بعد تحلل حلف وارسو بسقوط جدار برلين الدرامي في العام 1989، أُعيدت هيكلة مجتمعات على أسس متعددة، وتغيرت حدود دولٍ وتبدلت قِيَمٌ كانت تمثل حجر الزاوية الذي رَسَخ دعائم تلك المجتمعات وهذه الدول في عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية.
كانت الطروحات الاقتصادية الاشتراكية هي أهم تلك القِيَم التي تبدلت فَتَبَخَر أثرها وتأثيرها لتسود بلا منازعٍ قيم الاقتصاد الحر بكل ما تحمله من ملامح وأدوات، حيث لم يَعُد على وجه الأرض إلا قليل ممن يتبنون “رؤىً” اقتصادية مختلفة نوعًا ما لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية -لا يتسع مقام ذكرها الآن- بعضها أخلاقي تركز بالأساس علي نقد أسس النظام الرأسمالي وهشاشة أسواقه، وكثيرٌ منها كان قائمًا علي خلافات سياسية.
كان العالم في تلك السنوات التي أطلقتُ عليها بمقالي السابق عن أزمة روسيا وأوكرانيا وصف “سنوات التيه”، مرتعًا لكل مغامر لا يسعى سوى للربح أيًا كانت وسيلته وبغض النظر عما يمكن أن يتسبب فيه من دمار للكوكب ذاته، وقد كانت أزمة المناخ التي وعى العالم حجم كارثيتها متأخرًا جدًا رغم نشاطات بعض الخُضر الأوروبيين المُبَكِرة التي بدأت مؤثرة ثم ضمرت ففقدت تأثيرها بخفوت أصوات أصحابها أمام الآلة النيوليبرالية الطاغية هائلة الحجم حيث المال الذي يلِدُ مالًا دون أي قيمة مضافة وبلا أية إجراءات حمائية.
اندفعت مجتمعات ما بعد 1989 بلا قيود في هذا المسار فكانت “عَولَمَةُ” الدمار ما بين قوى سياسية أشعلت حروب إبادة قوى اقتصادية بَثت في الهواءِ والماءِ والزَرعِ سمومًا، وأسواق انتقل بينها المال بسهولة مريبة. الحاصل هو أن تركيبًا جديدًا لم يحدث في بنية النظام الاقتصادي العالمي بشكل يتلافى أخطاء التطبيق الاشتراكي ويتجنب خطايا الانفلات الرأسمالي. كانت هناك محاولات سابقة شبه جادة للمدرسة “الكينزية” وأخرى جادة لما بعد “الكينزية” (هايمان مينسكي وأقرانه مثالًا) لكن لم تسفر تلك المحاولات عن مساهمة على الأرض في بناء هذا التركيب لينتهي الأمر بعدما مر من هذا القرن ما يقرب من رُبع سنواته على حالٍ لا يسر الناظرين.
في سنوات التيه، دخلت الصين المضمار بلا رحمة مُنافِسَةً لأمريكا مُستَخدِمَةً نفس أدواتها التقليدية وإن تَحَلت بانضباطٍ تاريخيٍ موروث أهَلَهَا للمنافسة فكانت دبلوماسية القروض التي قامت بموجبها بالحصول -مثلًا- على حق استغلال ميناء “هامبانتوتا” السريلانكي الذي يتمتع بموقع إستراتيجي فريدٍ يبعد نحو 240 كيلومترًا جنوب العاصمة “كولومبو” على مسافة بضعة أميال بحرية من ممر الشحن البحري بالمحيط الهندي والذي تمر خلاله كل التجارة المنقولة عبر المحيط بين آسيا وأوروبا وبما يمثل نحو 80% من حجم التجارة العالمية بالمحيطات.
نَفَذت الصين كذلك إلى أفريقيا من خلال شركاتها العملاقة للمقاولات فازدهرت بنوكها وانتعشت بورصاتها وتمددت إمبراطورياتها العقارية بصورة أنتجت تراكمًا “ماليًا” أعيد استثماره في صورة إقراضٍ جديد، ويكفيك أن تعلم أن حجم استثمار الصين في الدين الأمريكي ذاته قد وصل إلى 1.1 تريليون دولار لتكون بذلك ثاني أكبر دولة دائنة لأمريكا بعد اليابان التي يبلغ حجم استثمارها في ديون أمريكا نحو 1.3 تريليون دولار من أصل 30 تريليون دولار تمثل حجم الدين العام الأمريكي، وليسمح لي القارئ الكريم بإعتذارٍ عن خطأ مطبعي وَرَد بمقالي السابق حيث ذكرتُ أن الدين العام الأمريكي هو 1.6 تريليون دولار بدلًا من 30 تريليون دولار، فأرجو المعذرة. في نفس الوقت اندفعت روسيا بكل ما أوتيت من قوة وبمنتهى العجلة في سباق الانفلات الذي انطلقت فيه مافياوات الوكالات والاستثمار “النقدي” والتهريب والسلاح والمرتزقة، وإن بقى لديها قَدْرٌ من الصرامة البيروقراطية ساعد في إقامة توازنٍ أهَلَهَا لبناء قدراتٍ نسبية على المستوى العسكري ووفر لها فوائض مالية على المستوى الاقتصادي.
