إلى قصة مختلقة في زمن هرقل الإمبراطور البيزنطي في القرن السابع. حيث قيل إن اليهود قد نكلوا بالمسيحيين في فلسطين. كما خرقوا عهد الأمان مع هرقل أثناء حربه مع الفرس.
وبناءً عليه، اشتكى المسيحيون من اليهود. وتردد هرقل في البطش بهم، فطمأنه المسيحيون. حيث قالوا مقابل فتك هرقل باليهود سيصوم المسيحيون في كل العالم أسبوعًا. ذلك لأجل التكفير عن خطأ هرقل. ولذا سمى الأسبوع بجمعة هرقل.
يقول الأمين: تلك القصة لو كانت تعزز شيئًا فهو بالتأكيد ما طرحته عن أصل هذا الأسبوع الإضافي، حين رجحت إنه قادمًا من كنيسة فلسطين.
يرجح الأمين أن إثارة الجدل حول هذا الأسبوع الزائد في الصوم إنما تأتي لعدة أسباب. وأهمها كثرة عدد أيام الصوم في السنة. لأن أسبوع هرقل ليس له تأويلًا روحيًا. وهو مختلف عند القبط عن الروم. فالروم يسمونه أسبوع استعداد، ذلك لأنهم يتدرجون في الصوم فيه برفع اللحم أولًا ثم باقي المنتجات الحيوانية. لكن عند الأقباط الصوم كله واحد دون أي اختلاف.
يضيف: طوال الوقت منذ إضافة هذا الأسبوع للصوم الكبير تمرد كثير من القبط عليه. وقد عدل البطريرك غبريال الثامن تقويم الصوم وأرجعه لأصوله القديمة. ولكن بعد رحيله رجع كل شئ إلى أصله مرة أخرى.
كيف تنظم الكنائس خدماتها في الصوم الكبير؟
بدأ الصوم الكبير الإثنين الماضي. وتبلغ مدته 55 يومًا، يعقبها الاحتفال بعيد القيامة، حسب الاعتقاد المسيحي. وهو يقسم بحسب طقس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى أسبوع الاستعداد، والأربعين يومًا المقدسة التي صامها السيد المسيح صومًا انقطاعيًا، ثم أسبوع الآلام.
وتمتد جذور الصوم الكبير بحسب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى العصر الرسولي، حتى صار أمرًا مستقرًا عليه في سنة 325 ميلاديًا عبر مجمع نيقية.
وتقيم الكنائس القبطية الأرثوذكسية، بتلك المناسبة، قداسات صلاة بشكل يومي خلال الأسبوع الأول من الصوم، وسط اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد، من ارتداء كمامة، ومنع التجمعات، والمحافظة على التباعد الاجتماعي.
وبحسب نظام الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فإن الكنائس تقيم اعتبارًا من الأسبوع الثاني للصوم الكبير -وهو بداية فترة الأربعين يومًا- قداسين يوميًا، وتلك الفترة مقسمة إلى 7 أسابيع، تعرف بـ “أحاد الصوم الكبير”. وهي: “أحد الرفاع، أحد الاستعداد، أحد التجربة، أحد الابن الضال، أحد السامرية، أحد المخلع، أحد المولود أعمى”. وحددت كل أسبوع يبدأ اعتبارًا من يوم الإثنين، وينتهي مع نهاية يوم الأحد.
وهذا الصوم له قدسية خاصة لدى الأقباط، لكونه يسبق قيامة المسيح، حسب الاعتقاد المسيحي، ويعرف كذلك بـ “الصوم السيدي أو الأربعيني”.
وتسببت الموجة الأولى من تفشي جائحة كورونا في غلق الكنائس العام الماضي، حتى أن قداسات العيد اقتصرت على الأساقفة والرهبان فقط، بينما قضى الأقباط فترة “أسبوع الآلام” و”العيد”، يصلون داخل منازلهم.
ويتميز هذا الصوم، بما يعرف بـ “حج الأقباط إلى القدس“. وهي رحلات للتبرك خلال “أسبوع الآلام” بالأماكن التي زارها المسيح بحسب الاعتقاد المسيحي في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض. كذلك يشهد هذا الصوم في الأسبوع الأخير منه وخاصة تلك الأيام التي تعرف بـ”البصخة” التي تلي أحد السعف، عدم الصلاة داخل الكنائس على الموتى من الأقباط. إذ تكتسي الكنائس بالشارات السوداء حدادًا على صلب المسيح، ويسبق تلك الأيام صلاة التجنيز العام للأقباط.