جاء الحوار الشامل الذي أجراه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع مجلة “ذي أتلنتيك” الأمريكية، كاشفًا للكثير من الجوانب في تفكير وعقل الأمير الشاب، الطامح لاعتلاء عرش المملكة التي ظلت قائمة على أسس وقواعد عامة “محافظة” منذ تأسيسها.
الرسالة الأسياسية التي أكد عليها بن سلمان، هي أن كل شيء في المملكة قابل للتحديث والتجديد إلا الاقتراب من نظام الحكم، أو منازعته في السلطة المطلقة في البلد، الذي ظل قبل تصدره للمشهد بدعم ودفع من والده، قائمًا على أسس قبلية، وتتحكم فيه نصوص دينية، وقواعد شرعية يحرثها رجال الدين الذين همشهم وزج بالمعارضين منهم لأفكاره الجديدة في السجون.
فمنذ وصول والده لقمة السلطة في المملكة خلفًا للعاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، كان بن سلمان الذي لم يكن تجاوز الثلاثين من عمره وقتها، يبحث عن شرعية يقدم بها نفسه، ويختصر بها الوقت لتجاوز التراتبية المتعارف عليها داخل الأسرة الحاكمة بالشكل الذي يجعله يزيح كل من يقف أمام طموحه بأي طريقة كانت.
وفي يونيو 2017 استدعى الملك سلمان ولي عهده آنذاك محمد بن نايف وأمره بالتنحي لصالح ابن عمه الأصغر سنًا محمد بن سلمان. ووفقًا لرويات استخباراتية تناولت تلك الواقعة، لم يجد بن نايف الذي كان يحظى بثقة الأمريكيين ويتمتع بنفوذ كبير داخل المملكة مفرًا من تنفيذ الأمر في ليلة عصيبة عليه استتبعها تغيير وجه السعودية.
أحد البدلوماسيين البريطانيين الذي التقى محمد بن سلمان في عدة مناسبات، وصفه في حديث سابق لـ”بي بي سي” بأن “لديه -بن سلمان- اعتقاد استثنائي بقدراته. فهو يشبه الوهج الشمسي، إذ ينفجر آنيًا بالأفكار والطاقة. ولكنه قد يكون يتمتع بثقة زائدة في النفس. وفي ذلك شيء من عدم الاحتراف”.
بن سلمان.. الملكية المطلقة
سعى بن سلمان منذ اللحظة الأولى لتوليه ولاية العهد في 2017، لتقديم نفسه “كمجدد” لهوية المملكة. قال “إن الذي حدث في السنوات الـ 30 الأخيرة لا يمثل السعودية”. إلا أن هذا التجديد من وجهة نظره لا يجب أن يطال نظام الحكم الذي دفع به لتصدر المشهد. وقد أكد خلال حواره مع المجلة الأمريكية العريقة، حين تطرق للأوضاع الداخلية في بلاده، أن نظام الحكم القائم على “الملكية المطلقة” هو الأنسب لبلاده.
كما نفى بن سلمان أي احتمال لتغيير هذه الملكية المطلقة بأخرى دستورية أو أي نظام بديل من شأنه أن يسمح لأحد بمنازعة أو مشاركة الملك “سلطاته المطلقة تلك”. والحقيقة، أن بن سلمان لم ينتظر حتى وصوله للجلوس على عرش المملكة رسميًا للحصول عليها، فأخذ ينقلها من والده إليه تباعًا خلال سيره لتأمين طريقه نحو العرش. حتى بات مسيطرًا بشكل مطلق على ثلاث من قوات الأمن والدفاع السعودية وإخضاعها لسلطته. وهي “الحرس الوطني” ووزارة الداخلية والجيش.
طموح الأمير الشاب ورغبته في عدم سماع أي أصوات معارضة لشخصه “الاستثنائي”، لم تجعله يكترث كثيرًا للانتقادات الدولية بشأن تعامله مع معارضيه. ففي المقابلات الصحفية التي أجريت معه، اعترف بأن هناك العديد من المعارضين يقبعون في غياهب السجون. ولكنه قال إن ذلك ثمنًا يجب أن يدفع من أجل تنفيذ رؤيته لبرنامج إصلاحي شامل.
واعتقلت السلطات السعودية تحت إمرته العديد من المدونين وناشطي حقوق المرأة وناشطين من الجناحين الليبرالي والمحافظ على حد سواء. ذلك بموجب قوانين لا تسمح بأي قدر من النقاش أو المعارضة.
