ليس هدف هذا المقال هو المقارنة بين غزو النظم المستبدة وتلك التي تتسم بالديموقراطية، وإن استحق أن نخصص له مقالا، فمن منظور المغزو فالاثنان سواء، لكن الخطورة مع النظم المستبدة هي أن الهزيمة والنصر تولد مأساة للغازي والمغزو على السواء، فبوتين المنهزم أشد خطورة على العالم من بوتين المنتصر، وهذا هو المأزق الذي سيواجهه العالم، ليس من مدخل امتلاكه 6 آلاف رأس نووي فقط وانتقاله إلى سياسة الردع النووي بعد أيام قليلة من غزوه لأوكرانيا، ولا من مدخل الأزمة الإنسانية التي يتعرض لها الشعب الأوكراني، ولا من مدخل تهديد نظام الأمن العالمي الذي قام بعد الحرب الثانية علي أسس ثلاثة: الأمم المتحدة، وسيادة الدول، واحترام القواعد التي تحكم الممارسات والمؤسسات الدولية وإن جرى في أحيان كثيرة الافتئات عليها.
هذه مداخل هامة تناولت بعض تأثيراتها في مقال لي، لكن يضاف إلى ذلك مداخل ثلاثة أخرى: أولهما: طبيعة حكم بوتين لروسيا على مدار العقدين الماضيين الذي يقوم على إدمان السلطة، والثاني: يتعلق بإحياء سياسات الهوية التي يتجه العالم للصراع حولها في العقدين القادمين، وأخيرا: تنامي الصراع الأيدولوجي في العالم مرة أخرى، وإن اتخذ من منظور الغرب: تحالف الديموقراطيات في مقابل المستبدين أو عالم حر في مواجهة عالم سلطوي جديد، وبالنسبة لروسيا فهو صراع مع “التغريب” الذي يحاول أن يفرضه الغرب باستخدام أدوات كثيرة.
بوتين: الأوتوقراطية الشخصية
حدد تيموثي فراي في مقاله الهام في الفورين أفيرز عددا من السمات التي ميزت طبيعة نظام الاستبداد الشخصي لبوتين، والتي تجعل منه غير مقيد في سياساته وقراراته إلا برؤيته الشخصية وهي:
1- الأوتوقراطيات الشخصية -كما يوحي الاسم- يديرها أفراد وحيدون، غالبًا ما يكون لديهم أحزاب سياسية، ومجالس تشريعية، وجيوش مؤثرة، لكن السلطة على قرارات الموظفين أو السياسات المهمة تكمن دائمًا في وجود شخص واحد في القمة.
2- تتعرض الأنظمة الاستبدادية الشخصية لمجموعة من الأمراض المألوفة، لديهم مستويات أعلى من الفساد من أنظمة الحزب الواحد أو الأنظمة الاستبدادية العسكرية، ونمو اقتصادي أبطأ، وقمع أكبر، وسياسات أقل استقرارًا.
3- يمتلك الحكام في الأنظمة الاستبدادية الشخصية أيضًا مجموعة أدوات مشتركة: فهم يؤججون المشاعر المعادية للغرب [ونظرية المؤامرة] لحشد قاعدتهم، وهيكلة الاقتصاد لصالح المقربين، واستهداف المعارضين السياسيين باستخدام النظام القانوني، وتوسيع السلطة التنفيذية على حساب المؤسسات الأخرى.
4- في كثير من الأحيان، يعتمدون على دائرة داخلية غير رسمية من صانعي القرار التي تضيق بمرور الوقت، ويجري تعيين الموالين أو أفراد الأسرة في المناصب الحاسمة في الدولة.
5- إنهم ينشئون منظمات أمنية جديدة تقدم تقاريرها مباشرة إليهم.
6- عندما يفكر المرء في ما يمكن أن يخسره المستبدون الشخصيون إذا تركوا مناصبهم، فيلاحظ أنه على مدار السبعين عامًا الماضية، مال المستبدون الشخصيون الذين فقدوا السلطة إلى أن ينتهي بهم المطاف إما في المنفى أو السجن أو الموت.
7- من خلال تقويض أنواع المؤسسات السياسية التي تقيد السلطة التنفيذية، قلل بوتين من اليقين بشأن السياسة وزاد من ضعف النخب، ونتيجة لذلك، يفضل المستثمرون وضع رؤوس أموالهم في ملاذات آمنة خارج روسيا، كما أخذ العديد من الشباب الروسي رأس مالهم البشري الكبير إلى الخارج أيضا.
8- بدون مؤسسات رسمية قوية لإضفاء الشرعية على حكمه، يعتمد بوتين على شعبية شخصية كبيرة لردع تحديات النخب وإبعاد المحتجين عن الشوارع.
