ظلت وسائل الإعلام الغربية ومنصات التواصل الاجتماعي تقدم نفسها كراعية لمنبر الحرية لكل إنسان للتعبير عن رأيه مهما كان دون قيود. حتى جاءت حرب روسيا-أوكرانيا لتغير كثيرًا من تلك المفاهيم. خاصة مبدأ “إذا تعذر إقصاء الأيديولوجيا فعلى الأقل يجب ترك مجال للطرف الآخر”.

“لا يوجد أسوأ من تقديم تغطية منحازة. سواء عن عمد أو جهل أو بقلة اكتراث”. تمثل تلك الجملة الدستور النظري الذي تغرسه الصحف الغربية ومنصات التواصل الاجتماعي على جدرانها أو تعلقه على صدور عامليها. لكن في أوقات الأزمات تتحول تلك المقولة إلى “الموضوعية خُرافة” أشبه بطائر العنقاء الذي يتبارى الجميع في وصفه رغم أن أحدا لم يره.

في النزاعات المسلحة تتوالد البيئة الخصبة للحروب الدعائية والشائعات والأكاذيب والحرب النفسية. ما يتطلب من وسائل الإعلام قواعد خاصة لتدقيق المحتوى. فيما المنصات وغالبية تلك الوسائل اتخذت طريقا آخر. فبدلاً من التمحيص قررت تبني وجهة نظر واحدة -“أوكرانيا فقط”- وحجب وجهة النظر الأخرى لمجرد أنها روسية.

شركة فيسبوك “ميتا” منذ اندلاع الحرب الروسية قررت تخفيض تصنيف منشورات وسائل الإعلام الحكومية الروسية. قبل أن تقرر عدم السماح للمعلنين بموسكو بإنشاء إعلانات أو عرضها في أي مكان بالعالم بما في ذلك داخل روسيا.

حرب ضد الروس في مواقع التواصل

وأظهرت رسائل بريد إلكتروني داخلية بـ”ميتا” نشرتها وكالة رويترز أن “ميتا” ستسمح لمستخدمي فيسبوك وانستجرام بالدعوة إلى العنف ضد الجنود الروس. في تغيير مؤقت لسياستها لمكافحة خطاب الكراهية. فضلا عن السماح بالمنشورات التي تدعو إلى “الموت” للرئيس الروسي بوتين أو حليفه بروسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو.

انضمت منصة “تيك توك” لمقاطع الفيديو هي الأخرى إلى قائمة المنصات التي قللت من الوصول إلى المنافذ الإخبارية الروسية المرتبطة بالدولة. وطالما أن معظم الوسائل الروسية تخضع لذلك التصنيف فإنها باتت بعيدة تمامًا بمزاعم التضليل بشأن العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا.

شركة “جوجل” مضت أبعد من ذلك عبر إزالة وسائط الدولة الروسية من شبكة الإنترنت. وقررت حجب قنوات يوتيوب الخاصة بالمذيعين الروس وأشهر موقعين لموسكو على شبكة الإنترنت -“روسيا اليوم” و”سبوتنيك” بأوروبا فقط- ربما لكي لا يصل صوت موسكو لجيرانها في القارة العجوز.

الرئيس الأوكراني
الرئيس الأوكراني

مثلما علقت جوجل الإعلانات لوسائل الإعلام الحكومية الروسية على منصاتها المختلفة. حظرت شركة “سناب شات” هي الأخرى جميع الإعلانات التجارية على الموقع في روسيا وبيلاروسيا. كما قررت إيقاف تشغيل ميزة الخرائط الحرارية الخاصة بالتطبيق في أوكرانيا مؤقتًا. والتي ربما تحمل دلالات على مكان التصوير حماية للأوكران من الاستهداف.

ومنعت منصة التواصل الاجتماعي REDDIT التي تنشط بصورة كبيرة في أمريكا جميع الروابط الواردة من أسماء النطاقات الروسية. بما في ذلك المواقع الإخبارية التي ترعاها الدولة. بالإضافة إلى عدم قبول الإعلانات التي تصدر من أي كيان روسي حكومي أو خاص.

إذا تعذر إقصاء الأيديولوجيا.. فعلى الأقل يجب الإحاطة برأي الطرف الآخر.. مبدأ لم يعد موجودا على الأجندة الإعلامية.

الهيئة المسؤولة عن تنظيم الاتصالات بروسيا تقول إن هناك 26 حالة تمييز من “فيسبوك” ضد وسائل إعلام روسية منذ أكتوبر 2020. كما تتهم موسكو منصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر” بفرض رقابة توصف بالمشددة على المحتوى الذي يروج وجهة نظر روسيا أو الأفكار المناوئة للغرب.

الحرب الروسية الأوكرانية ولعبة الحظر الإعلامي

وقرر موقع “يوتيوب” أخيرًا حظر قناة “روسيا اليوم” بجانب جميع قنوات الإعلام الروسية الممولة من الحكومة بجميع أنحاء العالم. بسبب ما أسماه بـ”المبادئ الإرشادية التي تمنع التقليل من أهمية الأحداث العنيفة الموثقة”. لكنه في الوقت ذاته يسمح ببث مقاطع من أوكرانيا بعضها من دول أخرى.

وعلقت السلطات الأسترالية أيضًا بث قناة “آر تي” الروسية. كما أزالت شركة الاتصالات الفنلندية “إليسا” القناة ذاتها من حزمة البرامج الخاصة بها. تعبيرا عن الدعم لأوكرانيا. فيما أبلغت سلطات مولدوفا فريق تحرير المكتب المحلي لوكالة “سبوتنيك” الإخبارية الروسية بحجب موقعها.

ألمانيا قررت هي الأخرى منع بث قناة “روسيا اليوم” باللغة الألمانية على أراضيها. باعتبار أنها “لم تقدم طلبا للحصول على الترخيص الضروري بموجب قانون وسائل الإعلام”. مع التأكيد أن المحطة أداة دعاية للكرملين حول العالم لكن القناة أعلنت اللجوء إلى القضاء لمواجهة القرار الألماني الجديد الذي اتخذ لاعتبارات سياسية محضة.

رغم ممارسة المنصات الغربية التضييق على وسائل الإعلام الرسمية فإنها ركزت في الجانب المقابل على اتهامات للسلطات الروسية بإغلاق وسائل الإعلام الرافضة للحرب. مثل وكالة “إيخو موسكفي” للأنباء وتليفزيون “تي في رين”. واعتمدت في نقل الخبر وتعميمه على وكالة “أخبار أوكرانيا من بريطانيا”. أي أنها اعتمدت في تغطية أخبار الشأن الروسي الداخلي من عدوه أو بالأدق الطرف الآخر في المعركة.

في قضية مقتل الأمريكي برينت رينو تم تبني وجهة نظر وزارة الخارجية الأمريكية التي اتهمت موسكو بمقتل صحافي يعمل من أجل التغطية وإصابة آخرين. رغم أنه وجد بمنطقة اشتباكات مسلحة في العاصمة لا يعرف فيها من يقتل بالرصاص. خاصة أن السلاح المستخدم بين الطرفين (روسيا أو أوكرانيا) هو في الغالب سلاح روسي. وبالتالي لا يمكن الاستدلال على القاتل من نوعية الطلقة بجسده.

عندما تم تفجير أحد الكباري الأوكرانية لمنع تقدم القوات الروسية من قبل الضابط قيتالي شاكون بجسر هينيشسك بخ يرسون. تم الإشادة به كأحد أبطال الحرب خاصة من الصحف البريطانية. قبل أن يتم اتهام القوات الروسية بأنها تمنع خروج المدنيين بعد تدمير الجسور.

حرب روسيا ضد أوكرانيا
حرب روسيا ضد أوكرانيا

ديمقراطية الوجهين

في يونيو الماضي حظرت الولايات المتحدة سلسلة مواقع إيرانية إخبارية الناطقة بالعربية وقناة برس-تي في الناطقة بالإنكليزية وقناة يمنية وأخرى فلسطينية. وذلك في إطار العقوبات الأمريكية. مع ظهور أختام لمكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة التجارة. لكنها ضمت أيضا مواقع فلسطينية تركز على أخبار المقاومة.

وندد التليفزيون الإيراني حينها على موقعه الإلكتروني قائلاً إنه رغم أحاديث الحكومة الديمقراطية للولايات المتحدة عن دعم حرية التعبير. فإنها تغلق عمليا وسائل الإعلام المعادية لإسرائيل الحليف التاريخي لواشنطن في الشرق الأوسط.

في أكتوبر 2020 أيضًا استولى المدعون الأمريكيون على 52 من نطاقات الإنترنت. وقالوا إنها استخدمت في حملة شنها الحرس الثوري الإيراني لنشر معلومات سياسية مضللة في جميع أنحاء العالم تستهدف الجماهير في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. رغم التأكيد في الوقت ذاته أن تلك المنافذ وسائل إعلامية مستقلة.

يظهر الانحياز في الإعلام الأمريكي منذ فترة طويلة حتى إن مركز “بيو” للاستطلاعات الشعبية في واشنطن العاصمة عرف الانحياز الإعلامي بأنه “ليس بالضرورة تأييد رأي ضد آخر من وقت لآخر. ولكن أن يحدث ذلك بصورة منتظمة ومستمرة أي إن العبرة في الاستدامة وليس المبدأ ذاته”.

