أسمع البعض يسأل: وهل هذا وقت الحديث في مثل هذه القضايا؟ وإجابتي: نعم هذا «حديث الوقت»، وهو «واجب كل وقت» حتى يتحقق لمصر «الديمقراطية» التي تستحقها، بل أقول إننا تأخرنا طويلًا في إدراكه، بأمل إخراج مصر من جعبة الحكام الذين يتتابعون عليها، يورثونها لأنفسهم، يتحكمون فيها، لا يحكمونها، وليس لهم هَمٌّ غير الاستمرار في الحكم حتى القبر.

انظر حولك، وتفكر قليلا في المآلات التي انتهت إليها الانتفاضات الشعبية الكبيرة في الوطن العربي، ما الذي جرى لها وفيها؟

هذا سؤال كبير، وإجابته تحتاج إلى دراسات معمقة، وبحوث متعددة التخصصات، مهمتها أن تكشف لنا عن السر وراء أن تقف كل هباتنا العربية عند نقطة أسوأ مما كانت قبلها، لماذا كل محطات الوصول لانتفاضات الشعوب العربية تكون مُشرعةَ على المجهول المخيف، أو مُفضيةً إلى الأوضاع الأكثر سوءًا وأشد ترديا؟

«تونس التي كانت هي الإجابة، لم تعد كذلك، وهي اليوم لم تعد مرشحة لأن تقدم نموذجا يحتذى به على اتساع الرقعة العربية، وما تزال تتخبط في مشاكلها الموروثة من تحكم الفرد الواحد في قرارها، وبعدها «السودان» الذي قدمت تجربته على مدار العامين الماضيين على فكرة التعايش بين المكونين المدني والعسكري انتهت إلى انقلاب العسكريين على التجربة، وفتح المجال مرة أخرى للعودة مجددا للسيرة القديمة التي ظننا أنها صارت بالية.

أما في مصر فحدث ولا حرج.

**

سلطة الفرد الواحد وتحكمه ما زالت مغرية، وهي أسهل الطرق، وأيسر أنظمة الحكم المنتشرة في بقاع العالم المتخلف، وما زلت أذكر كلمات رئيس الوزراء الماليزي الشهير «مهاتير محمد» في القاهرة بعد أقل من ستة أشهر على اندلاع «ثورة يناير»، وهو يحذرنا من أن الديكتاتورية أسهل من الديمقراطية، فالنظام السلطوي لا يعترف بالقيود على حكمه، ولا يهمه غير تكريس هذه السلطوية واستمرارها، أما الديمقراطية فهي توزع السلطات وتضمن التعاون بينها، وهي لكي تتحقق وتنجح تحتاج وعيًا جماعيًا بقواعدها وضروراتها والالتزام بما تفرضه من نظم وآليات وقيود على الجميع.

**

كانت الجمهورية البرلمانية مطروحة في السنوات الأولى من عمر ثورة يوليو سنة 1952، ولعل كثيرون لا يعرفون أن «محمد نجيب» هو أول وآخر رئيس لما سُمي وقتها «جمهورية مصر البرلمانية»، وهي الجمهورية التي لم يكتب لها أن ترى النور حتى يومنا هذا.

القصة بدأت مبكرا، بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1952 صدر إعلان دستوري من القائد العام للقوات المسلحة بصفته رئيس حركة الجيش بسقوط دستور 1923 أكد على ضرورة وضع دستور جديد يمكن للأمة أن تصل إلى أهدافها حتى تكون بحق مصدر السلطات.

عقب هذا الإعلان شُكلت لجنة لوضع الدستور برئاسة علي ماهر وضمت 50 عضوًا منهم 4 من الوفد، و2 من الأحرار الدستوريين، و2 من السعديين، و3 من الإخوان المسلمين، و3 من الحزب الوطني، بالإضافة إلى رؤساء وممثلين عن الهيئات الدينية والقضاء والجيش.

