لم يكن البابا كيرلس مجرد بطريرك للكنيسة القبطية في سلسلة بطاركة امتدت لتكسر حاجز المائة فاحتل فيها رقم الـ 116. فقد كان البابا الذي لقب برجل الصلاة قريبًا جدًا من قلوب الأقباط فلا يخلو بيت مسيحي من صورته معلقة وفوقها قوله الشهير “لا تفكر في الأمر كثيرًا بل دع الأمر لمن بيده الأمر” وكأنها صلاة للصبر على ما يواجهون من صعوبات الحياة.
وهذا الأسبوع، إذ تمر على وفاته 51 عامًا، فإن البابا الذي نال لقب قديس باعتراف المجمع المقدس للكنيسة قبل عدة سنوات قد ظل حاضرًا في حياة الأقباط. الذين توافدوا من الصباح الباكر على زيارة طاحونة البابا بمصر القديمة والتي كان يقضي فيها أيامه في الصلاة والنسك. حين كان راهبًا يلقب بالأب مينا المتوحد بينما قرر آخرون أن يعايدوا البابا في ذكرى رحيله في دير مارمينا بمريوط حيث ضريحه جوار مارمينا قديسه المحبب.
كان البابا كيرلس يحمل اسم القديس مارمينا حين كان راهبًا قبل أن يصبح بابا للكنيسة هذا التعلق الذي دفعه لصلاة أول عيد للشهيد مارمينا. بعد تعيينه بطريركًا في الصحراء على أطلال الدير الأثري المتهدم. ثم اشترى المساحة المقام عليها الدير الحديث مجاورة تمامًا للمنطقة الأثرية وبدأ التعمير من جديد. ثم أعاد البابا جزءا من رفات الشهيد مارمينا العجائبي من كنيسته بفم الخليج إلى دير مارمينا بمريوط في فبراير/شباط 1962م. قبل أن تبدأ عمليات الكشف الأثري تأخذ صفتها المنتظمة منذ أن أنشأ البابا كيرلس السادس الدير الحالي. حيث بدأ المعهد الألماني للآثار بالقاهرة العمل منذ 1961 م بإشراف العالم الألماني د. بيتر جروسمان لبضعة شهور سنويًا. حتى سلم البابا كيرلس السادس أمانة الديرة لتلميذه الخاص القمص مينا أفا مينا. ليواصل عمل البابا كيرلس السادس في التعمير الروحي والإنشائي للدير. الذي صار اليوم أحد أكبر وأشهر الأديرة القبطية.
البطريرك الذي أخلص للصلاة ولم ينس فلسطين
لم يمتد عصر البابا كيرلس إلا اثنى عشر عامًا حرص فيهم على الصلاة يوميًا بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية التي بناها الرئيس جمال عبد الناصر للبابا القبطي. وتبرع لبنائها من جيبه الخاص إذ ارتبط البابا والرئيس بعلاقة صداقة وطيدة طوال عهده رغم عدم انخراط البابا كيرلس في السياسة. إلا أن أبرز ما يسجله التاريخ له هو قرار عام 1968 الذي منع بموجبه الأقباط من زيارة القدس في أعقاب هزيمة 67 وخسارة الكثير من الأراضي العربية. رغم أن هذا القرار كثيرًا ما ينسب لخلفه البابا شنودة إلا أن البابا كيرلس كان صاحب تلك البادرة. التي حولها البابا شنودة الثالث إلى قرار من المجمع المقدس عام 1980 فاتخذت الصبغة الرسمية.
البابا كيرلس وجمال عبد الناصر
ويروي محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب» قطوفا من العلاقة بين الزعيم والبابا. قائلا: “كانت العلاقات بين جمال عبد الناصر وكيرلس السادس علاقات ممتازة، وكان بينهما إعجاب متبادل. وكان معروفا أن البطريرك يستطيع مقابلة عبد الناصر في أي وقت يشاء. وكان كيرلس حريصا على تجنب المشاكل، وقد استفاد كثيرا من علاقته الخاصة بعبد الناصر في حل مشاكل عديدة”.
أما الكاتدرائية، فقد كان مقدرًا لها أن تبنى في هذا المكان، مهما عطلت إرادة البشر ذلك، حيث كانت أرض الأنبا رويس بالعباسية مقرًا لمدافن الأقباط. وأرادت الدولة أن تستردها وتبنى فوقها مدرسة ثانوية، رغم أن الكنيسة بنت فوقها بالفعل كنيسة الأنبا رويس الأثرية التي مازالت قائمة حتى اليوم. إلا أن الراهب مكاريوس السرياني رأى مقاولًا بدأ في وضع مواد بنائه في الأرض.
