شكل الغزو الروسي لأوكرانيا اختبارًًا لكشف حقيقة ولاءات تركيا بين المعسكرين الغربي والروسي. وقد أظهر أن أنقرة تتبع مسارًا براجماتيًا بحت، يقترب من الغرب بهدف الاستفادة من الأزمة الراهنة. وبصورة قاطعة، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفضه الهجوم الروسي على أوكرانيا، باعتباره “حربًا غير مقبولة”. ذلك فيما بدا إبراءً لبلاده من سياسات روسيا العدوانية، في محاولة استمالة الغرب. إلى جانب الجهود التركية المتواصلة لأجل المشاركة في خريطة الأحداث.

هذا الانتقال التركي من روسيا نحو الغرب كشفه تقرير حديث، نشره المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP). وذلك تحت عنوان “سياسة أردوغان البهلوانية: في الصراع على أوكرانيا، تركيا تتحرك بحذر نحو الغرب”.

اقرأ أيضًا: بنظرة براجماتية صرفة.. كيف يمكن للغرب كسر دائرة الصراع مع روسيا؟

تركيا وروسيا.. العلاقة بين بوتين وأردوغان

ترتبط تركيا مع روسيا بعلاقات وثيقة مكنتها من تعويض التهميش الدولي الذي تعرضت له من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وقد استثمرت تركيا إمكاناتها الجيوسياسية في شراكتها مع روسيا. الأمر الذي أكسبها نفوذًا دوليًا. على سبيل المثال، فعل ذلك خط غاز ترك ستريم، الذي جعل تركيا مركزًا استراتيجيًا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا.

كذلك على مستوى الداخل التركي، حصل أردوغان على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. ما مكنته من تثبيت مقاليد الحكم في يده.

ونتيجة تنامي العلاقات بين روسيا وتركيا على المستوى العسكري، وقعت تركيا تحت طائلة العقوبات الأمريكية. ذلك على خلفية شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400. كما علقت الولايات المتحدة مشاركة تركيا في برنامج تصنيع طائرات حربية أمريكية حديثة من طراز اف-35. ما ساهم في مزيد من التوتر بين تركيا والولايات المتحدة.

وقد أعطت العلاقات الروسية التركية بعدًا دوليًا لموقع تركيا. وقد ساعدها في المناورة بمهارة بين جبهات التنافس العالمي. وبالتالي تمكنت من توسيع نطاقها وتأثيرها بشكل كبير في غضون سنوات قليلة فقط. وإن كانت تتصرف بشكل تصادمي أكثر تجاه الدول الغربية لصالح شراكتها مع روسيا.

تركيا تتأرجح

استغرقت تركيا 4 أيام لتصنف الغزو الروسي على أوكرانيا باعتباره “حربًا”. ذلك في تحول مفاجئ تجاه الغرب، يبرره عدد من الأسباب لدى تركيا.

أول هذه الأسباب، المخاوف التركية من أن تتفاقم العقوبات الدولية المفروضة على أنقرة في حال دعمت روسيا. بينما ثانيها، التحديات الدولية التي تتعرض لها جميع دول العالم -وعلى رأسها تركيا في ظل الضغوط الاقتصادية المحلية. ومن هنا، يبرر الفعل التركي باعتباره ردًا على موقف روسيا الأحادي، الذي وضع الجميع في مأزق.

أما ثالث الأسباب وراء الموقف التركي من الحرب في أوكرانيا فإنه ينبع من فقدان روسيا صلاحيات بالجملة، قد تقوض نفوذها وقدرتها على دعم تركيا.

وقد تصاعدت الأصوات التركية الداعمة لأوكرانيا في موقفها أمام روسيا. وتحت تأثير ذلك مع الاتجاه الدولي لرفض هذه الحرب، أعلنت تركيا تأييدها ضم أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

وفي 2 مارس الجاري، انضمت تركيا إلى الغالبية العظمى من الدول في قرار إدانة الجمعية العامة للأمم المتحدة للغزو الروسي لأوكرانيا. وقد طالب روسيا بسحب جميع قواتها العسكرية بشكل فوري وكامل وغير مشروط من الأراضي الأوكرانية. كما دعمت أنقرة نشر قوة الرد التابعة لحلف شمال الأطلسي في دول الناتو المجاورة لأوكرانيا.

وفي سبيل الاستفادة على أغلب الجبهات، وتحقيق التوازن بين روسيا والغرب، لم تشارك تركيا في فرض عقوبات ضد روسيا. كما كانت تركيا الدولة الوحيدة في حلف الناتو التي امتنعت عن التصويت بشأن تعليق حقوق التمثيل الروسي في مجلس أوروبا. وأبقت مجالها الجوي مفتوحًا أمام الطائرات الروسية، بعد أن حظرت 38 دولة على مستوى العالم شركات الطيران الروسية من دخول مجالها الجوي. ما جعل تركيا السوق الدولية الرئيسية للطيران الروسي. حيث تستحوذ على نسبة 17.3 % من الرحلات الجوية. وذلك بإجمالي 5 رحلات مباشرة يوميًا إلى موسكو على مدار الأسبوع.