وفي 16 يناير سنة 1953 صدر إعلان الدستور من القائد العام للقوات المسلحة بصفته رئيس حركة الجيش أعلن فيه حل جميع الأحزاب السياسية وحظر قيام أي أحزاب جديدة، وبدء فترة انتقالية لمدة 3 سنوات حتى نتمكن من إقامة حكم ديمقراطي دستوري سليم.

وفي 10 فبراير سنة 1953 صدر إعلان دستوري جديد من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش أكد فيه أن جميع السلطات مصدرها الأمة، وأعاد التأكيد على الإيمان المطلق بضرورة قيام نظام دستوري وديمقراطي كامل الأركان، إثر الفترة الانتقالية.

ولكن هذا الإعلان يعد هو التأسيس لما استقر عليه نظام الحكم في مصر بعد ثورة يوليو، وقد احتوى على المبادئ الأولية في تنظيم الدولة، التي استمرت في كل دساتيرها وكان نواة دمج السلطات الذي تم لحساب الجهاز التنفيذي للدولة (السلطة التنفيذية).

وبتاريخ 27 فبراير سنة 1954 صدر أمر بتعيين رئيس لجمهورية مصر البرلمانية من مادة وحيدة: يعين السيد اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا لجمهورية مصر البر لمانية.

**

حين وضعت لجنة الخمسين المكلفة من قبل مجلس قيادة الثورة مشروع دستور سنة 1954 جاء النص في بابه الأول الذي يتكون من مادة وحيدة، على أن مصر دولة موحدة ذات سيادة وهي حرة مستقلة وحكومتها نيابية برلمانية. وربما كان هذا النص هو أهم ما ميز هذا الدستور بين دساتير ما بعد ثورة يوليو 1952، وربما كان أيضًا هو السبب الرئيس لرفض مجلس قيادة الثورة مشروع هذا الدستور الذي انحاز للجمهورية البرلمانية بما يعنيه ذلك من تحديد سلطات رئيس الجمهورية والتوسع في سلطات الحكومة التي يشكلها رئيس الجمهورية بعد استشارة ممثلي الجماعات السياسية، كما نصت مواد الباب الثالث، باب السلطات.

**

في أول دستور بعد ثورة يوليو 1952 ترسخت أسس نظام رئاسي جرى تفصيله على مقاس الزعامة الشعبية ممثلة في جمال عبد الناصر، وكانت النتيجة هي نظام سياسي مغلق حسب توصيف عبد الناصر نفسه، وكان هو أول من فكر في إجراء تعديلات على هذا النظام.

في أعقاب هزيمة يونيو 1967 فكر عبد الناصر في إدخال تعديل جوهري على طبيعة النظام السياسي القائم، وكانت فكرته تقوم على السماح بتكوين حزب معارض، يكون له جريدة تعبر عن رأى الحزب، وقال: (ومن ناحيتنا إحنا نعيد تنظيم صفوفنا ونعمل حزب الاتحاد الاشتراكي، ثم ننهى الدورة البرلمانية الحالية، وتجرى انتخابات جديدة في شهر ديسمبر هذا العام، على أساس قائمتين للحزبين، ومن يكسب الانتخابات يستلم الحكم، والثاني يشكل المعارضة، على أن يبقى الجيش والبوليس كجهازين محترفين).

بدا «عبد الناصر» مقتنعًا بشده بالقصور الذي تبدى في فكرة التنظيم السياسي الوحيد، بل قالها بوضوح: (أنا ضد نظام الحزب الواحد لأنه يؤدي غالًبا إلى قيام ديكتاتورية مجموعة معينة من الأفراد).

كانت أخطار استمرار «النظام المقفول» ماثلة أمام عينيه، فقال: (آخر كلامي في الموضوع، إذا لم نغير نظامنا الحالي سنسير في طريق مجهول).

ولكن المتواجدين في محيط السلطة رفضوا وسوَّفوا وأجلوا وضاعت الفرصة.

