تطرح المقالات الأربع التي نشرها موقع “مصر 360” عن الأزمة الأوكرانية، لكل من الأساتذة: عبدالعظيم حماد، وحسين عبدالغني، ورائد سلامة (مقالان) سؤالًا انشغلت به كثيرًا بعد خروجي من السجن -أبريل 2019- عن العلاقة بين ما يجري في العالم من تطورات لا تشمل هيكل النظام الدولي فقط، وبين مسألة أو سؤال الإصلاح والتغيير في العالم العربي. وقد دشنته انتفاضات الربيع العربي بموجاتها المتعاقبة، والتي كان آخرها انتفاضة سيف القدس -مايو 2021.

ولتسمح لي عزيزي القارئ أن استحضر بعضًا مما كتبته وقتها. لأنه هام فيما نحن بصدده من زاويتين: الأولي ما أشرت إليه من العلاقة بين الأزمة الأوكرانية وبين جوهر التغيير في المنطقة. والثاني هو علاقة ذلك كله بقضية الشعب الفلسطيني. فقد رأي البعض أن هزيمة الغرب وانتصار بوتين فيه نصرة للقضية ودعم لها، أو على أقل تقدير فيه شفاء صدور قوم مناصرين لفلسطين وذهاب غيظ قلوبهم في مواجهة ازدواجية معايير طافحة وعنصرية بادية في كل ركن.

كان إدراكي وقتها أن معركة “سيف القدس” بمثابة الموجة الثالثة من الربيع العربي. كتبت نصًا: “كان الربيع العربي -بموجتيه- ولا يزال تغييرًا في قواعد اللعبة الداخلية لصالح شعوب المنطقة؛ تمهيدًا لإحداث تحول علي المستوي الإقليمي وفي علاقتها بالنظام الدولي.
في مقابل ذلك كانت هناك قوة مضادة تستثمر فائض قوتها وثروتها في الديناميكيات التي كشف سترها وفضحها هذا الربيع لتعيد تشكيل المنطقة وتغير قواعدها لصالح رؤية مناهضة لجوهر الانتفاضات العربية؛ التي هي بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة ،ويستند هذا العقد إلي مقومات ثلاثة:الحرية/الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. هذا الحلم قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغي”.
وأضفت: “في علاقة انتفاضة القدس بالربيع العربي وجوه كثيرة تحتاج إلي تفصيل …، ولكننا نشير هنا إلي بعض نقاط الالتقاء التي جوهرها استكمال الضلع الرابع في العقد الاجتماعي العربي؛ فبرغم أن التجاوب الشعبي العربي المتصاعد مع الانتفاضات الفلسطينية في العقد الأول من الألفية الجديدة كان أحد المقدمات الاساسية للانتفاضات العربية، إلا أن القضية الفلسطينية لاسباب- ليس مجال للتفصيل فيها- قد شهدت تراجعا علي مدار العقد الماضي -عمر هذا الربيع”.

“الانتفاضة الجارية الآن هي استعادة للاهتمام الشعبي بالقضية من جديد. وهي استعادة لأحد مكونات الشرعية في النظم السياسية العربية. ولكن بوعي جديد يتجاوز خبرة النظم القومية في الستينيات وما تلاها، التي وظفت القضية لتصادر بها مطلب الشعوب في الحرية والمشاركة السياسية. فـ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
أوجه شبه عديدة بين ما يجري في فلسطين وبين موجتي الربيع العربي: المحرك الأول؛ أجيال شابة وحضور نسائي طاغ سبق التنظيمات في حركتها، مع تجاوز آليات العمل القديمة والثنائيات المتعارضة سلمي/مسلح، وحل الدولتين، والخلافات السياسية والتنظيمية نحو هدف وطني مشترك ضد الاحتلال الصهيوني في الضفة والقطاع والقدس، والتمييز العنصري في الخط الأخضر، استخدام السوشال ميديا (جيل التيك توك) باعتبارها أدوات للحشد والتعبئة وتوثيق الانتهاكات وتقديم القضية للعالم، وأيضًا كنموذج معرفي وقيمي يتسم بالشبكية واللامركزية والإبداع في الفعل مع سرعة المبادرة”.
وقد يتساءل القارئ: ما علاقة كل ذلك بمقالات مصر 360 الأربع؟
تقدم لنا المقالات منظورًا هامًا لما يمكن أن تكون عليه علاقتنا بالعالم الذي يشهد تغيرًا لا يمكن أن نتعامل معه باستدعاء مفاهيم قديمة من قبيل الحرب الباردة وتعددية الأقطاب التي يمكن أن توسع “من هامش المناورة في نظام عالمي تعددي وأقامت علاقات مع أطرافه المختلفة على أساس المصلحة الوطنية”، علي حد قول الأستاذ حسين عبدالغني في مقاله.

