تظل الدول الضعيفة، ذات الترتيب المتأخر في موازين القوى، عندها مشكلة في كيف تحافظ على استقلال قرارها الوطني، بما يحمي وجودها، ويؤمن بقاءها، ويخدم مصالحها، ويصون تطورها، في مناخ دولي تسيطر عليه الدول الأقوى ذات الترتيب المتقدم في موازين القوى العالمية، حدث هذا مع مصر،  مثلما حدث مع غيرها من كثير من شعوب الأرض المستضعفة، في مواجهة إمبراطوريات أوروبا الاستعمارية حتى منتصف القرن العشرين، ثم حدث مثله -ولو بشكل مختلف- في مواجهة الإمبراطورية الأمريكية من ذاك التاريخ، وربما تتغير قوى الهيمنة في المستقبل لكن سيظل جوهرها باقيا حيث يسعى الأقوياء للسيطرة والتأثير على من هم أدنى منهم في مدرجات القوة .

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر 1876- 1882 أنجز المصريون ثورتين عظيمتين في وقت واحد، ثورة ضد الفساد والطغيان الداخلي، وثورة ضد الاستغلال ثم الاحتلال الأجنبي، رفعت لأول مرة شعار “مصر للمصريين”، وبلورت لأول مرة  “مفهوم الوطنية المصرية”، وأنتجت لأول مرة “مفهوم الشعب الثائر والمحارب”، وخلقت لأول مرة “ظاهرة الرأي العام الحديث”، وأتاحت لأول مرة “الحق في مزاولة الشؤون العامة” فلم تعد قضايا الحكم والسياسة والاقتصاد من اختصاص الحاكم فقط ومن حوله من أتباع وما يمثلونه من مصالح، وإنما اتسعت الدائرة بميلاد مفاهيم مثل الأمة والشعب والطبقة والمصلحة القومية إلى آخره.

نجحت الثورة في إلزام الحاكم بدستور هي من وضعته، ثم بحكومة هي من شكلتها، ثم ببرلمان من صنع الشعب وليس من صنع الحاكم، لكنها انكسرت أمام استدعاء الحاكم للاحتلال الأجنبي الذي دخل البلاد بقوة مسلحة قوامها خمسون ألف مقاتل.

ومكث الاحتلال قريبا من ثلاثة أرباع قرن يبرر وجوده مرة بحماية النظام، ومرة باسترداد الأمن، ومرة باستعادة الاستقرار، ومرة بالدفاع عن البلاد حتى يتوفر لها جيش يحميها، ومرة بالانتظار حتى يكون أهل البلد قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، والاحتلال في كل ذلك يتجاهل ثلاث حقائق كبرى: الأولى أنه عندما دخل مصر وجد فيها دولة حديثة بمعايير القرن التاسع عشر الأوروبي. وثانيا وجد فيها ثورة شعبية بمعايير الثورات في أوروبا القرن التاسع عشر. وثالثا وجد فيها جيشا من أقوى جيوش العالم في القرن التاسع عشر .

باختصار شديد: لم يكن مصر ينقصها – كدولة وشعب – أي من مقومات الاستقلال الوطني، لكن هذا الاستقلال كان هدفا للقوى الأوروبية التي خرجت من أقفاص القارة الضيقة تتنافس وتتصارع على نهب أنحاء العالم الواسعة، وكانت مصر -بالجغرافيا- نقطة ارتكاز تلك المطامح الاستعمارية الأوروبية في مشرق العالم ومغربه. فلم تغفل عنها أعين المستعمرين الأوروبيين -على اختلافهم- لحظة واحدة، من الفرنسيين في مختتم القرن الثامن عشر، ثم كل الجنسيات الأوروبية مجتمعة في أسوأ أشكال الاحتلال المدني والاستغلال الصامت في أواخر عهد محمد علي ثم خلفائه عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، ثم انفرد بها الإنجليز حتى 1956م .

