(1)  

هل الحرب من أفعال الشر؟

إذا كانت الإجابة “نعم”، فلماذا إذن ارتبطت أمجاد الشعوب وسيرة أبطالها بالحروب؟، لماذا كانت المعرفة والتقدم والتطورات الاجتماعية والعلمية مرتبطة دوما بالحروب؟

صحيح أن هناك جانبا وحشيا للحرب، وهناك دمارا وقتلا وتشريدا، لكن هذا يحدث أكثر في فترات السلم، والحالة المصرية ليست بعيدة عن ذلك، فنحن من الدول التي هزمها استرخاء السلام بأكثر مما هزمتها الحروب.

في هذا الإطار أتذكر الشاعر والثائر الكوبي المحب للعرب “خوسيه مارتي”، وكنت قد كتبت عنه مقالا تعريفيا في نهاية السنوات الرومانسية قلت في مقدمته: “عار على العرب ألا يعرفوا خوسيه مارتي”، لكنني في مقال لاحق اشتبكت مع مقولة للثائر اللاتيني يقول فيها: “مجرم من يخوض حربا يمكن تفاديها”، ورأيت أنها مقولة ناقصة تكتمل بإضافة الطرف الثاني من المقابلة لتصبح: “وأشد إجراما وجبنا من يتفادى حربا لابد من خوضها”.

من هذه الرؤية التي تراعي الوجهين المتقابلين أكتب عن الحرب، ليس الحرب في أوكرانيا وفقط، لكن عن كل حرب: عن الحرب التي تخوضها بلادنا الآن (الحرب ضد الإرهاب)، والحرب التي تتغافل عن خوضها (الحرب من أجل الكرامة الوطنية والاستقلال التام أو الموت الزؤام)، عن الحرب التي يمكن تسميتها “عادلة”، وعن الحرب التي نعتبرها “عدوانية” و”شريرة” و”مشينة”، ولا أتحدث هنا عن الحرب التي أخوضها أنا وأنتم على المستوى الشخصي، ولا عن الحرب التي نتعرض لها في حياتنا، لأن الحروب الحديثة تشترط أن تكون بين دول وليس بين أفراد ولا جماعات، وفي كل الأحوال لا يهمني كثيرا النتيجة العسكرية للحرب، لأنني ممن يهتمون بالنتائج الاستراتيجية طويلة المدى، فكم من انتصارات عسكرية انتهت إلى تراجع جيوشها ومجتمعاتها، وكم من هزائم عسكرية أفضت إلى تقدم البلدان المهزومة عسكريا، وأثق أنكم لا تحتاجون إلى أمثلة، لأن لديكم الكثير منها.

(2)  

أي طرفٍ نُشَجِّع؟

أتفهم النظر للحروب كمباراة ينحاز فيها الناس إلى هذا الطرف أو ذاك، وهذه النظرة ليست فردية أبدا، لكنها تنطبق على الدول والأنظمة السياسية وتدخل في حسابات الأفق السياسي للدول، كما في حساب الأمنيات الشخصية للأفراد، ومراجعة سريعة لتاريخنا تكشف عن هذا الانقسام المفهوم بين المشجعين، ففي الحربين العالميتين مثلا، كان لدينا قطاع كبير مع الفريق الجرماني، ربما بسبب التبعية للعثمانيين الذين كانوا حلفاء للألمان، وربما بسبب الرغبة في التخلص من الإنجليز المستعمرين، وربما بسبب غلبة تأثير المدرسة العسكرية الألمانية نتيجة دراسة حكام مصر من أولاد محمد علي في النمسا وسويسرا واستقدام جنرالات من هذا الجانب للعمل في البلاط الخديوي وفي الجيش نفسه، وربما بسبب الانحياز الفطري لقوة جديدة تنافس القوى الجاثمة على النفوس وهو ما تمثل في الإعجاب المتزايد بشخصية هتلر في الحرب الثانية بين قطاعات كبيرة من المتعلمين والناس العاديين، في المقابل كان المراهنون على انتصار الإنجليز ينطلقون من أمنيات نفسية ووعود سياسية بمنح مصر استقلالها مكافأة في حال تعاونها مع الحلفاء في الحرب.