اقرأ أيضًا: ماذا سيحدث لطائرات غربية استأجرتها شركات النقل الروسية؟

أدوات تركيا

في ظل المواجهة القائمة بين روسيا والغرب، اكتسبت تركيا نفوذًا إقليميًا ودوليًا واسع. وقد حاولت توظيف أدواتها لتحقيق أكبر قدر من المنافع، مع إيلاء اهتمام نسبي في مسألة أي جبهة ستحسم الصراع.

وفي 28 فبراير الماضي، صرح أردوغان بـ”إن تركيا لا يمكنها التخلي عن علاقاتها مع روسيا أو أوكرانيا، وعلى الرغم من كل الظلم والمعايير المزدوجة التي تعرضنا لها، فإننا لا نتنازل عن التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي لدينا”. ويمكن تفسير هذا الموقف التركي في التعاطي مع الأزمة وفقا لعدد من الأدوات:

حصل أردوغان على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. ما مكنته من تثبيت مقاليد الحكم في يده.
حصل أردوغان على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. ما مكنته من تثبيت مقاليد الحكم في يده.

معاهدة مونترو

وضعت معاهدة مونترو في عام 1936 لتنظيم مرور السفن الحربية عبر مضيق الدردنيل والبوسفور إلى البحر الأسود. ونصت على وجوب إغلاق الممرات المائية أمام سفن مختلف الأطراف في حالة النزاعات، وتكليف أنقرة بتطبيق لوائح المعاهدة.

ومن هنا، شدد الغرب على ضرورة التزام تركيا بتطبيق المعاهدة. وفي ظل الأزمة الدائرة، اتخذت تركيا موقفًا قاطعًا تجاه هذه المسألة بهدف عدم الانجرار إلى هذه الحرب، وتجنبًا لمزيد من العقوبات. إذ أكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، أن بلاده تلتزم بما تنص عليه معاهدة مونترو، باعتبار أن تركيا تملك صلاحية منع عبور السفن الحربية التابعة للدول المتحاربة، حتى لو لم تكن طرف في الحرب.

وعلى الفور، أخطرت جميع الدول المطلة وغير المطلة على البحر الأسود بعدم مرور السفن الحربية من مضيقي البوسفور والدردنيل. وهو ما يتناقض مع رغبات روسيا في مرور السفن الحربية عبر مضيق البوسفور.

علاقة تركيا بأوكرانيا

تتعاون تركيا عسكريًا مع أوكرانيا. وقد أبرم الطرفان صفقة 6 طائرات مسيرة تركية من طراز “بيرقدار-تي بي 2” في يناير 2019. وهي الطائرات التي استخدمتها أوكرانيا لمواجهة الانفصاليين في إقليم دونباس في أكتوبر 2021، وتستخدمها حاليًا في مواجهة روسيا داخل أوكرانيا. وقد أثبتت كفاءة قصوى في العمليات العسكرية، كما أعلن الجانب الأوكراني.

أيضًا، تعاقدت أوكرانيا في ديسمبر من العام الماضي على صفقة 20 طائرة مسيرة تركية. فضلًا عن توقيع اتفاقية تعاون في مجال تطوير الطائرات المسيرة بين شركة “بايكار” التركية وشركة “إفشينكو بروغراس” الأوكرانية. وهي تسمح بتزويد الطائرات التركية وصواريخ كروز المصنَّعة في تركيا بمحركات أوكرانية.

وخلال زيارة أردوغان إلى كييف في 3 فبراير من العام الحالي، في إطار رئاسة المجلس الاستراتيجي العاشر رفيع المستوى بين البلدين، وقع البلدان اتفاقًا لتصنيع طائرات درونز تركية في أوكرانيا. ذلك إلى جانب اتفاقية التجارة الحرة، التي ستدخل حيذ النفاذ في 1 يناير 2023.

تفعيل دور الوساطة

ساهم الغزو الروسي على أوكرانيا في إعادة ترتيب أولويات تركيا السياسة الخارجية. ومن هنا، اتجهت تركيا إلى لعب دور الوسيط. فتركيا عضو في حلف الناتو، كما تحتفظ بعلاقات جيدة مع روسيا وأوكرانيا عل حد سواء. ما يزيد من قدرتها على تحقيق أثر ملموس للوصول إلى تسوية بين البلدين.

ومن البداية، حرص الرئيس أردوغان على الاتصال بالرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، لمتابعة ما آلت إليه المفاوضات بين الوفدين الأوكراني والروسي في بيلاروسيا. كما استضافت تركيا جولة المفاوضات بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الأوكراني دميترو كوليبا في 10 مارس.

وبناءً على ما تقدم، أتاح الغزو الروسي على أوكرانيا فرصة كبيرة أمام تركيا لتوظيف تفاعلاتها مع كافة الأطراف. بما يسهم في إمكانية حصولها على الدعم الأوروبي في بعض الملفات، مثل الملف الكردي، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وملف تعزيز التعاون العسكري والصناعات الدفاعية المشتركة، وحدود دورها في منطقة شرق المتوسط. وذلك كله يخدم النهج البرجماتي الذي تتبعه تركيا مع شركائها حاليًا.