ساهم انتهاء فترة الحرب الباردة في تهميش قيمة الأداة العسكرية، لصالح القيم الاقتصادية والتكنولوجية. حيث اندفعت العديد من الدول العظمى نحو توجيه كامل جهودها في تنويع مواردها في إطار التنافس الاقتصادي. ولكن مؤخرًا، عادت الأداة العسكرية لتتصدر المشهد العالمي. ذلك باعتبارها أداة رئيسية لتحديد ملامح السياسة الخارجية. وقد كشف الغزو الروسي على أوكرانيا عن تفاوت الإمكانات العسكرية الواضحة بين مختلف الدول. وعلى وجه الخصوص بين روسيا وأوكرانيا. ما دفع العديد من الدول إلى إعادة تقييم قدراته العسكرية وتطويرها. ذلك برفع ميزانية الإنفاق العسكري والدفاعي. فضلًا عن تعزيز قدرات التسليح والصناعات العسكرية، استعدادًا لمواجهة أي مخاطر أمنية مستقبلية.

الأمن الأوروبي وملامح صعود الأداة العسكرية

اتخذت روسيا قرار الغزو بناءً على عدد من المحددات. وكان أهم تلك المحددات الإمكانات العسكرية. إذ تبذل روسيا جهودًا متواصلة في سوق التسليح والمنافسة العسكرية. بينما كشف الغزو الأخير لأوكرانيا عن اكتساب الجاهزية العسكرية أهمية مضاعفة. وذلك عبر عدد من الملامح:

زيادة الإنفاق العسكري

لم تشكل الحرب الروسية على أوكرانيا حدثًا مفاجئًا. فالعالم يشهد تصعيدًا متواصلًا بين جميع الأقطاب المتنافسة منذ سنوات. ووفقا لتقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام SIPRI في 2021، ارتفع حجم الإنفاق العسكري العالمي إلى 1981 مليار دولار في عام 2020. وذلك بزيادة قدرها 2.6% عن قيمته في عام 2019. وقد تصدرت الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا والمملكة المتحدة المراكز الأولى، مشكلين معًا نسبة 62% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.

ومع اندلاع الغزو الروسي، خيم التوتر الأمني على العالم. إذ سارعت العديد من الدول إلى تفعيل مواد معاهدة الناتو برفع الإنفاق العسكري الخاص بالأعضاء إلى 2%. وكان على رأس هذه الدول ألمانيا. إذ اتخذت قرارًا تاريخيًا بتخصيص 109 مليارات دولار لصالح الإنفاق العسكري. وهو ما يعادل أكثر من ضعف ميزانية الدفاع لعام 2021. كما قررت الولايات المتحدة رفع الإنفاق الدفاعي بنحو 2% إلى 768.2 مليار دولار.

وفي السياق ذاته، أعلنت رئيسة وزراء ليتوانيا “إنجريدا سيمونيت” أن الحكومة قررت زيادة الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي. كذلك أعلنت الدنمارك والسويد زيادة إنفاقهما الدفاعي ليصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي النمسا، قررت الحكومة رفع إنفاقها العسكري بنسبة 0.25%. وكذلك الحال بالنسبة لبولندا، حيث وافقت الحكومة على زيادة الإنفاق العسكري للبلاد وتوسيع حجم جيشها.

وعلى صعيد آسيا، أعلنت الصين عن زيادة بنسبة 7.1% في الإنفاق الدفاعي في عام 2022. بحيث يصل إلى 229 مليار دولار. كما تعهد رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” بمضاعفة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي.

تطوير القدرات العسكرية

شكل الغزو الروسي سوقًا ضخمًا لشركات الصناعات العسكرية. إذ اتجهت العديد من الدول إلى إيلاء الاهتمام بتطوير ترساناتها الدفاعية. فأكدت ألمانيا عزمها تحديث أسطولها بطائرات مقاتلة من طراز F-35 الأمريكية. كما تعتزم وزارة الدفاع اليابانية الحصول على منظومات دفاع باستخدام مقذوفات تعمل بالطاقة المغناطيسية لاعتراض الصواريخ المعادية. وهي تحدث أيضًا صواريخ باتريوت المتطورة 3 سطح – جو بمدى دفاعي ممتد. وتستهدف تسريع استحواذها على معدات متطورة مثل طائرات الدوريات وطائرات النقل.