أتفهم هذا كله، ولا أرغب في مناقشة “حق الجمهور في التشجيع”، لأن المقال لا يستهدف تحريض مشجع ضد الفريق الذي يناصره، ولا يستهدف دعوة أحد لتشجيع فريق آخر، بل يستهدف الحديث عن اللعبة نفسها، فمن حقك أن تشجع وأن تتمنى النصر لفريقك ضد الفريق الآخر، لكن كيف الحال عندما لا تكون مشجعا؟.. كيف تفكر وتتصرف عندما تكون مشاركا في اللعبة؟، ما هو سلوكك وفكرك وخططك كلاعب وكفريق وليس كمشجع؟

أعتقد أن الإجابة النهائية البسيطة والصحيحة هي “أن تلعب”، وأيضا بصرف النظر عن حسابات النصر والهزيمة، يجب أن تلعب، لأن هذه هي الفكرة الأساسية للمشاركة، بينما التشجيع فعل مظهري تجاري لاستكمال طقوس اللعبة وتوسيع شعبيتها، ومن هنا يتضح سر تعبير “عن الحرب” الموجود في العنوان والمكرر بشكل ملحوظ في السطور السابقة، وهو عنوان أهم مرجع فكري وقانوني وفلسفي واسترتيجي للحروب الحديثة، يتمثل في ثلاثة مجلدات نشرتها بالألمانية الكونتيسة “ماري فون بروهل” بعد وفاة زوجها الجنرال  “كارل كلاوزفيتس” قبل أن يتم مشروعه العظيم “عن الحرب” في الثلث الأول من القرن الـ19، وهذا الكتاب بمثابة “إنجيل الحروب الحديثة” بعد الكتابات القديمة لليوناني “ثوسيديدس” والصيني “صن تسو”.

(3)

عن الحرب التي كتبت علينا وهي كره لنا

كانت معظم الدراسات قبل كلاوزفيتس تقول بأن الحرب “نزعة عدوانية” متأصلة في الطبيعة البشرية، بمعنى أن الإنسان “وُلِدَ ليقتل” بتعبير أوليفر ستون في عنوان فيلمه الشهير، أو أنه “إما قاتل أو مقتول” بتعبير دارون الذي اعتبر العدوان غريزة أصيلة في كل الكائنات الحية، (والبقاء لمن يأكل الآخرين في الصراع المحتوم)، وهناك من يذكرنا بأننا أحفاد قابيل (أول قاتل بشري) وبالتالي فإن القتل “موروث إنساني” موجود من قبل السياسة والجيوش، ولا يغيب فرويد عن هذا المحفل  فيعتبر الميل إلى العدوان طبيعة نفسية لدى الأفراد والشعوب، حيث تتغلب غريزة حب الموت (الثاناتوس) على غريزة حب الحياة (الإيروس) ودائما تنتصر الكراهية على الحب في أي تجمعات بشرية، فالغيرة أسهل من التعاون والحقد أسهل من التسامح، وإذا نقلنا الحديث إلى المستوى السياسي نجد أفكار الإنجليزي الخطير توماس هوبز في القرن 17، أبرز المفكرين الذين ربطوا ظاهرة الحرب والنزعة العدوانية بالطبيعة البشرية معتبرا أن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” لذلك يتحرك بين دافعين: السعي إلى املاك السلطة وهو ما يقود حتما إلى الحرب، أو الخوف من الخطر وهو ما يقود حتما إلى الانصياع والتبعية.

هذه النظرة للحرب كفطرة إنسانية رفضها كلاوزفيتس، فالحرب عنده “امتداد مسلح للسياسة”، بمعنى أنها ليست طبيعة بشرية كما قال داروين وهوبز، ولا هي كما أشار فرويد غريزة نفسية يمارس فيها الأقوياء العنف ضد الضعفاء أو يذهب فيها الناس إلى الموت استجابة للإله “ثاناتوس”، لكنها مرحلة متطورة من الصراع بين الأمم يتم فيها استبدال الكلام بالسلاح واستبدال الجدال بالقتال، لذلك فإن فهم أي حرب (عادلة أو عدوانية؟) يقتضي مراجعة أرشيف السجال السياسي بين الطرفين، وأعتقد أن نقطة الصفر التي انفجر فيها الصراع الروسي الغربي لم تكن في فبراير الماضي ولا يوم التدخل العسكري في القرم، لكن في عام 2007 عندما أعلن بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن رفضه للسياسة الخارجية الأمريكية في أوروبا الشرقية، وحذر من النتائج المترتبة على ذلك، وهو  الخطاب الشهير الذي قوبل بهجوم كلامي عاصف من جانب المسؤولين الأمريكيين وتجاوز فيه جيتس حدود اللياقة الرسمية واصفا خطاب بوتن بأنه كلام جاسوس قديم قاتل، ولعل أهمية ذلك التاريخ هي التي جعلت الاتحاد الأوروبي يعترف قبل يومين فقط بأخطاء الغرب في حسابات التصعيد التي أدت إلى المواجهة الجارية على الأرض الأوكرانية، مذكرا بتحذيرات بوتن القديمة وتمادي الغرب في تجاوز الاتفاقات والخطوط الحمراء للدول الأخرى.