لم يقف الأمر عند حد الزج بالمعارضين في السجون. ولكن الرغبة الجامحة في تنفيذ أطروحات التحديث والتجديد بدون معارضة، زجت بالمملكة ضمن نادي القتلة. وذلك بعد عملية اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول التي وضعت القائمين عليها في نفس تصنيف معمر القذافي وصدام حسين وبشار الأسد. وهو النادي الذي لم تنتم له السعودية في الماضي.
ورغم أنه إلى الآن لا يوجد دليل قاطع يربط بن سلمان بقتل خاشقجي. إلا أن تقييمًا سريًا أعدته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية حصلت عليه صحيفة “وول ستريت جورنال”، كشف عن وجود 11 رسالة نصية على الأقل بعث بها محمد بن سلمان إلى سعود القحطاني مدير مكتبه المتورط في الواقعة، قبل وخلال وبعد عملية الاغتيال.
صعوبة تحديث قواعد عمرها 300 عام مقابل أخرى تعود لـ1400 عام
بن سلمان الذي أكد خلال الحوار الأخير على أنه “ليس بمقدور أحد أن يفشل تصوره للسعودية الجديدة” التي يطال فيها التغيير كل شيء بما في ذلك التعامل مع النصوص الدينية المتوارثة منذ بعثة النبي محمد في الأراضي الحجازية قبل 1400 سنة، هو نفسه الذي شدد على صعوبة تغيير نظام الحكم إلى نظام آخر يضمن تداولًا للسلطة عبر آليات ديمقراطية. قال: “لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف. وذلك لأن الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ ثلاثمئة سنة. وقد عاشت هذه الأنظمة القبلية والحضرية التي يصل عددها إلى 1000 بهذا الأسلوب طيلة السنوات الماضية. كانوا جزءًا من استمرار السعودية دولة ملكية”.
رؤية “الأمير المجدد” للمملكة الحديثة غير قبالة للنقاش. كما لا توجد قوة بإمكانها إثنائه عنها. وهو ما يتضح خلال الحوار بقوله “هناك العديد من الناس الذين يريدون أن يتأكدوا من أن مشروعي، مشروع السعودية اليوم رؤية 2030 يفشل”. بينما أردف “لكنهم لن يستطيعوا المساس به، ولن يفشل أبدًا، ولا يوجد شخص على هذا الكوكب يمتلك القوة لإفشاله”.
بن سلمان.. الأمير المجدد وثورية الخطاب الديني
بينما بدا “الأمير المجدد” أصوليًا وأكثر راديكالية فيما يتعلق بالجوانب السياسية ونظام الحكم، ظهر ثوريًا في خطابه الديني. وقد أبدى خلاله التخلي عن المذهب السلفي كمرجعية للدولة السعودية. وأعلن عن رغبته في تغيير العديد من الأحكام المطبقة، وفقًا للفهم السلفي للشريعة، وتغيير الطابع الثقافي والعلمي للمملكة، التي قامت مؤسساتها الدينية والثقافية والتعليمية على أساس أن السلفية هي النهج الديني الصحيح.
وخلال مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي عبدالله المديفر في أبريل 2021، أشار بن سلمان بشكل واضح لنواياه في التخلي عن المذهب السلفي والوهابية. قال “لا نتبع مدرسة أو عالمًا معينًا.. الشيخ محمد بن عبدالوهاب لو خرج من قبره ووجدنا نؤلّهه ونطبق نصوصه دون اجتهاد لرفض الأمر”. متبعًا ذلك بقوله “لا توجد مدرسة ثابتة، ولا يوجد شخص ثابت، القرآن والاجتهاد مستمران، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاجتهاد مستمران”.
حديث بن سلمان عن أن الحكومة السعودية ملتزمة بالقرآن والأحاديث المتواترة وليس أحاديث الآحاد، وتكرار ذلك في أكثر من مناسبة، قد يعني إلغاء أغلب الحدود. بما أن معظم الحدود المطبقة في السعودية لم تُذكر في القرآن. إذ إن أهم الحدود المذكورة في القرآن هو حد الزنا، وهو مئة جلدة. ولكن يُطبق في السعودية حد الرجم استنادًا لحديث آحاد. علمًا أن عقوبة الجلد في القرآن مذكورة فقط بالنسبة للزنا وقذف المحصنات، وغير مذكورة للخمر.
توجهات بن سلمان لتحديث أسس وقواعد المملكة “المحافظة”، تضمنت مشروعًا جديدًا كشف عنه خلال حواره الأخير مع مجلة “ذي أتلنتيك”. وهو يهدف بحسب تعبيره لمحاربة التوظيف الخاطئ للأحاديث النبوية وتثقيف العالم الإسلامي حول طريقة استخدام الحديث النبوي.
