اعتبر مارس شهر العقاد، ليس لأنه توفي في الثاني عشر منه فحسب، وإنما لأن مارس شهر الربيع، ولأن الربيع موضوع العقاد الأثير في الوعي المعرفي والجمالي والاحتفاء بقيمة الحياة ومعنى الإضافة إليها.. لنتذكر في هذه الأيام رموز النهضة، ليس لأنهم يستحقون ذلك فحسب، وليس لأن الذكرى تنفع الناس، وإنما لأننا نستحقّ أن نتذكر هذه التجربة التي شكَّلت وجداننا وعقولنا، بل وبلورت ما يمكن وصفه بـ”الهوية المصرية” المعاصرة، وحددت مسارات الثقافة المصرية في علاقتها بتراثها من ناحية وفي علاقتها بالوافد الغربي من ناحية ثانية، وفي وعيها بحاضرها المعيش من ناحية ثالثة.
لقد قدّم لنا أساتذة النهضة عشرات الأسماء في مختلف المجالات العلمية والفنية التي تستحق أن نقف إزاءها بالدرس والتأويل وإعادة القراءة، ودائمًا كان التأويل أداة الثقافة العربية للنمو والتقدم بقدر ما كان أداتها للمراجعة والتساؤل والوجود الفعال المتميز؛ فلم تكن ثقافتنا- مع أعلامها قديمًا- ثقافة اتباع واجترار ونَقْل، ولم تكن كذلك مع أعلامها الناهضين في النصف الأول من القرن العشرين؛ وإنما كانت ثقافة قراءة واستيعاب وإعادة إنتاج وبحث عن أفق جديد يتناسب مع واقع مختلف وعصر مختلف. كانت “حاجات المجتمع” الناهض هي البوصلة، وهي الدافع والمحرك لما نأخذ وما ندع، وأنت بالتأكيد لا يمكنك أن تأخذ شيئًا وتدع غيره دون أن تكون لديك “وجهة نظر” تمكنّك من التمييز بين هذا وذاك..!
نحتاج إلى التفكير في إرْث هذا الجيل، وإلى وصل ما بيننا وبينهم لغايات تتصل بالتأمل في أصول التأويل وأفكار النمو والبحث عن مسارات جديدة للثقافة والحياة، وبالتأكيد لا نعود للماضي كي نثير الإشكالات القديمة، رغم أن بعضها– وهذا مما يستحق الأسف– لم يزل مطروحًا علينا كما هو، بعد أن عجزنا عن حسمه، وما كان لنا أن نعجز عن حسمه طوال هذه العقود لولا هذه القطيعة الممقوتة التي حدثت بيننا وبين تراث النهضة.
ولا أريد أن أضرب لك الأمثلة الكثيرة، يكفيك مثالا واحدًا لا زلنا نتصارع حوله من بعد ثورة المصريين المباركة في يناير2011م حتى اليوم، وهو مدنية الدولة وزمنية الحكم، وما يتصل بها من حق الناس وقدرتهم على إدارة حياتهم بما يحقق مصالحهم بوصفهم مواطنين بعيدًا عن ألوانهم ودينهم ومذاهبهم؛ فلم تزل مشكلة الخلافة مطروحة رغم مرور قرابة مائة عام على صدور كتاب الشيخ على عبد الرازق، “الإسلام وأصول الحكم” 1925م.
لقد كان التأسيس الرّاسخ للثقافة العربية أوائل القرن الماضي أصيلًا ومبشرًا، وكان عطفًا رائقًا على ما أحدثه القدماء مع الثقافات اليونانية والفارسية والهندية. كانت قوة التَّمثُّل والانشغال بالجواهر دون الأعراض أداة الرُّواد في التمييز بين الحقيقي والزائف، كما كان حرصهم على وصل لحظتهم التاريخية بروح تراثهم وثقافتهم لا تقل في منجزها وأصالتها عمّا يصل بينهم وبين الوافد الغربي الفاتن المعجب، ومن هنا تمكنوا من تقديم وعي جديد يحمل وجهات نظرهم، وصحة تَمثُّلهم وانتباههم اليقظ لـ”حاجات المجتمع” وقضاياه المختلفة.
لقد توقّف المد النهضويّ بفعل ثورة الضباط في1952م، وكان هذا طبيعيًّا؛ إذ لا كلام عن الإصلاح وقت الثورات، ولكن الثورة نفسها انتهت إلى طبقية جديدة، أخذت تحلّ شيئًا فشيئًا محلّ الطبقية القديمة في المُلْك والحكم، وإن كان ذلك بشعارات مختلفة وأسماء مختلفة.. وهكذا أخذنا ندور في دائرة مغلقة، دون تقدم ملحوظ أو دون تقدم حقيقي، يمكنه أن يخرج بالوعي الجمعي والحياة المدنية من هذا التيه إلى مسار جديد كما كان مأمولًا من مسار النهضة الفاعل والمؤثر…!
ربما نحتاج إلى ما يمكن وصفه بـ”التأسيس الثاني” للثقافة العربية؛ فإذا كان التأسيس الأول قد تزامن مع المطبعة وما نتج عنها من التوسّع في التأليف ونشر كنوز التراث في مختلف الحقول، ثم انتشار الصحف وسهولة الاتصال بالعالم الحديث.. إذا كان ذلك، فإننا نعيش- اليوم- لحظة تغيّر لا حدّ لها؛ فقد وجدت مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي قفزة هائلة في النشر، بل وجدت أنماط جديدة من الكتابة كـ: البوست والتويتة والكوميك وفضاء البث المباشر… بالإضافة إلى الشركات العابرة ومؤسسات المجتمع المدني، واهتزاز مفاهيم كانت راسخة أو كنا نظنها كذلك، كـ”الوطن والوطنية والاستقلال (السيادة الوطنية).. الخ. نحتاج إلى التأسيس الثاني لأمة تعيش زمنًا معولمًا في قيمه وأخلاقه ومنتجاته، ولا يمكننا أن نبقى في مواقع المتفرجين والمتلقين والمتأثرين إلى الأبد.
لا أريد إذن أن أحدثك عن العقاد أو عن غيره من الأساتذة الرواد من باب الحنين إلى الماضي، لا أريد أن أُعرِّفك به أو أن أشير إلى هذا الجانب أو ذاك من جوانب حياته مما أظن أنه لم يأخذ حقه الكافي من الضوء، وما أكثر الجوانب التي مررنا عليها سريعًا في تراث العقاد دون أن ننتبه إليها؛ لقد كان العقاد نجمًا ساطعًا بكتاباته الحرة كما كان نجمًا ساطعًا بمواقفه الاجتماعية والسياسية، والنور الساطع يغشي العيون تمامًا كما تفعل الظلمة الحالكة.
وإنما أريد أن نفهم العقاد باعتباره موضوعًا، والفهم في حد ذاته تَمَلُّك للموضوع، ولا تَمَلُّك على الحقيقة دون أن يتمتع المالك بحرية التصرف فيما آل إليه من إرث.. وهذا يعني أن قراءتنا بحث فيما كان يقوله العقاد وفيما كان يمكن أن يقوله ولكنه لم يقله لأسباب اجتماعية وسياسية.. بحثٌ عن أصول التأويل التي صاحبت التأسيس الأول للثقافة العربية مطالع القرن الماضي، وما أحرانا أن نعرف ونفهم ونتمثّل.
لدينا خلاصات كثيرة عن هذا الجيل تحتاج إلى مراجعة، لقد كان “جابر عصفور” ومن قبله “طه حسين” يُحدثننا عن فعل التساؤل المستمر؛ فكل مقولة لا يجب التسليم بها، وكل خلاصة يجب أن نعيد النظر إليها؛ فالعالم- كما تُدرك- شديد التغير ولا شيء يبقى فيه على حال، ولعلّ الثابت فيه هو فعل التساؤل الذي لا يتوقف؛ فلا قداسة لرأي ولا تسليم بـ”رؤية” أو “وجهة نظر” إلا لكي نعيد مساءلتها والبناء فوقها والنمو بها.
رحل العقاد (1989- 1964م) عن عالمنا تاركًا من خلفه تراثًا متنوعًا، وسيرة رجل خلع على الدنيا اسمه ورسمه؛ إنه الكاتب- (الجبار كما يصفه سعد زغلول)- الموسوعي الذي كتب في مجالات متعددة، في السياسة والفكر والإنسانيات وفي التاريخ والسير الإسلامية والسير العالمية.. وهو قبل ذلك الناقد المجدد، صاحب الدعوى الصَّادحة أوائل القرن الماضي حول الشعر، ولم يُقدّم الدعوى فحسب، وإنما أتبعها بالدليل عليها، فترك لنا، فوق ما سبق من إنجاز، أحد عشر ديوانًا من الشعر، سنقف إزاء جانب من ملامح شاعريته في مقالة قادمة.