(4)

هل توجد حرب عادلة وأخرى مجرمة؟

قبل أن تتسرع في الإجابة تذكر أن كل حرب هي عادلة من وجهة نظر من يشنها، فكل طرف يعتبر قتلاه في الحرب “شهداء حق”، ويعتبر قادته المنتصرين أبطالا، بينما يعتبرهم الخصم مجرمين سفاحين، لكن هذا لا يعني عدم وجود قواعد تحدد نظريا مفهوم “الحرب العادلة” وإن كانت الحرب في جوهرها ممارسة واقعية ضد كل القواعد والقوانين، بل إنها قادرة في أغلب الأحوال على هدم القواعد وفرض قواعد جديدة تقدمها باعتبارها “الحق”، لذلك لا يجب ألا ننسى الشعار البرجماتي الأمريكي الذي يقول “القوة تصنع الحق”، كما لو أن دارون هو الذي كتب الشعار الذي تم تطبيقه على الهنود الحمر والأسبان واليابان وفيتنام والعراق وأفغانستان وحديقة أمريكا الخلفية في أمريكا اللاتينية.

لكن لا بأس من الاستمتاع الثقافي بالتعريف (النظري) لمفهوم “الحرب العادلة”، الذي يقر معظم الباحثين أن أول تدوين له ورد في ملحمة ماهابهاراتا في الهند القديمة، حيث دار النقاش بين الأخوة الخمسة حكام أسرة (الباندافاس) عن مدى أخلاقية الحرب مع أولاد عمهم (الكاورافاس)، فقد سأل الأخ الأصغر: كيف أشعر بالحق والعدل بالرغم من الأهوال التي تجلبها الحرب؟

ودرات النقاشات المدونة بالسنسكريتية لتحديد شروط الحرب العادلة أو الجيدة أو المستحقة (دارما يودا) وملخصها هو:

“التناسب” بمعنى لا تضرب الأعزل بالسيف ولا يقاتل الفارس جندي مشاة، و”الأساليب النظيفة” بمعنى لا تستخدم السهام المسمومة أو الغش أو تلوث آبار الماء، و”الأسباب العادلة” بمعنى ألا تكون الحرب بدافع الانتقام أو الغضب، لكن لأسباب جيدة ومقبولة أخلاقيا، بالإضافة لتوفر شرط النوايا السليمة ونية السلم في حال التوصل لحلول، بالإضافة إلى احترام الأسرى والجرحى والمدنيين العزل، والشرط الأهم لكي تكون الحرب عادلة أن تكون هي “الحل الأخير” بعد استنفاذ كل محاولات الحصول على المطالب بوسائل أخرى.

الشروط التي ذكرناها ليست بعيدة عن التبرير الدبلوماسي والإعلامي للحروب الحديثة كلها من الحروب النابولينية التي ألهمت كلاوزفيتش موسوعته، إلى الحروب البوشية وأخيرا البوتينية، فكما قلنا يتصور الجميع أن حربه عادلة بينما يصفها الخصوم بأنها “غزو” و”عدوان” و”احتلال” (لنتذكر مثلا المعضلة التاريخية التي لم يتوقف فيها السجال عندنا هل دخول العثمانيين مصر غزو أم فتح؟).

