في عصر غير العصر وظروف غير الظروف، كان يمكن أن يمر ما جرى مساء الجمعة الماضي «11 مارس 2022» مرور الكرام، فنجاح مرشح غير محسوب على السلطة في انتخابات نقابية أو حزبية، حدث تكرر في عهود حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، وكم من مرة قررت الجميعات العمومية للنقابات المهنية والأحزاب السياسية تحدي الأنظمة ومعاقباتها على التدخل في شئونها بإسقاط مرشحيها أو المحسوبين عليها.

لكن السنوات الأخيرة التي شهدت تأميما للمجال العام بكل روافده، وسيطرة على كل مساحات العمل السياسي التنظيمي، وهندسة لكل الاستحقاقات الانتخابية، جعل نجاح مُرشحين من خارج أُطر السلطة في استحقاقين انتخابيين الأول نقابي مهني والثاني حزبي سياسي حدثا استثنائيا يستدعي التوقف أمامه، بالبحث والتحليل.

العديد من المتابعين للشأن العام، عبروا عن اندهاشهم من تلك المفاجأة. طرح معظمهم أسئلة وعلامات استفهام عن نتائج معركتي «المهندسين» و«الوفد». فالبعض يرى أن ما جرى دليلا على أننا بصدد مرحلة جديدة سمحت فيها السلطة بهامش من الحركة ما دامت النتائج لن تُشكل عليها أي خطورة. ويعتقد البعض الآخر أن طريقة تعاطي الأجهزة والأحزاب المنبثقة عنها مع التجمعات المهنية والسياسية خلال السنوات الماضية استفزت جمعياتها العمومية ودفعت أعضائها إلى الإصرار على إسقاط المرشحين المحسوبين على السلطة كرسالة غضب وتمرد على محاولات تطويعهم.

بغض النظر عن تفسيرات الفريقيين. إلا أن هناك اتفاق عام على أن رسالة جمعة 11 مارس مُبشرة. ويمكن البناء عليها والانطلاق منها لإنهاء مرحلة «السيطرة والتحكم» التي استمرت نحو 5 سنوات. والبدء تدريجيا في استعادة المواطن الذي تم تغييبه قصرا عن المعادلة. ذلك بعدما ثبت له أن مشاركته يمكن أن تحدث فارقا وتصلح ما فسد.

في معركة «المهندسين» نجح طارق النبراوي المرشح المستقل في حسم معركة النقيب بفارق نحو 2000 صوت عن منافسه هاني ضاحي وزير النقل والمواصلات السابق والنقيب السابق والذي دُعم بشكل واضح وصريح من وزراء ورؤساء هيئات وإدرارات ومصالح حكومية، فضلا عن تأييد أحزاب سياسية ومنصات إعلامية محسوبة على السلطة.

ورغم تفوق ضاحي النقيب المنتهية ولايته في الجولة الأولى من انتخابات «المهندسين» بفارق كبير عن منافسه النبراوي، إلا أن الأخير تمكن خلال أسبوع فقط من قلب الطاولة وحسم جولة الإعادة لصالحه، وحصل تقريبا على نفس الأصوات التي حازها في الجولة الأولى بينما تراجعت أصوات ضاحي إلى أقل من النصف تقريبا لعدة أسباب أبرزها:

– لم يعمل أعضاء قائمة ضاحي على مقاعد عضوية مجلس النقابة التي خاض بها الانتخابات على حشد أنصارهم للنزول في الجولة الثانية بنفس حماس الجولة الأولى بعدما ضمنوا مقاعدهم بنجاح ساحق.

– استفزت عمليات الحشد الحكومي لصالح ضاحي في الوزارات والهيئات والإدارات جموع المهندسين. فقرر معظم أعضاء الجمعية العمومية للنقابة العزوف عن العملية الانتخابية برمتها. باعتبارها عملية مُهندسة لصالح طرف مسنود، ومن شارك منهم اختار أن يصوت للمرشح المنافس كرد فعل عقابي على عمليات التوجيه التي لم تتوقف حتى اليوم السابق للاقتراع.

– في الساعات الأخيرة لعملية الاقتراع كشفت المؤشرات تقدم النبراوي في معظم لجان المحافظات. فاختارت السلطة عدم التدخل والوقوف على الحياد. فالرجل لم يكن يوما معاديا للدولة وإن كانت له مواقفه المخالفة لتوجهات السلطة وسياساتها. فضلا عن أن معركة العضوية أفرزت مجلسا مواليا في إجماله. وبالتالي فوجود نقيب ليس محسوبا على السلطة لن يمثل أي أزمة. فقرارت مجالس النقابات تُتخذ بالأغلبية. وهو ما يجعل صوت النقيب لا يشكل فارقا في هذه الحالة.

– أخيرا.. في ظل ما يلاحق السلطة من اتهامات بإغلاق المجال العام وحصار النقابات والأحزاب والتدخل في الاستحقاقات الانتخابية وهندستها لصالح مرشحيها، فإن نجاح مرشح على موقع النقيب في نقابة مهنية مهمة كالمهندسين يعطي انطباعا بأن النظام قرر فتح صفحة جديدة وترك هامش للحركة لمنظمات المجتمع المدني في مطلع العام الذي أطلق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي «عام المجتمع المدني».