في هكذا أنظمة لا مجال للهزيمة، فالهزيمة تعني نهاية للنظام والقائمين عليه، ولا بديل عن الانتصار الذي ستكون تكلفته باهظة اقتصاديا وبشريا عليه وعلي أعدائه أيضا -كما يجري في أوكرانيا الآن، ففي هذه الحرب، لا يوجد فائزون.
ومن غير المرجح أن يخسر بوتين الحرب في أوكرانيا في ساحة المعركة، لكنه قد يخسر عندما ينتهي القتال في الغالب ويصبح السؤال: ماذا بعد؟
سيؤدي الافتقار إلى التخطيط السياسي لليوم التالي -الذي يمكن مقارنته بالفشل التخطيطي للغزو الأمريكي للعراق- دوره لجعل هذه حربًا لا يمكن الانتصار فيها، خاصة أنه سيكون بين نارين: أوكرانيا التي يجب إعادة إعمارها والتي لا يمكن التنصل منها كما في سوريا، أو أوكرانيا المزعزعة الهشة غير المستقرة.
سياسات الهوية
كتبت مبكرا عن انتقالنا من مقولة صدام الحضارات التي مثلت قمة الهوس الغربي بالإسلام في حقبة سبتمبر إلى صراع الهويات المتوقع تصاعده في العقدين القادمين.
فمع تآكل الثقة في الحكومات والنخب والمؤسسات القائمة، من المرجح أن تتفتت المجتمعات أكثر على أساس الهويات والمعتقدات، ويتجه الناس في كل منطقة إلى مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والشعور بالأمن، بما في ذلك الهويات الثقافية وغيرها من الهويات دون الوطنية وكذلك التجمعات والمصالح عبر الوطنية.
تتكاثر الهويات والانتماءات وتصبح أكثر وضوحًا في نفس الوقت، وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الأدوار المؤثرة لمجموعات الهوية في المجتمع والسياسة.
ويلاحظ أن كثيرا من الناس ينجذبون إلى هويات أكثر رسوخًا، مثل العرق والقومية والدين، وفي بعض البلدان، يؤدي تباطؤ النمو السكاني، وزيادة الهجرة، والتحولات الديموغرافية الأخرى إلى تكثيف تصورات الضعف بما في ذلك الشعور بالضياع الثقافي.
كان إنجاز بوتين الفريد هو مساعدة الروس على التعافي من صدمة نفسية -في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي – ومنحهم هوية جماعية حتى يشعروا بأنهم مهمون، وأن حياتهم تتمتع بالكرامة. لقد
قام بوتين بالغزو الذي بدأ بجورجيا ٢٠٠٨ حتى يشعر الروس بأنهم أمة عظيمة مرة أخرى، ولذا فإن بوتين نفسه يشعر بأنه شخصية تاريخية عالمية على غرار بطرس الأكبر.
ومثل سياسيي الهوية في كل مكان، حوّل بوتين أزمة الهوية هذه إلى قصة إذلال- إذلال الغرب لروسيا، وكانت رؤيته للهوية الروسية تدور حوله حيث “لا توجد روسيا اليوم إذا لم يكن هناك بوتين”.
غزو أوكرانيا -إذن- شكل مسعور لسياسات الهوية المتلبسة بالقومية الشوفينية، ولكن مع هذه السياسة، فإن بوتين يعرف بالتأكيد أن “التقاليد الوطنية الروسية لا ترحم النكسات العسكرية”، كما لاحظ ليون آرون -الخبير الروسي في معهد أمريكان إنتربرايز- الذي يكتب كتابًا عن طريق بوتين إلى أوكرانيا.
وأضاف: “كل هزيمة كبرى تقريبا أدت إلى تغيير جذري”. حرب القرم (1853-1856) عجلت ثورة الإمبراطور ألكسندر الثاني الليبرالية من أعلى، وأدت الحرب الروسية اليابانية (1904-1905) إلى اندلاع الثورة الروسية الأولى، كما أدت كارثة الحرب العالمية الأولى إلى تنازل الإمبراطور نيكولاس الثاني عن العرش وقيام الثورة البلشفية، وأصبحت الحرب في أفغانستان عاملاً رئيسياً في إصلاحات الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، كما ساهم الانسحاب من كوبا بشكل كبير في عزل نيكيتا خروتشوف بعد ذلك بعامين.
ولكن لأن هذه هي حرب بوتين فقط الباحث عن مجد لا يمكن استعادته، ولا يصح الاعتراف بالهزيمة، فيمكنه الاستمرار في مضاعفة قوته في أوكرانيا مع استمراره في الحرب حتى لو هدد بالردع النووي.
وفي المقابل، فإن الإذلال الذي يأتي من الهزيمة سيكون بالتأكيد لا يطاق بالنسبة لهذا الرجل المهووس باستعادة الكرامة والوحدة لما يراه على أنه الوطن الأم لروسيا.
لكي “ينتصر” بوتين عسكريًا على الأرض، سيحتاج جيشه إلى إخضاع كل مدينة رئيسية في أوكرانيا، وهذا يشمل العاصمة كييف، ولكن ربما بعد أسابيع من حرب المدن والخسائر الهائلة في صفوف المدنيين.
ومع مرور كل يوم يُقتل المزيد والمزيد من الجنود الروس في أوكرانيا، ومن يدري ما يحدث للروح القتالية للمجندين في الجيش الروسي الذين يُطلب منهم خوض حرب مدن مميتة ضد زملائهم السلاف من أجل سبب لم يتم شرحه لهم ويتشكك في شرعيته قطاع من الجماهير الروسية.
التغريب تهديد وجودي
جعل العقل الاستراتيجي لروسيا بوتين -مؤخرا- من القيم أحد المشكلات مع الغرب. تدرج استراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي التي أقرها رئيس روسيا 2021 في التاريخ كوثيقة شحذت قضية القيم الروحية والأخلاق التقليدية للبلاد، صحيح أنه تم إبراز القيم أيضًا في سابقتها -إستراتيجية 2015، إلا أن إستراتيجية 2021 اتسمت بلغة جديدة، حين جعلت مصدر التهديد للقيم الروسية هو “التغريب”.
تتعرض القيم الروسية -وفقًا للوثيقة- للهجوم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها والشركات متعددة الجنسيات، فضلاً عن المنظمات الأجنبية غير الربحية وغير الحكومية والدينية والمتطرفة والإرهابية.
ترى الوثيقة: أنه إذا كان الإرهاب والتطرف -بطريقة أو بأخرى- منفصلين عن الفكرة “الغربية”، فإنهما يعتبران الآن تهديدات من نفس النظام.
يعتبر انتقال المواجهة مع الغرب إلى عالم القيم مرحلة جديدة في التفكير الاستراتيجي الروسي، ففي وقت سابق، كان يُنظر إلى مثل هذه المواجهة بشكل أكبر من منظور الجوانب المادية (الدفاع، والاقتصاد)، لكنها تحولت الآن -وبوضوح- إلى المستوى الأيديولوجي.
لقد صور بوتين نفسه أكثر فأكثر على أنه ليس مجرد زعيم وطني، بل زعيم حضاري، يقود قوى الأخلاق التقليدية ضد الفساد الأخلاقي للغرب.
وفي المقابل فإن الفكرة القائلة بأن أمريكا يجب أن تدعم “النظام الدولي الليبرالي” تعتبر بمثابة عنصر إيمان في دوائر السياسة الخارجية، أو على أقل تقدير، فإن فكرة تقسيم العالم بين تحالف الديموقراطيات، في مقابل عالم سلطوي جديد قد دشنتها قمة الديموقراطية التي عقدها بايدن يناير من هذا العام.
في هذا التصور -التي استبعدت منه روسيا والصين- فإن نجاح النظام الليبرالي عالميًا، يشكل تهديدًا وجوديًا لأنظمتهم، أو هكذا يرى بعض من صانعي العقل الإستراتيجي الأمريكي، والذين يؤكدون على أن تأطير الهدف الأساسي للإستراتيجية الأمريكية على أنه الحفاظ على نظام ليبرالي من شأنه أن يرسل رسالة إلى الشعب الأمريكي مفادها أن وظيفته هي الحفاظ على النظام خارج الوطن الأم، لأنه بخلاف ذلك سيشجع المزيد من العدوان الذي سيمتد للوطن الأم -أمريكا- كما جرى في انتخابات الرئاسة في ٢٠١٦. فالتهديد الروسي لديموقراطيتنا هو إضعاف لقوة مثالنا في العالم.
وفي المقابل، فإن انتصار بوتين تعزيز للمتسلطين في كل مكان، في ظل تراجع دائم ومستمر للحريات والديموقراطية في العالم علي مدار العقد الماضي.
ما الذي فعله الغزو الروسي في هذا السياق؟
وحد الغرب بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة “عدو” يهدد قيم الغرب ونمط الحياة فيه، ويستخدم في حربه الهجينة أدوات جديدة ممتزجة بتهديد نووي، ويجري ذلك في ظل تنشيط للذاكرة التاريخية التي لم تكد تهدأ بعد الحرب الثانية وحقبة سبتمبر وما جري بهما من فظائع.
المشكل أنه: إذا ارتكنت سياستك إلى الأيديولجيا وصناعة العدو، فلا التقاء وإنما صراع دائم، أما إذا قدمت الواقع والاستراتيجيا والجيوسياسي فالحديث حينئذ يكون عن التنافس أو التقاء المصالح.