استندت المقالات الأربع إلى عدد من النقاط؛ التي من شأن الحوار حولها وتطويرها أن تقدم لنا -والنون هنا عائدة على قوى التغيير والإصلاح في المنطقة- منظورًا للتعامل مع العالم وتطوراته:
1- ما هي طبيعة النماذج السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تقدمها الدول الكبرى سواء الصاعدة أو المهيمنة في النظام الدولي. وذلك من زاويتين: الأولى تناولها الأستاذ حماد في حديثه عن النظم التسلطية الممتزجة بالقومية التوسعية. والثاني تناولها الدكتور سلامة في حديثه عن رأسمالية الصين وروسيا لا اشتراكيتهما التي تصورتها بعض النخب العربية أنها لا تزال تحكم طبيعة النظام الاقتصادي لهذه الدول.
وتتفرع عن ذلك محددات علاقة هذه الدول بدول العالم الثالث أو الاقتصادات الناشئة. فالصين تتحدد علاقتها بالتعاون الاقتصادي لا الأمني والقروض أو المعونات لا تملي معها أي اشتراطات أو تغييرات في النظام السياسي، بخلاف الدول الغربية التي تحكمها المشروطية السياسية والاقتصادية. أما روسيا فيغلب عليها استخدام القوة الصلبة والتدخل العسكري مباشرة أو عن طريق الشركات الأمنية لتحقيق مصالحها.
2-مستجدات الأجندة العالمية، وما طرأ عليها من قضايا انشغل وسينشغل بها العالم في العقدين القادمين علي الأقل. لأنها سترسم ملامحه إلى حد بعيد. ويلاحظ أن العقل العربي لم يتعامل معها إلى الآن بشكل يكافئ بناء تصورات تحدد مصالحنا فيها.
أشار الدكتور سلامة إلى قضية التغير المناخي وتأثيره الجيوسياسي على خرائط الطاقة في المستقبل. ويمكن أن نشير أيضًا إلى مسائل من قبيل: التطورات التكنولوجية، وتدفق المعلومات، والتغير الديموجرافي، وصراع الهويات، وطبيعة الاقتصاد في المستقبل المتحول إلى اقتصاد المعرفة واستغناء عن العمالة نحو الأتمتة. وأخيرًا وليس آخر تأثير ذلك كله علي دور الدولة وطبيعة علاقتها بجمهورها في المستقبل.

3- قضية المصلحة الوطنية، والتي تفترض وجود أنظمة وطنية -كما في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي- وهي من الموضوعات التي نحتاج إلي إعادة زيارتها والتفكر فيها لأسباب ثلاثة من وجهة نظري:
الأولى: هل يمكن الحديث عن نظام وطني من غير ديموقراطية ومشاركة شعبية؟
علمتنا خبرة التاريخ المصري أنه لا نهضة من غير ديمقراطية (خبرة محمد علي)، ولا استقلال وطني دون ديموقراطية (خبرة عبد الناصر)، ولا حفاظ على مكتسبات الحرب من غير ديموقراطية (خبرة السادات)، ولا تنمية من غير ديموقراطية (خبرة مبارك)، ولا حفاظ على كيان الدولة وصيانة أمنها القومي من غير ديمقراطية (نظام 3 / 7). وأضيف من خبرات ما حولنا أنه لا إسلام من غير ديمقراطية (خبرة سودان البشير وسعودية آل سعود).
الثانية: هل السياسات الخارجية لدولنا العربية سابقًا وحاليًا ومستقبلًا بنيت على تحقيق الاستقلال الوطني أم حكمتها الاستمرار في الحكم. أي اختيار بدائل السياسات التي تضمن ذلك.
أنا أدرك بحكم دراستي العلوم السياسية أن السياسة الخارجية أكثر تعقيدًا من ذلك، وتتداخل فيها عوامل كثير. لكني أؤكد أيضًا أن الدراسات التي اهتمت بتقويم سياسات النظم من هذا المنظور نادرة إن لم تكن منعدمة.
النقطة الثالثة: هي وإن ارتبطت بسابقتها إلا أنه يحسن إفرادها لأهميتها وحساسيتها. وهي توظيف قضية فلسطين لضمان الاستمرار في الحكم كما في نظام حافظ الأسد في سوريا [انظر كتاب مشيل سورا عن الدولة المتوحشة]، أو لتأكيد شرعيته الدولية كما جرى مع مبارك. لكن الجديد هو أن التطبيع مع الكيان الصهيوني هو الضمانة للبقاء في السلطة الآن.

غاب عن المقالات الأربع نقاش حول موقع الأزمة الأوكرانية من تطلعات الجماهير على المستوى العالمي نحو قيم إنسانية مشتركة. فمن بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من: وحشية الشرطة، والفساد، ورأسمالية المحاسيب، وغطرسة من هم في السلطة، والتلاعب بالسياسة، وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس، وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص… تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي للكرامة والعدالة والحرية.
ويصبح السؤال: أين موقع قوى الإصلاح والتغيير في منطقتنا من هذه الحركة العالمية؟
وأخيرًا؛ فإن عدم اليقين هو ما يسيطر علي العقل الاستراتيجي في العالم الآن، ويحاول أن يطور مفاهيمه ونماذجه المعرفية لتتواكب مع هذه الحالة. فعلي سبيل المثال، مستقبل النظام الدولي مفتوح علي سيناريوهات متعددة لم تظهر ملامحها النهائية بعد، وإن ظهرت بعض تضاريسها. فالصين وليس روسيا قوة عظمي فيه إلى جوار الولايات المتحدة. ولكن ما طبيعة العلاقة بينهما؛ هل هي تنافس محكوم بقواعد أم حرب باردة جديدة؟ وما موقع الاتحاد الأوربي وروسيا والهند من هذا التنافس؟ وهل النظام الدولي سائر نحو الفوضي أم قطبية ثنائية أم تعدد أقطاب؟ وما هي المحددات التي ستحكم هذه السيرورة؟ وما موقع الفواعل من غير الدول في هذا النظام. وهو سؤال يهمنا كثيرًا في ظل تآكل وانهيار مفهوم الدولة في مخيال المواطن العربي؟
وأخيرًا؛ أين موقع منطقتنا من هذه السيناريوهات؟ سؤال يستحق أن أخصص له مقالي المقبل.