في الربع الأول من القرن العشرين جدد المصريون ثورتهم في سياق جديد، استفادوا فيه من خبرات مريرة عاشوها وعانوها ما يقرب من 40 عاما تحت الاحتلال من دخولهم القاهرة في 15 سبتمبر 1882 بعد هزيمة الجيش المصري في التل الكبير إلى 9 مارس 1919 إثر اندلاع ثورتهم الشعبية العظيمة بعد يوم واحد فقط من إقدام الاحتلال على نفي الزعيم سعد زغلول خارج البلاد. في هذه الثورة وقف الشعب وحده في مواجهة قوات الاحتلال دون سند من الجيش مثلما حدث في الثورة العرابية التي كانت مناصفة بين الشعب والجيش، أو كما حدث في ثورة 23 يوليو 1952م حيث كان الجيش هو عماد الثورة تخطيطا وتنفيذا.

هذه الطبيعة المدنية غير العسكرية لثورة 1919 ميزتها بخصائص تختلف عن الثورة العرابية السابقة عليها ثم عن ثورة 23 يوليو 1952 اللاحقة عليها وذلك من عدة وجوه:

الأول:  أنها جعلت الأولوية للمواجهة مع الاحتلال أولا ثم مع السلطة المصرية التابعة له ثانيا، لهذا سعت إلى تحييد الثانية على الأقل في المراحل المبكرة من المواجهة مع الأولى. وهي في هذا تختلف عن الثورة العرابية التي استهدفت الطرفين في وقت واحد فبدأت بالخديوي في مرحلتها الأولى تطوقه بالدستور والبرلمان وحكومة الثورة، ثم استدارت للاحتلال تقاومه جيشا لجيش على جبهات القتال من مياه الإسكندرية حتى روابي التل الكبير. وهي كذلك تختلف عن ثورة 23 يوليو 1952م من زاوية أن الظرف التاريخي كان قد نضج بحيث كان من المتيسر خلع الملك ثم الغاء الملكية ذاتها خلال فترة وجيزة جدا، ثم بسبب هذا النضج التاريخي كذلك تيسر عقد اتفاق لجلاء الاحتلال في عشرين شهرا .

الثاني: أنها عرفت العنف النابع من الغضب الشعبي بالذات في شهرها الأول من مارس 1919 لكنه -في كل الأحوال- عنف مدني غير صادر عن قوة عسكرية مسلحة، بينما كان الجيش هو قائد الثورة الشعبية ضد الخديوية ثم هو عمود المقاومة المسلحة ضد الاحتلال في حالة الثورة العرابية، كذلك كان الجيش هو من ألغى الملكية بكاملها ثم أنجز الجلاء بكامله في ثورة 23 يوليو 1952 .

الثالث: الظروف الذي سعت فيها ثورة 1919 لإنجاز الاستقلال كانت أصعب من زاوية أن قوة الاحتلال خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، ثم خرجت منها بدون منافس قوي على الزعامة الدولية، ثم كسبت موافقة المجتمع الدولي على مركزها الاحتلالي في مصر، بينما كانت لاتجرؤ أن تفصح عن حقيقة نواياها عندما كانت تواجه الثورة العرابية حيث كانت العديد من القوى الدولية ترفض التسليم لبريطانيا باحتلال مصر وكانت هذه القوى مستعدة لمناوأتها . كما اختلفت ظروف ثورة 1919 في ذلك عن ظروف ثورة 23 يوليو 1952 من زاويتين: صحيح أن بريطانيا كانت قد خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية مثلما خرجت منتصرة بعد الأولى، لكن بعد الثانية خرجت منهكة ولها منافس قوي وبديل عنها من داخل التحالف الغربي وهو الأمر الذي كان في مصلحة ثورة 23 يوليو ولم يتوفر مثله لثورة 1919، ثم تميزت ثورة 23 يوليو بأن حكم سلالة محمد علي لم يعد يجد قوة دولية تحميه مثلما كانت بريطانيا تحميه في مواجهة الثورتين العرابية ثم ثورة 1919 .

الرابع: أن ثورة 1919 لم تكن تملك غير إمكانات الشعب فقط، وهي -على عظمتها- تظل محدودة من ناحية القوة المادية إذا قورنت بما يملكه الاحتلال من قوة إمبراطورية عاتية، لهذا ذهبت تعوض هذا النقص المادي الفادح في موازين القوة بإذكاء الروح المعنوية في الشعب، عبر أداة العمل الممكنة وهو التنظيم الشعبي الذي حمل اسم “الوفد المصري”، كان على ثورة 1919 بما تبثه من قوة معنوية وبما تملكه من تنظيم شعبي أن تواجه في وقت واحد: قوة الاحتلال وهي ذات طابع عسكري عنيف وذات حضور مدني في مفاصل الدولة المصرية ثم تواجه المتعاونين مع الاحتلال أو المهادنين له أو الواقعيين -واقعية رخيصة- في وقت واحد .