وفي ذلك ينبه كلاوزفيتس إلى عدم الخلط بين الحرب والعدوان، فالحرب عنده صراع سياسي بين الدول له مرجعية واضحة في المصالح والأفكار، بينما العدوان عمل إجرامي قد تقف حدوده عند السلب والنهب والانتقام، وهذا الخلط من الأخطاء التي لم تتبلور أيام ابن خلدون عندما كتب عن الحرب ووضع بينها غارات القبائل والأعراب في العصور القديمة بغرض السلب والنهب أو الانتقام أو المكايدة والغيرة من المكانة والسمعة وخلافه، وإن كان قد استدرك وفرّق بعد ذلك بين ما أسماه “حروب البغي والفتنة” و”حروب العدل والجهاد”، مع مراعاة أن مفهوم “حرب الجهاد” شهد تحولات كبيرة مع الزمن، فقد كان ابن خلدون ينظر للحروب العقائدية نظرة إيجابية تحفيزية مشروعة تضع في حسبانها الفتوحات الإسلامية، لكن هذا المديح لـ”حروب الجهاد” لا ينطبق في نظرنا (ونظر ابن خلدون لو عاصرها) على الحروب الصليبية والحروب الدينية بعده، لهذا وصل “الجهاد” اليوم إلى منطقة الحظر والتحريم والهجاء العنيف، وصارت كلمة “جهادي” تعني “إرهابي”، وصار المثل المذموم هو “حرب التوحش”، أو “إدارة التوحش” كما ورد في الكتالوج المؤسس لتنظيم الدولة (داعش) ضد كل المخالفين للعقيدة كما يراها التنظيم وفقط، باعتباره “كيان صحيح وحيد في عالم مخطيء” ويمكن القول “تنظيم مؤمن في مواجهة عالم كافر”!

كل الحروب إذن تبرر أسباب نشوبها وتضحياتها ومقدار الأهوال والمآسي التي يتعرض لها الناس، حتى إن هيجل اعتبر كل ذلك من طبيعة الأشياء، بل نظر إليه نظرة إيجابية من منطلق مبدئه الشهير “كل فكرة تحمل نقيضها بداخلها”، لذلك فإن الحرب مقدمة لسلام سيتحقق بعدها، كما أن الفوضى التي تتسبب فيها الحروب تنتهي إلى نظام جديد على أنقاض نظام قديم فاشل لم يف بالتزاماته، وكذلك فإن الدمار والخرب ينتهي إلى بناء وإعمار أكثر ملاءمة للتطورات الهندسية والتكنولوجية والاحتياجات السكانية في العصر الجديد، وطبعا يتحدث هيجل عن الحرب كمرادف للدولة، فالحروب الحديثة حروب دول وليس حروب جماعات أو أفراد، لذلك فإن الحروب الحديثة (العادلة) تتعلق دوما بضرورة سياسية عظمى هي “حفظ الدولة لوجودها وسيادتها” وعدم تعرضها للخطر، وهو ما يبرر به بوتن حربه الأوكرانية باعتبار السكوت عما يدور في الجوار الأوكراني جريمة تخاذل وإهمال لأمن الدولة الروسة وسيادتها.

(5)

كيف نتخذ موقفا وطنيا من الصراع الدائر؟

لاشك أن المقولات متداخلة، لكن التناول الاستراتيجي لمشهد الحرب باعتباره “فعلا سياسيا تمارسه دول” ينقلنا من مربع التنافس في إطار تشجيع الفتوات المتصارعين، إلى سؤال: ماذا علينا نحن؟، وكيف نفكر ونتصرف كدول لتحقيق مصالح السيادة وحفظ أوطاننا؟، وكيف نتحرك في المحيط الإقليمي والدولي باعتبارنا جزءا من الصراع نستهدف تحقيق مطالب استراتيجية تخص مصالحنا، بدلا من المتابعة والتمسك بمواقف وعلاقات ما قبل الحرب، علينا أن نتعامل مع اللحظة باعتبارها صراعا يفضي إلى جديد يجب أن نحصل فيه على مكانة أفضل ومكاسب أكرم، وأعتقد أن مصر من الدول التي تتعرض لمخاطر أشد عشرات المرات من المخاطر التي دفعت بوتن لخوض حرب (لا يمكن تفاديها)، لذلك يجب أن نسأل: إلى متى نتفادى حروبا يجب خوضها لحماية سيادة بلادنا وأمننا القومي؟

وحينها يصبح للوطن معنى أجمل وأعمق، وللسلاح الذي (نحرص على شرائه باستمرار) قيمة سياسية وأمنية، وللجيوش مكانة عظيمة في وجدان شعوبها.

وللحديث عن الحرب بقية، فما الحديث عن أوكرانيا إلا تكئة لنقترب من النقاش حول مفاهيم الصراع وحقائق الأمن القومي وضرورة الحرب كحل أخير لابد منه إذا فشلت المفاوضات واجتماعات التوسل على موائد العبث وقلة القيمة.

وفي المقال المقبل ندخل قلب الصراع