أما في معركة رئاسة «الوفد» والتي جرت وقائعها في ذات اليوم، فشهدت مفاجأة أخرى بنجاح مرشح لم يكن أحد يتوقع وصوله إلى أعلى قمة «بيت الأمة»، حيث تمكن الدكتور عبد السند يمامة أستاذ القانون وعضو الهيئة الوفدية من إسقاط المحامي الشهير بهاء أبو شقة رئيس الحزب المنتهية ولايته والذي تم تعيينه عضوا بمجلس الشيوخ ثم اختياره وكيلا للمجلس الذي يسيطر عليه أغلبية تنتمي إلى حزب «مستقبل وطن» الموالي للسلطة.

منذ أن تولى أبو شقة رئاسة «الوفد» قبل 4 سنوات خلفا لرئيسه السابق السيد البدوي والأزمات والمشاكل لم تتوقف داخل أسوار الحزب العريق، فالرجل الذي أعلن منذ وصوله إلى منصبه أن حزبه لن يكون جزءا من مكونات السلطة وأنه سيقود ما أسماه المعارضة الوطنية المؤمنة بثورة 30 يونيو ودستور 2014، تماهى إلى أقصى درجة مع النظام الحاكم، وأيد كل سياسته وتوجهاته وقرارته، وخاض حربا شرسة مع مناوئيه داخل حزبه ففصل منهم عشرات الكوادر الذين جاهروا بمخالفته، ووصل الأمر إلى تقديم بلاغات إلى النيابة العامة ضد عدد من شباب الحزب بزعم أنهم شاركوا في مؤامرة ضد الدولة و«الوفد».

طريقة الإدراة الفردية التي مارسها أبو شقة خلال رئاسته للحزب، فضلا عن تماهيه مع السلطة وأحزابها، وإصراره على الاستمرار في التحالف الانتخابي الذي شكله حزب «مستقبل وطن» قبيل الانتخابات البرلمانية الماضية رغم معارضة الهيئة العليا لـ«الوفد»، وترشيحه لمحاسيبه من الأقارب والأصدقاء على قوائم «القائمة الوطنية من أجل مصر» في تلك الانتخابات، وتجاهله لكل قرارات الهيئة العليا التي انعقدت في سبتمبر 2020، ثم إصداره قرارت بفصل 10 قيادات وفدية كبرى صاعد الاحتقان ضده، فحاسبته الهيئة الوفدية على مجمل أخطائه في معركة 11 مارس.

لم يخض رئيس حزب الوفد المنتخب عبد السند يمامة وحده المعركة الأخيرة، بل اجتمع حوله كل خصوم أبو شقة وهم من أصحاب الثقل داخل الهيئة الوفدية، وضع هؤلاء مبكرا عنوانا لمعركة رئاسة الحزب هو «إسقاط أبو شقة» بغض النظر عن اسم المنافس، وتمكنوا في الأسابيع القليلة التي سبقت الانتخابات من إقناع مرشحين آخرين بالانسحاب من المعركة ومنهم هاني سري الدين وياسر قورة عضوا الهيئة العليا، حتى لا تتفت أصوات الغضب، ونجحوا في مسعاهم وسقط الرئيس المرشح الذي تعامل خلال فترة رئاسته للحزب على اعبتاره يد السلطة ولسانها داخل «بيت الأمة».

سقوط ضاحي في معركة «المهندسين» وأبو شقة في «الوفد»، يحمل العديد من الدلالات والرسائل:

أولها، أن الرهان على دعم السلطة وحشدها فقط رهان خاسر، خاصة في أوساط النخب التي تستنفرها الضغوط وتستفزها التعليمات. فعلى من يخوض استحقاقات في تلك الأوساط عليه أن يقدم لهم ما يقنعهم بأنه الأكفأ والأقدر على تسيير الدفة.. عليه أن يخطب ودهم ويطرق أبوابهم وينزل من برجه العاجي ويناقش معهم مشاكلهم وأزماتهم.

ثانيها، أن الصوت هو الأداة الديمقراطية التي تُمكن الناخب من حساب المسئول ومعاقبته على سوء إدارته. وهي الأداة الأسلم التي يجب الاحتكام إليها لأن البدائل باهظة التكلفة. فعندما تغلق نوافذ التغيير عبر صناديق الاقتراع ويتم إهدار إرادة الناخبين، لا سبيل أمام هؤلاء سوى الثورة والانفجار للتعبير عن الرفض والغضب.

أخيرا، ما جرى يمثل درسا لكل الأطراف، ويجب على كل طرف مراجعة موقفه. فعلى السلطة التي تعهدت في سبتمبر الماضي بإنفاذ ما جاء في وثيقة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من بنود أن تعمل على توسيع هامش الحرية والمضي قدما في وضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، لو كانت تسعى بالفعل إلى استقرار الدولة والحفاظ عليها من الانهيار. ذلك لأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للإصلاح والتغيير دون أي هزات أو توترات أو انفجارات. وعلى المواطن إلا يفوت أي استحقاق انتخابي دون مشاركة وألا يستسلم لدعوات المقاطعة والغياب، فمشاركته هي الضامن الأولي لعدم التلاعب بإرادته. أما كوادر وقيادات الأحزاب والنقابات فعليهم إلا يستكينوا لليأس والأحباط ويشرعوا من الآن في عمليات إعادة بناء مؤسساتهم فلن تستقيم الحياة السياسية بدون أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني قادرة على القيام بأدوارها المهنية والسياسية والاجتماعية.