كما وقعت بريطانيا وفرنسا اتفاقًا لتطوير صواريخ كروز وصواريخ مضادة للسفن. كما تسعى فنلندا نحو الحصول على معدات أنظمة دفاع جوي مضادة للطائرات من شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية (ISRAI.UL)  أو شركة رافائيل للأنظمة المتقدمة.

الشركات الأمنية الخاصة

كشف تقرير صادر عن Aerospace & Defense News أخيرًا، أن الصناعة العسكرية والأمنية الخاصة العالمية ستحقق أكثر من 457 مليار دولار. أي ما يعادل ضعف إنتاجها في 2020. حيث بينت ساحات الصراع الأخيرة عودة لاستخدام المقاتلين الأجانب بشكل موسع. وعلى رأس هذه الشركات الأمنية التي تعمل بشكل واسع حاليًا فاجنر الروسية، التي امتدت أذرعها لتغطي كافة أنحاء الدول الأفريقية والشرق الأوسط.

وانطلاقًا من ذلك، عادت الشركات الأمنية الخاصة إلى الواجهة خلال الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد أعرب متعاقدون من الولايات المتحدة وأوروبا عن رغبتهم في المشاركة في الحرب. ووفقًا للرئيس الأوكراني، تطوع أكثر من 16 ألف أجنبي من 52 دولة مختلفة. وفي المقابل، أعلن بوتين أن هناك آلاف من المقاتلين يودون الانخراط في الحرب إلى جوار روسيا.

فيما صرح الخبير في الشركات العسكرية الخاصة “روبرت يونغ بيلتون” بأن “هناك حالة من الجنون في السوق للمتعاقدين من القطاع الخاص في أوكرانيا اليوم”.

أبرز دلالات الضرورة إلى التحول في الأمن الأوروبي

يمثل الغزو الروسي على أوكرانيا نتيجة طبيعية لسلسلة من الأحداث والترتيبات، كما يكشف عن العديد من الدلالات:

أولوية القدرات العسكرية

تمثل أحد الجوانب الأكثر بروزًا، التفوق العسكري لموسكو على الجيش الأوكراني. ووفقًا لتقرير “التوازن العسكري” الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، يوجد في روسيا 900 ألف عسكري و2 مليون جندي احتياطي. ذلك مقارنة بـ 196 ألف جندي و900 ألف جندي احتياطي أوكراني. كذلك الأمر بالنسبة للمعدات العسكرية، تمتلك موسكو 74 سفينة حربية و51 غواصة. بينما تمتلك كييف سفينتين فقط.

أيضًا روسيا هي ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم، ومنذ عام 2016، صدرت روسيا أسلحة إلى أكثر من 45 دولة. وهو ما يمثل حوالي 20% من مبيعات الأسلحة العالمية. بينما انحصرت واردات أوكرانيا من الأسلحة من 2017 إلى 2021 في 12 طائرة بدون طيار مقاتلة من تركيا. بالإضافة إلى 540 صاروخًا مضادًا للدبابات من الولايات المتحدة. وأيضًا 87 مركبة مدرعة و56 قطعة مدفعية من التشيك، وفقًا لمعهد SIPRI. وهو ما يضع الدول ذات الإمكانات العسكرية الضعيفة في خطر. وبالتالي يشكل حافزًا رئيسيًا نحو تأمين ترساناتها العسكرية.

الأمن الأوروبي.. ترهل القدرات العسكرية

كانت الحرب اختبارًا حقيقًا لمدى تأهب الإمكانات العسكرية الأوروبية. ومن الواضح بجلاء، أن الدول الأوروبية كانت تعتمد على الولايات المتحدة في مسألة الدفاع والأمن. إذ ينفق أعضاء الناتو الأوروبيون في المتوسط 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي على جيوشهم. أي أقل من نصف ما تخصصه الولايات المتحدة للدفاع.