وأوضح هيكل في كتابه الشهير «خريف الغضب»: كانت هناك مشكلة أخرى واجهت البطريرك كيرلس السادس. فقد كان تواقا إلى بناء كاتدرائية جديدة تليق بمكانة الكنيسة القبطية. كان بناء كاتدرائية جديدة مشروعا محببا إلى قلب البطريرك، لكنه لم يكن يريد أن يلجأ إلى موارد من خارج مصر يبنى بها الكاتدرائية الجديدة. وفي نفس الوقت فإن موارد التبرعات المحتملة من داخل مصر كانت قليلة. لأن القرارات الاشتراكية أثرت على أغنياء الأقباط. كما أثرت على أغنياء المسلمين، ممن كانوا في العادة قادرين على إعانة الكنيسة بتبرعاتهم.
إلى جانب أن المهاجرين الأقباط الجدد لم يكونوا بعد في موقف يسمح لهم بمد يد المساعدة السخية. ثم إن أوقاف الأديرة القبطية أثرت فيها قوانين إلغاء الأوقاف، وهكذا وجد البطريرك نفسه في مأزق. ولم ير مناسبا أن يفاتح جمال عبدالناصر مباشرة في مسألة بناء الكاتدرائية، فلقد تصور في الموضوع أسبابا للحرج.
ويسرد هيكل في كتابه: “وهكذا فقد تلقيت شخصيا دعوة من البطريرك لزيارته وذهبت فعلاً للقائه بصحبة الأنبا صموئيل الذي كان أسقفا بدار البطريركية. وفي هذا اللقاء حدثني البطريرك عن المشكلة وأظهر تحرجه من مفاتحة جمال عبد الناصر مباشرة في الأمر حتى لا يكون سببا في إثارة أي حساسيات. ثم سألني ما إذا كنت أستطيع مفاتحة الرئيس في الموضوع دون حرج للبطريرك ولا حرج على الرئيس نفسه”.
البابا كيرلس أول من بنى كنائس في المهجر
وعلى الرغم من قصر المدة التي قضاها البابا كيرلس فوق الكرسي البطريركي. إلا أنه صاحب الفضل في الكثير من التوسعات الكنسية التي تعرفها الكنيسة القبطية اليوم. فقد كان البابا القديس أول من انتبه إلى زيادة موجات هجرة الأقباط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في الستينات. ومن ثم رأى ضرورة تأسيس كنائس قبطية في المهجر تحفظ للأقباط هوياتهم القبطي وتربطهم بالكنيسة الأم. وهو ما استكمله البابا شنودة فيما بعد حتى بلغ عدد الكنائس القبطية اليوم ما يقرب من 600 كنيسة. موزعة على 60 دولة حتى العالم وكأنها سفارات مصرية.
كذلك فإن عهد البابا كيرلس قد شهد رسامة جيل جديد من الأساقفة حملة المؤهلات العليا كان أبرزهم الأنبا شنودة أسقف التعليم الذي صار البابا شنودة فيما بعد. والأنبا غرغوريوس أسقف البحث العلمي والأنبا صموئيل أسقف الخدمات الاجتماعية. كما شهدت مدارس الأحد في عصره نهضة روحية كبيرة. ولكنه وفي الوقت نفسه لم ينج من الخلاف مع القمص متى المسكين. فقد كان له نصيب من أزمات الراهب الأحمر. حيث دبت الخلاف بينهم عام 1960 عندما أصدر المجمع المقدس برئاسة البابا كيرلس السادس. قرارا يقضي بعودة جميع الرهبان إلى أديرتهم وحرمان من يخالف القرار. حينها كان القمص متى المسكين ومعه مجموعته خارج دير السريان. وطلب منهم البابا تنفيذ القرار فاستجابوا. لكن القمص متى ترك الدير مرة أخرى ومعه مجموعته بعد خلافه مع رئيس الدير الراهب مكاريوس وذهبوا إلى بيت التكريس بحلوان رافضين العودة. فطبق عليهم جميعا قرار المجمع المقدس بالحرمان الكنسي وقضى القمص متى المسكين تلك السنوات موقوفا من قبل الكنيسة.
شفيع الطلبة حاضرًا رغم الغياب
فوق كل تلك السنوات التي تجاوزت النصف قرن مازال البابا كيرلس السادس حاضرًا في قلوب الأقباط كقديس وشفيع يلقبونه بشفيع الطلبة. فغالبًا ما ترى صور البابا كيرلس في أيادي الطلبة قبل الامتحانات يطلبون صلواته لكي تمر بنجاح.