كيف يستخدم العلماء الأدب لمعرفة صراعات العالم المقبلة؟ منذ حوالي عامين، تقدم أستاذ الأدب المقارن يورجن فيرتهايمر وفريقه الصغير من علماء الأدب للجيش الألماني بمشروع غريب المشروع كاساندرا. وقال فيرتهايمر إنه من خلال النظر في الكتب والكتابات الأخرى التي تنشر، يمكنه وفريقه تحديد الحروب الأهلية والكوارث الإنسانية بشكل مسبق، بحسب صحيفة الجارديان، نجح الاقتراح في الحصول على موافقة الجيش، وتمت تسميته بمشروع كاساندرا، مستوحيًا اسمه من كاهنة طروادة وفقا للأسطورة اليونانية التي تمتعت بالبصيرة.

كان تحويل النقد الفني في تلك الحالة إلى نقاط بيانات أحد المتطلبات التي وضعتها وزارة الدفاع الألمانية لتمويل المشروع، وذلك بهدف وضع “خرائط عاطفية” لمناطق الأزمات، وخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا، إذ طوّر الباحثون نظام نقاط لكل كتاب عبر 9 مؤشرات، هي الوصول الموضوعي والرقابة على النص والرقابة على المؤلف والاستجابة الإعلامية والفضائح حول النص والفضائح حول المؤلف والجوائز الأدبية للمؤلف والجوائز الأدبية للنص والاستراتيجية السردية، ومنح كل مؤشر درجة بين -1 و+3، وكلما زادت الدرجة الإجمالية في النهاية، زادت خطورة النص. ومن خلال دراسة العديد من الكتب من مناطق مختلفة، تمكن العلماء من وضع درجة لمدى احتمالية اندلاع الصراع في منطقة ما.

كانت تلك النتائج مذهلة في استنتاجها ومربكة لأي شخص يسمع أو يقرأ عن الأمر سواء في الداخل الألماني أو في الأوساط الأدبية العالمية عمومًا.

تمكن المشروع كاساندرا من التنبؤ باحتجاجات 2019 في الجزائر قبل عامين من بدايتها. وتضمنت بعض الكتب المستخدمة لدراسة الجزائر كتاب “كتابة الجسد” للمؤلف مصطفى بن فضيل، والذي يحكي قصة خيالية عن عالم فيزياء فلكية يقتل في حادث سيارة غامض يوم الانتخابات الرئاسية، وحصل الكتاب على 20 نقطة. وهناك أيضا رواية “الشرخ” لمحمد شريف لعشيشي، والتي تصور العنف داخل السجون الجزائرية، وحصلت على 22 درجة.

مثلما يمكننا الانطلاق من منطقة الأدب يمكننا تطبيق الأمر على المساحات السينمائية التسجيلية تحديدًا والروائية أحيانًا التي صُنعت في الأساس للتنبؤ بالأوضاع الحالية في بلدّ ما أو لحدث محوري مهم، وهكذا تمامًا يمكننا الانطلاق الفني للحديث عن الحرب العالمية الثالثة التي تدخل أسبوعها الرابع داخل أوكرانيا بهجوم روسي كان متوقع منذ سنوات، كيف يمكننا النظر إلى الفن الأوكراني والروسي القديم والمقبل في ظل الورطة الحالية؟ وكيف يمكننا التعامل أساسًا؟

هل هناك سينما تنبأت بالقصة؟ هل يمكننا أن نعتبر المآساة الأوكرانية الحالية هي حجر الأساس لإنتاج فن أوكراني مميز لأنه لا وجود لفن أصيل دون مأسآة كتلك؟ يمكننا المرور سريعًا على ذلك من وجهة نظر فنية الآن؟

لماذا الأدب الروسي؟

دون مزايدة كبيرة يمكننا اعتبار الروس من أشهر الأدباء كتابة فى أدب الحروب تحديدًا لسخرية القدر، المتابع لتاريخها الذي أنتج هذا الفن أنها مرت بالكثير من الحروب فى الفترة السوفيتية وما قبلها للقياصرة، ظلت روسيا على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين طرفا فى أكثر الحروب وحشية وعنفا داخل الحروب النابليونية فى بدايات القرن التاسع عشر، أو حرب القرم فى منتصف القرن ذاته، ثم أزمات نهاية النظام القيصرى.

بعد ذلك دخلت في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ثم الثورة البلشفية والحرب الأهلية ثم الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وما بعدها من حروب الاتحاد السوفيتى وصولًا لحروب أفغانستان فى الثمانينيات ثم حرب الشيشان فى التسعينيات، أدّى كل ذلك إلى أنه لم يعد مستغرب أن تخرج أشهر روايات الحرب من روسيا، مثل رواية الحرب والسلام التي ترصد أحوال المجتمع الروسى وقت حملات نابليون على روسيا فى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، في إطار فني شاعري خلّدها صاحبها في إطار حكاية حول مآساة الحرب.