الخامس والأخير: أن ثورة 1919 بظرفها التاريخي وبإمكاناتها وسياقها المحلي والدولي لم يكن أمامها من خيار غير أن تتعايش مع خصومها وخصوم الشعب، تنشد الاستقلال لكن تلعب مع الاحتلال في ملعب واحد، كذلك تنشد الحكم الدستوري لكن تلعب مع الحكم الاستبدادي في الملعب ذاته، تكافح المتعاونين مع الاحتلال والاستبداد لكنها مضطرة لأن تلاعبهم في الساحة ذاتها. هذا ملمح رئيس وأساس وجوهري من ملامح نضال ثورة 1919 وهي تكافح من أجل الاستقلال والدستور معا وهما معركتان كان بينهما اتصال وثيق لا انفصال له ولا محيد عنه .

**************

في ضوء ما سبق يمكن فهم لماذا كان عبء تحقيق الاستقلال فوق طاقة ثورة واحدة بمفردها، كان الصبر شرطا لازما، وكان توالي الثورات وتعاقبها على الهدف الواحد حتما لا مفر منه، كان على الثورة العرابية أن تعلن: “مصر للمصريين”، ثم كان على ثورة 1919 أن تنزل بالشعار إلى أرض الواقع، ثم كان على ثورة 23 يوليو 1952 أن تذهب به إلى غايته المنشودة .

تكفي ثورات مصر فخرا وعظمةً أنها وضعت الشعب المصري في طليعة الشعوب الثائرة من أجل الاستقلال والحكم الدستوري والعدل الاجتماعي ثلاث مرات في مفاصل التاريخ الكبرى، في ذروة الهجمة الاستعمارية الأوروبية في مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر حيث الثورة العرابية، ثم في ذروة الانتصار الذي أنجزه التحالف الغربي في الحرب العالمية الأولى حيث ثورة 1919، ثم ذروة الانتصار الثاني الذي حققه التحالف الغربي في الحرب العالمية الثانية حيث ثورة 23 يوليو 1952 .

لا وجه من الإنصاف هنا أن يقال بعض ما يُقال، كأن الثورة العرابية جاءت بالاحتلال فهذا منطق الثورة المضادة لا غير، وكأن يُقال أن ثورة 1919 هادنت الاحتلال فهذا من منطق التزييف لاغير، أو يُقال أن الأمريكان جاءوا بثورة 23 يوليو 1952 بالتفاهم مع الإنجليز وضحوا بالملك والطبقة القديمة ويسروا اتفاق الجلاء البريطاني لتكون مصر الثورة في خدمة المشروع الأمريكي الجديد والبديل في العالم العربي والشرق الأوسط فهذا خلط في الأوراق وتلبيس الحق بالباطل .

وجه الإنصاف أن الثورات الثلاث كانت وطنية محضة، ومخلصة للأهداف القومية بما لايقبل الشك، لكن كل ثورة واجهت من الظروف الواقعية وتعاملت مع موازين من القوى أملت عليها حدود حركتها وفرضت عليها حدود قدرتها، فبريطانيا العرابية 1882 كانت أعتى قوى الأرض دون منازع، وبريطانيا ثورة 1919 كانت قد تغلغلت في تلافيف البلد 40 عاما مكنتها من إحكام القبضة وإتقان اللعبة واحتراف المناورة واستسهال المراوغة، أما بريطانيا 23 يوليو 1952 فكانت -بالفعل- قد أخذت شمسها تتوجه صوب الغروب وأوشكت إمبراطوريتها على الزوال وبدأت مصالحها الكونية -التي من أجلها احتلت مصر- تتقلص وتخلي مكانها للأمريكان، فلم تعد في 1952 مستعدة لتحارب الضباط الأحرار مثلما سبق وحاربت الضباط العرابيين في 1882 بخمسين ألف جندي، كذلك لم يكن لدى بريطانيا 1952 الاستعداد ذاته لتظل تناور وتماطل وتراوغ وتتهرب وتتلون وتغير جلدها ثلاثين عاما مع الضباط الأحرار مثلما فعلت مع ثورة 1919 أكثر من ثلاثين عاما .