وبالإضافة إلى ذلك، وطبقًا لتقرير لشركة Rand Corporation الأمريكية في عام 2017، فإن بريطانيا وفرنسا -الجيوش الأكثر قدرة وتمويلًا في القارة- قد تستغرق أكثر من شهر لإرسال لواء مدرع واحد فقط إلى دول البلطيق. كما خفضت النمسا ميزانية القوات المسلحة لسنوات. بحيث صارت أقرب إلى قوة مساعدة فنية.

وهنا، يشكل الغزو الروسي لأوكرانيا إنذارًا للدول الأوروبية عن خطأ تصورها تجاه فاعلية الأداة العسكرية.

بداية التحول في مفهوم الأمن الأوروبي

شكل خطاب المستشار الألماني “أولاف شولتز” إيذانًا بعصر أوروبي جديد بمفاهيم أمنية مستحدثة. فبوصفه الوضع الراهن أنه بمثابة “حقبة فاصلة”، ففتح المجال أمام الدول الأعضاء في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي إلى إعادة صياغة مفاهيم الأمن. وبما يتناسب مع التهديدات الحالية والمستقبلية. الأمر الذي يتطلب آليات مستحدثة يمكنها التكيف مع المخاطر الأمنية المحتملة. ولن يكون ذلك إلا بقرار أوروبي وأدوات أوروبية. ومن ثم تخفيف الاعتماد على الإمكانات العسكرية الأمريكية. ما يعجل من خطط إنشاء قدرات دفاعية أوروبية مشتركة.

تزايد المخاطر الأمنية

تخشى الدول الأوروبية من انتشار عدوى عدم الاستقرار الأمني بفعل الغزو الروسي، فمع دخول القوات الروسية أوكرانيا في 24 فبراير، كانت هناك 8 طائرات صينية مقاتلة وطائرة مروحية استطلاعية عبر منطقة تحديد الدفاع الجوي في تايوان.

وبالفعل، كان رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” قد حذر مسبقًا في مؤتمر ميونيخ للأمن في 19 فبراير، من خطر احتمال تشجّع الصين الغزو الروسي. قال: “إذا تعرضت أوكرانيا للخطر، فسوف يتردد صداها في جميع أنحاء العالم”.

ويحمل الغزو الروسي دلالة هامة، كونه يعيد التذكير بإمكانية استخدام الأداة العسكرية في حال فشلت الأدوات الاقتصادية وطاولات المفاوضات واللقاءات الدبلوماسية في الوصول إلى تسوية ترضي جميع الأطراف. وفي ظل تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة وبين روسيا ودول الناتو، ما يفسح المجال لترسيخ المخاوف الأمنية وعدم الاستقرار الساحة العالمية.

التداعيات المحتملة

يعيد الغزو الروسي على أوكرانيا ترتيب خريطة ميزان القوة الاستراتيجي في العالم، وعلى المستوى الأمني، يحمل عددًا من التداعيات. فعلى الرغم من أن تنشيط القدرات العسكرية ورفع ميزانيات الدفاع يمنح الدولة شعور بالثقة في قدراتها، ويؤمنها إزاء المخاطر الخارجية، إلا أن سباق التسلح بين الدول المتنافسة في بعض الأحيان قد يضعهم في المواجهة من خلال التلويح باستخدام القوة أو تنفيذ بعض العمليات العسكرية المحدودة. ما قد يصعد التوتر خاصة في مناطق النزاعات الإقليمية.

لا يمكن تجاهل أن الغزو الروسي كشف الثغرات الأمنية في أوروبا والتي أهملتها مختلف الدول لمدة أعوام على إثر رواية انتهاء الحروب التقليدية. وهو ما قوض من إمكانية من تشكيل قوة أوروبية أمنية مشتركة جاهزة للدفاع عن أي دولة في حالة تعرضها لخطر. وبالتالي يمكن أن تدفع الأحداث الراهنة نحو تفعيل مفاهيم التكامل الأوروبي في مجال الأمن والدفاع.