لقد تشكَّلت صورة العقاد في أذهاننا من خلال منجزه، وهو– كما ترى – منجز شديد التنوع، يتجاوز مائتين وخمسين كتابًا (حسب نشرة عبد الستار عبد الحق الحلوجي)، وهذا يعني أن أي مجال تريد القراءة فيه أو عنه ستجد للعقاد فيه سهمًا: مقالة أو كتابًا، إنه يملأ الفضاء الثقافي كأحد أهم علامات النصف الأول من القرن العشرين، وإذا كان هذا شأنه فمن البدهي أن تتشكل له– في أذهاننا- صورة اجتماعية تغاير من بعض الوجوه صورته الخطابية (أي صورته كما نستنتجها ونحن نقرأ له)، حتى لكأننا نتحدث عن “عقادين” وليس “عقادًا” واحدًا، وهذا شأن العلامات الكبيرة حين يتسع تأثيرها ويتنوع تراثها، ويكثر حولها الجدل.
فالمسافة بين صورة العقاد الخطابية وصورته كما تتردد في الفضاء الاجتماعي كبيرة، وأحيانًا تطغى صورته الاجتماعية على صورته الخطابية، وتؤثر عليها بالسلب، وهذا ما يمكنك ملاحظته حول شعر العقاد وانقسام الموقف النقدي منه حتى على المستوى الأكاديمي، بين من يجعله أهمّ شاعر في النصف الأول من القرن العشرين بعد أحمد شوقي، ولا يتردد في نقل إمارة الشعر إليه، ومن يراه مجرد ناظم، ولا حظ لشعره من الشاعرية…!
العقل الجماليّ
كان العقاد يرى أن تجديد العقل الجمالي لأمته لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن تجديد عقلها العلمي ووعيها السياسي والاجتماعي بقيمتها وأهميتها التاريخية… كانت دعوة العقاد ومعه المازني وشكري وعلى المسافة نفسها عميد الأدب طه حسين، هي الدعوة الأكثر صخبًا وتأثيرًا، وقد أثارت معاركة وسجالات متعددة بين جيلين وجماليتين ونظرتين للحياة والفنون: جماليّة الإحيائيين (شوقي وحافظ) من ناحية، وجمالية الديوانيين (أصحاب الديوان: العقاد وشكري والمازني) من ناحية أخرى، أو لنقل بتعبير آخر: جمالية شاعر الجماعة الذي ينطق باسمها ويمارس الدور القديم لشاعر القبيلة المتوحد بها المدافع عنها وعمّا تمثله، والشاعر المعاصر الذي ينطق بلسانه، ويقدم لنا وجهة نظره الخاصة ورؤيته الفريدة على نحو غير مسبوق..
واللافت هنا أن هذا المنطلق الجماليّ كان البداية التي دخل منها العقاد إلى ما سواها من الحقول والمعارف التي كتب فيها وترك فيها سَهْمة واضحة، فقد كانت باكورة مقالاته حول شعر “حافظ إبراهيم” في جريدة الدستور عام 1909م وفيها وصف شعره “بِمُرقَّعة الدراويش”، يقصد أن هذا الشعر يضم أشتاتًا وأخلاطًا ويفتقد التماسك والانسجام، وهذا مما تأباه الجمالية الجديدة. (لنتذكر أن عمر “العقاد” وقت كتابة هذه المقالة يدور حول الواحد والعشرين عامًا..!)
كان العقاد واعيًا بما يدور حوله في العالم من أفكار جمالية، وكان في الوقت نفسه شديد الوعي بتراث أمته العريق، ومن هنا بدت لنا دعوته في حدّ ذاتها، ضربًا عميقًا من التأويل والتفسير المُعمّق لهذا الإرث الطويل الممتد. كانت استدعاءاته لنصوص شعراء أمثال ابن الرومي والمتنبي وأبي نواس وغيرهم عملًا من أعمال التأويل النقدي لهذا الإرث الجمالي.. كان رحمه الله يرى أن “الأدباء في الأمم هم عنوان حياتها الروحية والفكرية، ومعيار لما تحسه من مفاخر الحياة وقوى الطبيعة ومعاني الوجود..” .. أريد إذا أذنت لي أن أتوقف إزاء شعر العقاد في مقالة أو مقالتين قادمتين..!