الثورة العرابية جاءت في لحظة من حداثتنا الثورية باكرة فأرست شرعية العمل الثوري الذي يعني الحق في الرفض ثم في المقاومة، ثم استفادت ثورة 1919 من أخطاء العرابيين فكانت أكثر حكمة في حسابات المخاطر وكانت أكثر اعتدالا في صياغة خطابها السياسي فلم تغامر بكل ما تملك وتفادت قدر الاستطاعة توحيد وتكتيل خصومها عليها، ثم أدركت ثورة 23 يوليو 1952 -بوعي جريء هو أعظم ما فيها – أن الظرف التاريخي قد نضج بما فيه الكفاية لإزاحة الملك ثم إزاحة الاحتلال ثم إزاحة التابعين للملك والمتعاونين مع الاحتلال، إزاحتهم جميعا بصورة كاملة ليس فقط من المعادلة السياسية القائمة ولكن من الواقع السياسي المصري في جملته، وقد كان، أزاحتهم، ثم طوت صفحتهم، ثم بدأت حقبة سياسية جديدة مختلفة تماما .

**************

إذا كانت الثورة العرابية اختارت أن تواجه الخديو توفيق والاحتلال معا، فإن ثورة 1919 تعلمت الدرس، وقررت أن تركز على مواجهة الاحتلال أولا، وأن تحيد شقيقه الأصغر السلطان فؤاد مؤقتا، وهذا واحد من الدروس المهة التي تعلمتها ثورة 1919 من أخطاء الثورة العرابية .

ثم إذا كانت كل من الثورة العرابية 1882 ثم ثورة 23 يوليو 1952 لديهما إمكانية تحريك الجيش بقصد القتال أو بقصد الانقلاب والإمساك الكامل بالسلطة فإن ثورة 1919 لم تتوفر لها هذه الإمكانية على الإطلاق لثلاثة أسباب: أولا أن الجيش لم يكن جيشا بالمعنى المألوف إنما كان أقرب ما يكون إلى قوة شرطة عسكرية، ثانيا كان أكثره موجودا في خدمة الإنجليز في السودان، ثالثا كان تحت قيادة سردار إنجليزي .

ثم إن ثورة 1919 كانت في منتصف الحقبة الاستعمارية في مصر، أي في ذروة السيطرة الانجليزية على مقاليد الأمور المحلية كافة، فهي تسيطر على السلطان مثلما تسيطر على أصغر منشأة بوليس أو إدارة ري أو أي مرفق من مرافق الحياة، واليقين أن فكرة “الدولة العميقة” في مصر إنما تعود إلى تراث تلك السنوات من الحكم البريطاني، حيث كانت أجهزة الحكم لها ظاهر مصري من السلطان إلى الوزراء إلى آخره، لكن كان هذا في الظاهر فقط، وكانت هذه هي السلطة الشكلية فقط، وكانت هي السلطة التي على الورق فقط، أما في العمق وعلى وجه الحقيقة فإن السلطة الفعلية كانت في يد “الدولة العميقة” وهذه الدولة العميقة كانت تتمثل في جيش الاحتلال ثم المندوب السامي ثم المستشارين الإنجليز ثم الموظفين الإنجليز .

لكل ذلك، كانت ثورة 1919 تواجه الاحتلال بما تملكه فقط من فكرة الحق ومن الزعامة وهو هنا سعد زغلول وذلك قبل أن تشتعل الثورة على الأرض .

فكرة الحق في مواجهة منطق القوة كانت متبلورة بصورة واضحة عند جميع المصريين طوال سنوات الحرب السابقة على الثورة .

ونموذج الزعامة الزغلولية كشف عن نفسه في مبادرة سعد زغلول ورفاقه بمقابلة المندوب السامي البريطاني في 13 نوفمبر 1918 أي قبل اندلاع الثورة في 9 مارس 1919 بعدة شهور .

**************

السؤال الآن: كيف أدارت ثورة 1919 ملف الاستقلال من 13 نوفمير 1818 حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952؟

الجواب في مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله.