كثيرًا ما تحدث العالم العربي عن ازدواجية معايير الغرب والكيل بمكيالين. وكنا محقين في الإشارة إلى تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني والانحياز المطلق لإسرائيل على حساب قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية. حتى أصبحت إسرائيل في مصاف الدول المستثناة فوق الشرعية والقانون.

وبدا الأمر مدهشًا أن تحشد الولايات المتحدة دول العالم كله ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتعتبره وهي محقة مخالفًا للشرعية الدولية. وفي نفس الوقت تكون هي الدولة التي غزت العراق في 2003 دون أي شرعية دولية. وتكون أيضًا أحد الأسباب الرئيسية وراء المآسي التي يعيشها العراق منذ أكثر من عقدين.

هذا التناقض دفع دول ومجتمعات كثيرة في العالم إلى رفض الدروس الأمريكية في الالتزام بالشرعية الدولية، سواء كان في مواجهة الغزو الروسي أو غيره. ومع ذلك سيبقي رفض أي هجوم على بلد ذا سيادة مبدأ وقيمة عليا يجب أن تحكم النظام الدولي. فلا يجب قبول غزو صدام حسين للكويت أو بوتين لأوكرانيا، رغم ما بينهما من فروقات كبيرة، نكاية في أمريكا أو غيرها.

الكيل بمكيالين

كان واضحا حجم الاهتمام العالمي بقضية أوكرانيا سواء في وسائل الإعلام الغربية أو الرأي العام. فشهدنا مظاهرات منددة بالهجوم الروسي. وقد شارك فيها معادون لروسيا وقوميون غربيون. لكن أيضا شارك فيها آلاف “المبدئيين” الذي تظاهروا ضد الغزو الأمريكي للعراق وضد الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. وأخيرًا ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا وضد كل صور عدم العدالة في النظام الدولي.

كما رأينا توظيف قنوات عالمية للتحريض ضد روسيا. حتى لو حافظت قنوات كبري أخرى على حياد جزئي مثل: ( CNN وBBC وFrance 24). كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا هي الأقصى منذ الحرب العالمية الثانية، سواء من حيث الحجم أو من حيث مشاركة الدول فيها.

وهو أمر لم يحدث أثناء الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. إذ لم يلوح أحد غير المنظمات المناهضة للاستيطان، بمقاطعة المستوطنين ومنتجاتهم. وحين غزت أمريكا العراق في 2003 اكتفت بلدان كبيران هما فرنسا وألمانيا بإعلان رفضهما للغزو. وذلك في موقف مشرف ظل يحسب لهما إلى الآن. لكن دون أن يقدما لا هما ولا غيرهما على مجرد التلويح بمقاطعة واشنطن أو معاقبتها اقتصاديًا.

صحيح أن أمريكا هي القوة الاقتصادية الأولي في العالم وأن من الصعب على أي دولة أو تكتل دولي أن تعلن مقاطعتها. إلا أن هذا لا ينفي انحياز العالم لأمريكا، وإنه أغمض عينه عن “غزواتها”. وقد كال بمكيالين بين ما تفعله هي مقارنة بما يفعله الآخرون.

كما اتضح أيضًا كيف فتحت أوروبا أبوابها أمام اللاجئين الأوكرانيين. فاستقبلت في أسابيع 4 ملايين لاجئ. وكيف أن بلد مثل بولندا عرف بموقفه المعادي للاجئين العرب والسوريين، وأغلق حدوده في وجه غير الأوربيين، فتح حدوده واستقبل بالورود اللاجئين الأوكرانيين. وقد قدم لهم كل المساعدات الطبية والإنسانية الممكنة. ولم ينس أيضًا أن يسيء للأجانب القادمين من أوكرانيا من العرب أو أصحاب البشرة السمراء. وذلك في تمييز عنصري واضح.

انحازت أوروبا لأبناء جلدتها. قالت مراسله في قناة أمريكية وهي تصف الأوكرانيين هم بيض وشقر ومسيحيين وهم مثلنا ويجب أن نساعدهم.

الكيل بمكيالين واضح في أوروبا. فليس كل المهاجرين مرحب بهم. كما أن خطاب اليمين القومي المتطرف بل وبعض قوى اليمين الذي قام على مهاجمه المهاجرين الأجانب، وإغلاق الحدود في وجهم، فتح حدوده على مصراعيها أمام اللاجئين الأوكرانيين، حتى لو كانوا بالملايين في ازدواجية صارخة للمعايير.

وماذا عن معاييرنا؟

ازدواجية المعايير الغربية لا تنطبق على كل الحكومات ولا على كل الشعوب. ولكنها ظاهرة غالبة وتعكس في جانب انحياز طبيعي بين شعوب مرتبطة ببعضها على المستوي الثقافي والحضاري، وفي جانب آخر تعكس انحياز سياسي لنظم متقاربة في توجهاتها ومنظومة قيمها، وفي جانب ثالث تعكس عنصرية بغيضة تجاه الشعوب والمجتمعات غير الغربية.

ويبقي السؤال ما الذي يمنعنا أن تكون لدينا أيضًا “ازدواجياتنا” في المعايير، بدلًا من البكاء على انحيازات الغرب؟ وأقصد لماذا لا ينحاز العرب للفلسطينيين أولًا بدلًا من أن يدينوا انحيازات الغرب لأوكرانيا؟ لماذا لا يكون التضامن الإنساني مع الشعب الفلسطيني ومع العراقي والسوري واللبناني والليبي واليميني وأي شعب عربي منكوب أولوية عربية بدلًا من رفض انحيازات الغرب للشعوب الأوربية؟

لماذا لا نجد انتفاضات دعم في كل العالم العربي للشعب الفلسطيني مع كل عدوان إسرائيل؟ أليس بيننا كثيرين أصيبوا “بالتبلد الإنساني” ويأخذون فلسطين حجة لعدم التعاطف مع أي شعب يتعرض لمحنة سواء كان الأوكراني أو غيره؟ أليس هناك من كان يقول أثناء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني “مالنا ومال فلسطين” مصر أولًا ووضعوا تعارض زائف بين الانتماء لمصر والتضامن مع فلسطين؟ مع إنه بديهي لا تعارض بينهما.

صحيح أن الغرب ميز بين اللاجئين السوريين والأوكرانيين، على أساس أن أوكرانيا بلد أوربي وليس عربي، وهي متاخمه لحدود بلاد أوربية أخرى مثل دول البلطيق وبولندا. وبالتالي كان تعاطفه معها هو تعاطف مع النفس قبل أن يكون تعاطف مع الغير.

ازدواجية المعايير مرفوضة أخلاقيًا وسياسيًا. ولكن يجب أن تكون حافز للعالم العربي لإعادة ترتيب أولوياته، فالمسطرة الأخلاقية والقانونية يجب أن تكون واحد في رفض أي اعتداء يتعرض لها أي شعب من الشعوب. لكن من الطبيعي أن يكون تضامنًا مع الجار والشقيق وانتفاضتنا من أجله أولوية للشعوب العربية تجاه الشعوب العربية المنكوبة، لا أن يكون التضامن بالكلام والشعارات، ويتصور بعضنا أن إدانة انحياز الأوربيين للأوربيين هي الحل في حين ان المطلوب ان ينحاز العرب للعرب ولأنفسهم أولًا.