يمكننا البدء من عند “الدون الهاديء” التي قدم خلالها الروائى الروسى ميخائيل شولوخوف الحائز على جائزة نوبل فى الأدب، رائعة روائية مكونة من أربعة مجلدات، تدور حول التحولات العميقة التى ضربت المجتمع الروسى إبان الحرب العالمية الأولى، وما جرّته من هزائم لروسيا دفعت الأمور للانفجار فى شكل ثورة أسقطت النظام القيصرى، على حساب المناشفة صعد البلاشفة إلى قمة السلطة، والحرب الأهلية التى شهدتها روسيا بين البلاشفة ومعارضيهم تحديدًا المناشفة، ولم يعمد شولوخوف إلى الترويج للشيوعية بل عمل على تشريح المجتمع السوفيتى، والانحياز للمعاناة الإنسانية.

وصولًا إلى رواية “الثلج الحار” (1969)، للروائى الروسى يورى بونداريف، الذى شارك فى الحرب العالمية الثانية، وقدم فى روايته تفاصيل غير منشورة من أشهر معارك الحرب العالمية الثانية؛ معركة ستالينجراد، والتى شهدت أول هزيمة ألمانية حاسمة وعكست مسار الحرب فى أوروبا، لكن بكلفة باهظة بشريا فى الجانب الروسي، وقدم بوندرايف روايته فى إطار يمزج بين اليوميات والسرد الروائي، لكن الأهم أنه خلص من تيار التضخيم والأساطير الذى شاع فى أدب الحروب الروسى فى الفترة السوفيتية، ما أكسب عمله الفذ والاستثنائى مكانة خاصة فى الأدب العالمى، مثلما حلل وكتب الباحث المصري حسن حافظ في حديثه عن الوضع.

إلى جانب ذلك تكوّمت عشرات الكتب الأدبية الروائية والنقدية قبل السينما وأثناءها لإعادة إنتاج الفن من قلب المأسآة أو المآسي التي قابلتها روسيا على مدار عشرات السنوات، كانت الأزمة هي الداخل لإنتاج فن روّجت روسيا لنفسها من خلاله لعشرات السنوات بعدها، لم يكن صعود قصص لتشيكوف مثلًا بعيدًا عن وضعها في إطار أكبر لمجتمع لم يستعد شتاته سوى بإنتاج فن يفهم ذاته من خلاله وينقلها للعالم.

الحرب وحدها أنتج هذا الذهب الفني الذي يحكي صراع الإنسان عمومًا مع حياته والعالم الذي يتجاوزه، تربعت روسيا على عرش الأدب من خلاله، وفي لحظة حاسمة كتلك وجدنا أدب يحكي عن الإنسان الروسي ما قبل بوتين الشرير بينما لم نجد كثيرًا ما يمكننا من فهم المجتمع الأوكراني، لماذا؟ ببساطة لأنه لا يوجد أدب أو سينما يحكي قصتهم للعالم، أو ربما لا يزال مستجد لم يخمُر بعد.

أين أوكرانيا؟

ثمة شيء دعا الجميع لإعادة التفكير مرة أخرى في التعامل مع الفن عمومًا عندما أعلنت جامعة بيكوكا الإيطالية عن قرارها المثير للجدل حول منع تدريس روايات أهم أديب روسي فيوديور ديستوفيسكي بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الاستنكار الذي قوبل به القرار أدّى إلى التراجع عنه فورًا إلا أن هذا القرار ما زال يحتل مكانًا كبيرًا في مناقشات الوسط الثقافي العالمي، نظرا للمكانة المرموقة التي يحتلها أدب العملاق الروسي ديستوفسكي على المستوى العالمي والأدب الروسي عمومًا، وهو ما جعل مثل هذا القرار بمثابة ضرب من ضروب الخيال.

مشروع كاسندرا ينتصر

لم تحضر أوكرانيا كمنافس فني قوي قديم أو حديث لعدم وجود أرشيف أدبي أو سينمائي يحكي شعبها للعالم، كان المنقد في تلك الحالة بعض السينما التسجيلية أو الروائية التي تحكي سياق وتوقع المآساة معهم وروسيا تحديدًا، لكنه على كل حال أنتج سينما حقيقية إلى جانب كونها جرس إنذار مثلما حدث مع مشروع كاسندرا الذي تحدثنا عنه في البداية.

لم تكن هناك سينما عندما أنتجت روسيا ما يعبّر عن مأسآتها، كان الأدب هو ملاذها الوحيد، لكن القياس ذاته الذي يمكن قياس الأدب يصلح للسينما لذلك سنحاول حدائيًا الوقوف على نماذج سينمائية تعبّر عن الأمر ذاته، لأنه إذا كان للأدب أن يكون الوسيلة الأصلح قديمًا فقد باتت السينما هي الأكثر إغراءًا لوصول إنتاجات أصاحبها لعدد أكبر بالطبع لتصبح أكثر تأثيرًا.

تنبأت السينما وحدها بالمأسآة، أو بنت هذا التنبؤ على معطيات واضحة تمامًا، لكنها على كل حال صورت المآسآة قبل حدوثها، سبقت بخطوة ما كان يحدث سابقًا.

سنحاول في المقالة القادمة الوقوف على عدد ليس قليل من تلك النماذج التي مجدت وتوقعت الأمر سواء في روسيا أو في أوكرانيا، مستمدين إلهامنا من منطقة توقع رفض أدب أو فن دولة ما نتيجة إجرام رئيسها، ومعتمدين على مشروع جعل العمل الفني يمكن رقمنته وحساب نتائجه وجدواه.