أظهرت دراسات أجريت نهاية عام 2004 تراجعا حادا في مصداقية وسائل الإعلام لدى أفراد الجمهور. ليشمل صحفا وشبكات تليفزيونية مثل شبكة “سي إن إن” وبي بي سي الدولية ويورو نيوز. التي تنحاز ضد القضايا العربية فتقدمها بطريقة مشوهة تزيد في حالة “سي إن إن” وتقل في حالة يورو نيوز مروراً بـ”بي بي سي”. رغم كل ادعاءات الحياد والموضوعية وأخذا في الاعتبار ظروف وطبيعة عمل هذه الشبكات وتنافسها من أجل تحقيق السبق الإخباري.

الحرب بالرياضة

زواج الرياضة بالسياسة في الإعلام الغربي حلال شرعا إذا كان الضحية بشعر أصفر وعيون زرقاء.

الإعلام الرياضي العالمي أصبح مثالاً على الازدواجية الغربية. فـ”فيفا” الذي لم يسمح لعقود بإدخال السياسة والدين في الرياضة حاليًا يكسر كل القواعد. وبات مقدمات المباريات من قبل المذيعين وتعليقات الرياضيين في المؤتمرات الصحفية لا تخلو من الحديث عن أوكرانيا.

أيدت وسائل الإعلام الغربية منع “يويفا” روسيا من المشاركة في التصفيات المؤهّلة لكأس العالم “قطر 2022”. بالإضافة إلى منع الأندية الروسية من المشاركة في البطولات الأوروبية. بينما سحبت أندية عقود رعايتها مع “جاز بروم”. مثل نادي شالكه الألماني. فيما أزال مانشستر يونايتد شعار شركة الطيران “إيروفلوت” الراعية للنادي وتنازل الاتحاد الأوروبي عن الراعي الرسمي لبطولة دوري أبطال أوروبا.

حينما تحدث اللاعب البولندي روبرت ليفاندوفسكي -نجم بايرن ميونخ الألماني- على تويتر عن رفضه لقاء روسيا في التصفيات. كان التعليق الخبر الرئيسي على المواقع الرياضية العالمية والسياسة على حد سواء. وحينما تحدث اللاعب الألماني تركي الأصل مسعود أوزيل عن مسلمي الإيجور سارع أرسنال الإنجليزي -ناديه- حينها لتبرئة نفسه والمطالبة بعدم الزج بالسياسة في الرياضة. ولم يهتم به سوى المواقع العربية فقط.

أعادت المقارنات أيضًا ما تعرض له اللاعب المصري محمد أبو تريكة من عقوبات بسبب قميص حمل شعار “تعاطفا مع غزة”. وعدم معاقبة لاعب كرة القدم الغاني جون بينتسيل الذي لوح بالعلم الإسرائيلي لهدف سجله زملاؤه ضد التشيك عام 2006. رغم أن إسرائيل لا علاقة لها باللعبة ولم تتأهل حتى للبطولة حينها.

حرب أوكرانيا.. تفوق الرجل الأبيض

الإعلام الغربي الذي تحدث عن معادة الإثنية اللونية والدينية أظهر أنه أسير لنظرية تفوق الرجل الأبيض. التي تم ابتدعها منذ قرون لتفسير ارتباط التنمية بالمناطق الحارة. فمن يقارن تناولها للحرب بحروب مثل العراق وأفغانستان واليمن وليبيا يجد كما من المصطلحات التي تعلي من الشعوب الأوروبية ذات الشعر الأصفر والعيون الزقاء.

مراسل شبكة “سي بي إس” الأمريكية قال عن ملاجئ الأوكران إن المكان ليس العراق أو أفغانستان. ولكنه بلد أوروبي متحضر.

ومراسل بي بي سي البريطانية قال إنه يشاهد أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر وأطفالاً يقتلون بصواريخ بوتين.

ومراسلة “إن بي سي” الأمريكية قال أيضًا إنهم لاجئون مسيحيون وبيض ومشابهون للأشخاص الذين يعيشون في بولندا.

والتيلجراف البريطانية قالت “إنهم يشبهوننا. ما يشكل صدمة لنا”.

لم يعد بمقدور الأوروبيين حاليا معرفة ما يجري في أوكرانيا من وجهة النظر الروسية. حتى إنهم لم يسمعوا باتهامات موسكو لأمريكا بتمويل 26 مختبرا بيولوجيا في أوكرانيا. أو يعرفوا عن القوميين أو النازيين الجدد الذين تتهمهم موسكو باستهداف منطقة دونتيسك الانفصالية. ووصل الأمر إلى المطالبة بحجب اسمي أكثر الوسائل الإعلامية شهرة على موقع جوجل تمامًا.

في المقابل فإن الرئيس الأوكراني يظهر بالساعات في الإعلام الغربي حاليا. وتبث كلمته كاملة دون انقطاع لبرلمانات أوروبا وأمريكا. التي قد تصل إلى قرابة الساعة يشرح فيها كل الأمور من وجهة نظره هو فقط. والتي تتماشى مع هوى وسياسات الحكومات الغربية.