**

ومع رحيل عبد الناصر سنحت فرصة هائلة لإعادة تكوين النظام السياسي على أساس تنويع وتعدد مراكز السلطة، أقول كانت الفرصة سانحة بالفعل، لكن خلفاء عبد الناصر، حكمتهم خبرتهم السياسية الضعيفة، وتوازناتهم البلهاء، وطموحاتهم الشخصية، حال كل ذلك دون أن يعاد تركيب السلطة في مصر بمراعاة غياب الشخصية الكاريزمية لجمال عبد الناصر، ولست أنكر أن هناك العديد من الأسباب الموضوعية لم تكن لتسمح بمثل هذا الانتقال الكبير في مسيرة الوطن.

**

ليس ثمة رئيس واحد للجمهورية، منذ لحظة ولادتها، ترك موقعه بصورة طبيعية، دستورية أو قانونية، ولا تولى رئيس مهام منصبه، بدون أن يجري مذبحة سياسية لمعارضيه المحتملين، أو لأنصار وركائز من سبقه.

واستطاع أنور السادات أضعف المرشحين لخلافة عبد الناصر أن ينقلب على محاولة أركان النظام الذين جاءوا به إلى موقع الرئيس حين حاولوا أن يقيدوا قدرته على التصرف بدون الرجوع إلى المؤسسات التي يسيطرون عليها، ورآها هو من جانبه محاولة للحد من سلطاته التي ورثها عن الزعيم الراحل.

لعب السادات بعد الإطاحة بخصومه السياسيين على قضية الديمقراطية، وراح يتوجه إلى وضع دستور دائم للبلاد، فأنجز دستور 1971، الذي استمر في تبنى النظام الرئاسي، بل وخلع على منصب رئيس الجمهورية سلطات إضافية مستمدة من «نظرية الضرورة»، وجعله «الحكم بين السلطات»، وكرّس آلية «الاستفتاء الشعبي العام» كأداة لتثبيت سلطة رأس الدولة من خلال آلية شكلية في الرجوع إلى الشعب.

وتم تسليح هذه المنظومة الرئاسية التي يمكن وصفها بالاستبدادية، بمنظومة تشريعية كاملة، تبدأ من (قانون الطوارئ) أو ما يسمى كذلك، ولا تنتهي إلا وقد أحاطت بمفاصل النظام الدستوري كله.

وقد ورثت مصر منذ 1981 هذا النظام الدستوري المدجج بأسلحة تكريس السلطة كلها في يد الرئيس، وعلى رأسها فكرة إطلاق مدد رئاسة الجمهورية، وهو النظام الذي جرى تثبيته لاحقًا في عهد مبارك من خلال مجموعة شروط للترشح لرئاسة الجمهورية، بعد تحويل آلية تولى المنصب من الاستفتاء إلى الانتخاب التعددي، بحيث جعلت من المنصب المذكور حكرًا على الدائرة المغلقة للمجموعة الحاكمة المحصنة شكليًا من وراء تنظيم سياسي متمركز حول السلطة التنفيذية، هو الحزب الحاكم، الذي يرأسه رئيس الجمهورية، الرئيس الأعلى لكل السلطات.

**

اختفت فكرة «الجمهورية البرلمانية»، وظلت الفكرة تظهر وتختفي على فترات متباعدة حتى بدا أنها مطروحة بقوة في النقاش العام الذي جرى وصاحب عملية وضع دستور جديد للبلاد بعد ثورة 25 يناير 2011.

كانت هناك فرصة كبيرة لإحداث هذه النقلة في صناعة التوازن في تركيبة السلطة في مصر، ورغم إقرار دستورين، (2012، و2013) وإجراء تعديلات على دستور 2013 بعد أقل من أربعة أعوام على إقراره يبدو أننا ما نزال في مرحلة تأسيس مستمرة، وهي بنصوص دستورية ما تزال في حالة انتقالية، وما تزال تتطلع إلى الأفق الذي يتحقق عنده دولة الحرية والعدالة والكرامة، الدولة التي قامت من أجلها ثورة 25 يناير.