إلغاء الوصاية الدينية
تمهيدًا لإلغاء الوصاية الدينية ضمن حملة الإصلاحات والتحديث التي يقودها بن سلمان تم تهميش هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت بمثابة “شرطة دينية”. وقد جرى تقليص كبير لعناصرها، بعد سنوات من الهيبة والنفوذ في الشارع السعودي. إذ كان لعناصر الهيئة صلاحيات واسعة بدعوى مراقبة تطبيق الشريعة الإسلامية. من بينها منع الاختلاط.
وكانت سيارات الهيئة تطوف في الشوارع، ويتأكد أفرادها من التزام النساء بارتداء “الزي الشرعي” ويلاحقون روّاد المقاهي والمراكز التجارية ويجبرون المحلات على الإغلاق وقت الصلاة.
قوة بن سلمان دفعت إلى تغييرات حقيقية في أسس وقواعد الهيئة. وقد أكد رئيسها عبد الرحمن السند، في مقابلة تلفزيونية، اعتزام الهيئة تعيين نساء بها. ذلك بعد أن كان ضمن قائمة المحظورات، مؤكدًا ارتكاب الهيئة سابقًا “مخالفات”. أردف الرجل أثناء حديثه بـ”أن شريعة المسلمين لا تنص على أن النهي عن المنكر يعني بالضرورة إزالة المنكر”.
هيئة الترفيه في مقابل الأمر بالمعروف
المملكة الجديدة كما يريدها ولي العهد “المجدد” لم تعد الأنشطة الترفيهية والحفلات الغنائية وعروض السينما التي ظلت ممنوعة فيها لفترات طويلة، محل نقاش فقهي وشرعي بها. بل أصبحت، محل ترحيب واسع.
لم يكن الاختلاط بين الجنسين في الأجواء الاحتفالية أمرًا متصورًا في المملكة قبل ثورة بن سلمان الإصلاحية. خاصة وأن رجال الدين المحافظين الذين كان يعتمد عليهم النظام من أجل أن يحظى بمشروعيته، كانوا يحرمون ذلك تحريمًا مطلقًا. إلا أن ذلك أصبح في “خبر كان” مع تقديم بن سلمان لمشروعيته الجديدة القائمة على التحديث.
ولتنفيذ خطط ورؤى الأمير المجدد فيما يخص إحداث نقلة نوعية على المستوى الثقافي والفني انشئت هيئة الترفيه عام 2016. ومن خلال عمل الهيئة أصبحت السعودية الأكثر تنظيمًا للحفلات والمهرجانات والعروض المسرحية في الشرق الأوسط.
كما بات “موسم الرياض الحدث الأبرز الذي ينتظره صناع الفنون من مختلف بقاع العالم. وقد نظم أكثر من 70 حفلة غنائية و350 عرضًا مسرحيًا ضمن ما يقارب 7500 فعالية ترفيهية متنوعة، بين الملاهي والفعاليات الرياضية وسباقات “الفورمولا 1” والمصارعة الحرة. ذلك في وقت تخطط السعودية لاستثمار نحو 64 مليار دولار في قطاع الترفيه من أجل أن تصبح الوجهة الأولى في المنطقة في ذلك المجال، وفق رؤية بن سلمان للسعودية 2030.
اقرأ أيضًا: استراتيجية إسرائيل الجديدة.. كيف تعالج تل أبيب الغياب الأمريكي في الشرق الأوسط؟
إسرائيل في سياسات مملكة بن سلمان الجديدة
بالعودة مجددًا إلى حديث بن سلمان خلال حواره مع المجلة الأمريكية، فإنه أكد التغيير الهائل في سياسات المملكة تجاه واحدة من القضايا شديدة التعقيد والحساسية. إلا وهي العلاقة مع إسرائيل. أكد أنه لا يمكن النظر لها كعدو. وقال “نأمل أن تُحل المشكلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.. إننا لا ننظر لإسرائيل كعدو. بل ننظر لهم كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معًا. لكن يجب أن تحل بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك”.
تصريحات بن سلمان الأخيرة اعتبرها بعض المراقبين تمهيدًا للإعلان عن تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
وقد سبقتها تقارير صحفية إسرائيلية عام 2020 أكدت عقد لقاء جمع ولي العهد السعودي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو على أراضي المملكة. وهو ما كان بمثابة تطور هائل، تبعه موافقة السعودية على السماح لرحلات الطيران العادية بين إسرائيل والإمارات بالمرور عبر أجوائها لتنهي حظرًا كانت تفرضه على رحلات جميع الطائرات الإسرائيلية في أجوائها.