(خروج محدود عن النص: اللافت هنا هو احتفاء بعض نخب الاشتراكية العربية بروسيا والصين رغم تخليهما -واقعيًا- عن أسس الاشتراكية وتبنيهما لنفس أدوات الرأسمالية التقليدية التي كانتا تنبذانها أيام الحرب الباردة فيما يتعلق بتراكم “المال” حين طَوَى كل منهما صفحة قضايا فلسفية شكلت عماد بناء الصين الشيوعية والاتحاد السوفييتي السابقين كقضية الصراع الطبقي على سبيل المثال. في حين لم يكن مستغربا لَدَيَّ احتفال بعض نخب الليبرالية العربية بالعيد المئوى للحزب الشيوعي الصيني الذي صار -برسم الأدوات التي يستخدمها- ليبراليًا أكثر الليبراليين أنفسهم، فقد كان مثيرًا لدهشتي احتفال الكثير من النخب الاشتراكية بنفس الأمر وكأن “ماو” مازال حيًا يمارس تعاليمه التى ألقى بها من خلفوه في “اليانجتسي”* صوب بحر الصين الشرقي بلا رجعة).
في العشر سنوات السابقة للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، فَتَحَ “الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين” ملفات فساد مالي ضخمة تناولت سياسيين ومشاهير من الرياضيين والفنانين من جميع أنحاء العالم عملوا على تهريب أموال طائلة ناتجة عن أعمال غير شرعية من بلدانهم سواء بأسمائهم الشخصية أو بأسماء مُقرَبين منهم، وقد استندت العديد من الدول التي تحركت لتجميد أموال بعض الشخصيات الروسية على تلك الملفات كنوع من الضغط لإيقاف السعي الروسي لفرض أمر واقع جديد يأتي مُتَعَمِدًا بدماء الأبرياء.
والجدير بالملاحظة هنا أن تلك الدول التي تحركت لمثل هذا الإجراء كانت تعلم يقينًا أن تلك الأموال هي أموالٌ نتجت عن أعمالٍ غير شرعية أو -في أحسن الأحوال- مشكوكُ بها وهو الأمر الذي يوضح أن السلطات النقدية بتلك الدول قد مارست -عن عمدٍ- قدرًا من التغاضي عن مبادئ تعارف عليها المجتمع المصرفي الدولي كانت لها -هي نفسها- أسبقية إرسائها، في مقابل استفادتها من فوائض نقدية بالغة الضخامة بما يعكس ثغرات شديدة الخطورة تؤكد كم أن النظام المصرفي بل والنظام الاقتصادي الغربي برمته هو نظام متهافت ووَاهٍ للغاية.
أعلَم بحكم خبرة العمل المصرفي لعقودٍ أن أحد أهم الإجراءات المتبعة بالبنوك قبل التعامل مع أي عميل هو قيام العميل بالتوقيع علي بيان “إعرف عميلك”(KYC) Know Your Customer والذي يخضع لمراجعات عدة للتأكد من صحة ما أقر به العميل بما يمتد لما هو أبعد من مجرد الواجهة إلى ما يُصطَلَح على تسميته بالمالك المستفيد النهائي (UBO) Ultimate Beneficial Owner أو العميل الحقيقي، ويُعَد من أهم مكونات هذا البيان بند عما إذا كان العميل يعمل بالسياسة أو أنه يتمتع بصلةٍ من أي نوع بواحد من السياسيين في بلاده أو في غيرها، وهنا نتسائل استنكارًا أو استفهامًا لا يهم: “كيف دخلت تلك الأموال من الأساس في النظام المالي العالمي وهل ستتم محاسبة من تسبب في ذلك وهل كان الأمر مقبولًا في إطار ظروفٍ ما ليصير مُحرمًا في إطار ظروف أخرى يتم تقديرها سياسيًا”.
من زاوية أخرى، أظن أن استخدام أمر تجميد الأموال كواحد من العقوبات الاقتصادية هو أمر ربما قد يتسبب بضرر للمُعَاقِب قبل المُعَاقَب، حيث سيُحرَم دول العقوبات من تدفقات نقدية هائلة كانت ترد إليها بانتظام بغض النظر عن مصدر تلك الأموال بخلاف انقطاع إمدادات “شكل” الطاقة الجديد (الغاز الطبيعي) والقديم (النفط) حتى إشعار آخر وهو أمر بالغ الخطورة لن تستطيع دول الأوبك أو أوبك+ أن تفي ببديلٍ له إلا لو اتفقت على إعادة هيكلة مبيعات تلك الامدادات فاقتصت من حصة دولة لتزيد حصة دولة أخرى وهو أمر يكاد يكون مستحيل الحدوث.
ستتأثر دول العقوبات بلا شك، فتدفق الأموال الروسية شرعية كانت أو غير شرعية يَهُمُهَا، والاستهلاك الروسي لمنتجاتها وطرق تسوية معاملات هذا الاستهلاك ماليًا يَهُمُهَا، واستمرار إمدادات الغاز والنفط والقمح يَهُمُهَا قَدر ما يهم الرئيس بوتين الذي يتعامل بدم بارد مع تلك العقوبات على وقع قيامه بتقدير تأثيراتها الحقيقية في ضوء ترتيباته مع الصين وإيران وحلفاء آخرين بصورة تشجع الوسطاء الدوليين -في الخفاء وفي العلن- على حل الأزمة بما يحقق مصالحه لجنى ثمارِ ما فعل، وربما يؤول الارتباط بين النظامين الماليين الروسي والصيني -الذي بدأ فعلًا- إلى تجريد النظام المصرفي الدولي المتعارف عليه من أهم أسسه وهو “الدولار” باعتباره عُملةً يتم ترجمة كل معاملات العالم الاقتصادية بناءً عليها بما سيكون بمثابة مقدمة لتغيير جوهري قد يصب في سياق تبدل حقيقي للقوى إن لم تجد دول الناتو حلولًا سريعة للأزمة ربما تشمل تخليها عن دعم “أوكرانيا” مقابل استمرار بقاء نظامها المالي ولنا في أحداث المجر 1956 درسًا ينبغي أخذه بعين الاهتمام.. والله أعلم.
*أطول أنهار الصين