**

كل ما عشناه خلال العقد الماضي بدا وكأننا نعيش في قلب عملية مخاض كبيرة تتشكل في خضمها صورة مصر التي نريد، والتي طالما حلمت بها أجيال المصريين المتعاقبة، وفي ظني أننا ما زلنا في أمَّس الحاجة إلى صناعة توافق عام حول مضمون هذا التأسيس حتى يلتئم حوله المصريون.

وفي ظني أيضًا أن كل الفُرقة القائمة اليوم، وجميع الانقسامات المشتعلة نيرانها حاليًا، كلها بحكم طبيعة الأشياء، وبحكم قوانين التاريخ سوف تؤدي بنا في النهاية إلى هذا التوافق المطلوب على قواعد هذا التأسيس الجديد.

نحن على الحقيقة في صلب عملية تأسيس، وبناء دولة المستقبل، دولة كل المواطنين، دولة المواطن السيد في الوطن السيد كما نصت عليها ديباجة الدستور الحالي، وهو التأسيس الذي يستوجب نوعًا من التوافق العام حول «نظام دستوري» يضمن تخليق ممر آمن للعبور إلى الدولة الجديدة، يجعل مصدرية السلطات في يد الشعب على الحقيقة.

**

تجربتنا الطويلة مع النظم الرئاسية تؤكد أنها صيغة حكم، فضلًا عن أنها لم تحقق على الأرض شعار كل السلطة بيد الشعب مصدر السلطات، إلا أنها ظلت دائمًا مقدمة لتحكم الفرد واستبداد الحاكم.

السؤال الذي أطرحه للتفكير هو: لماذا نخشى من الدخول في «معمعة» النظام البرلماني، وهو نظام له في تاريخنا تجربة، وقبل ذلك له شرعية تاريخية مستمدة من ثورة الشعب في 1919.

أعرف أنه موضوع خلافي كثرت حوله وبسببه النزاعات الفكرية، وأعرف أنه خارج أي نقاش سياسي في الوقت الحاضر على الأقل، وأعرف كذلك أن الوضع الراهن لا يرشح لنقاش جاد وموسع حول الفكرة، فضلا عن تبني الحوار حولها.

ولكني أتوجه بحديثي إلى النخبة السياسية وأخاطب جمهور ثورة يناير المهتم بقضايا التطور الديمقراطي في مصر، وأخاطب هؤلاء الذين يسعون أو يتطلعون إلى تعزيز مكانة وفاعلية المجتمع المدني في مصر.

**

كلنا يعرف أن مصر تعاني أكبر المعاناة من موت السياسة، ومن غياب المشاركة الشعبية، ومن تغييب تعدد الأصوات، والاكتفاء بسياسة الصوت الواحد الذي لا يعلو عليه صوت.

وقد ثبت بالتجربة، والتجربة خير معلم، أن العيب ليس في نصوص الدستور، ولا في أحكامه، العيب ـ والتجربة شاهدة ـ يكمن في طبيعة النظام المركزي الفردي القائم على التسلط، وهي طبيعة تطيح بأي دستور مهما كانت نصوصه، أو تركنه من دون أن يرف لها جفن فوق رفوف المخازن العمومية لتعلوه أتربتها وتقرضه فئرانها.

صحيحٌ أنني أرى أن الجمهورية البرلمانية هي الممر الإجباري الذي علينا أن نعبره إلى ديمقراطية حقيقية، برغم ما فيه من عوائق ومعوقات، وبرغم ما يكتنفه من مخاوف وتخوفات، لكني أرى في نفس الوقت ضرورة أن يتصدى المهتمون بتطوير الحياة السياسية في مصر لمناقشة الفكرة وأن يؤصلوها، بما لها وما عليها، وأن يناقشوا بعقل مفتوح المخاوف التي تثيرها الفكرة، ويفحصوا ويمحصوا التخوفات التي يثيرها بعض الرافضين لها.

الأحد المقبل نناقش اعتراضات الرافضين.