لم أكن يوما من الأيام محاميًا عن السياسات الخارجية لحلف الأطلنطي، ولا لسياسات دوله الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية في ميدان العلاقات الدولية، ولم أكن قط غافلًا عن التاريخ الأسود للرأسمالية العالمية داخل وخارج بلدانها، خاصة وأنني من الأجيال التي جاءت إلى الحياة بعد الحرب العالمية مباشرة، وفي خضم حركة التحرر الوطني العالمية، والتي كان لمصر دور قيادي فيها، منذ ثورة 1919، ثم كان لها فيها الدور الأبرز في الحقبة الناصرية، ليس فقط بجلاء الاحتلال، ومعركة السويس، ولكن أيضا بالمساندة النشطة -ماديا ومعنويا- لكل حركات التحرير الوطنية في أنحاء العالم، وبالذات في العالم العربي وفي أفريقيا.
وعليه فحين تمنيت في مقالي السابق هنا هزيمة مشروع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القومي الفاشي القائم على القوة المسلحة كما يتبلور في غزوه الحالي لأوكرانيا، شارحًا حيثيات هذا التمني، لم يكن ذلك قط اقتناعًا بسياسات الأطلنطي، ولا تبرئة لهذه السياسات من نصيبها من المسؤولية عن إحياء النزعة الفاشية المسلحة في روسيا، ردًا على استراتيجيات الحصار والازدراء الغربية للدولة الروسية، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ولذا كنت أتوقع من الصديق العزيز والزميل الموهوب حسين عبد الغني أن يقرأ مقالي الأسبق هنا أيضًا، والذي كان عنوانه “الدرس الذي ترفض روسيا أن تتعلمه“ قبل أن يكتب مقاله تحت عنوان “لماذا لا أتمني هزيمة بوتين؟” ، وحبذا لو كان أيضًا قد اطلع علي مقال أسبق لي أيضًا في “مدي مصر “ بعنوان “العقدة الروسية المزدوجة”.
يصف الأستاذ حسين -مشكورًا- مقاله بأنه إحياء لتقليد المعارضات في الشعر العربي الكلاسيكي، في حين أني أراه أقرب إلى ما يعرف “بالنقائص” الشهيرة في العصر الأموي، لأن المعارضة هي نسج علي منوال القصيدة الأولى، ليس في الوزن والقافية فقط؟ولكن أيضًا في الغرض الشعري ذاته، وهذا ما يؤكده المثل الذي ضربه الصديق حسين، إذ أن نهج البردة لأحمد شوقي وبردة البوصيري موضوع المعارضة كلاهما في غرض شعري واحد هو مدح الرسول الكريم، أما النقائض فهي دحض لبعضها البعض.

ومع ذلك فلا بأس، وليس في اعتبار مقال الزميل مناقضًا لمقالي ما يعاب عليّ أو عليه، ففي كل القضايا تختلف زوايا النظر والتناول باختلاف الإطار المرجعي والقيمي بين شخص وآخر، ومن باب أولي بين كاتب وآخر، خاصة في القضايا الكبرى الشائكة، مثل قضية الحرب الحالية في أوكرانيا، والتي تعد أول وأخطر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وهي حرب يمكن أن تتصاعد إلى حرب عالمية، ويتفق الجميع على أنها ستحدث تغييرات -صغيرة أو كبيرة- في النظام الدولي، مهما تكن نتائجها، ومهما تتباين التكهنات حول مسارها، فضلًا عن أنه لا يعبر نفسه فقط، وإنما يعبر عن اتجاه شائع بين عدد معتبر من الكتاب والمعلقين والمواطنين بل والسياسيين المصريين والعرب.
لكن بما أننا نملك ترف التعبير عن الاختلاف في الرؤى في هذه القضية، وهو ما لا نملكه في بلادنا في قضايانا الداخلية، وبما أن الكتاب والمفكرين والسياسيين في أمريكا وأوروبا يتمتعون أصلًا بحق -وليس بترف- التعبير عن اختلافاتهم، بل وحق المعارضة بكل الوسائل لحكوماتهم، في حين لا يوجد أصلًا، بل يجرم هذا الحق وذلك الترف في النظام الروسي، فليس ذلك مدخلًا مناسبًا لتفنيد حيثيات صديقي حسين عبد الغني في تمني عدم هزيمة بوتين؟! خاصة وأن كتابًا كبارًا مثل توماس فريمان، وأساتذة مخضرمين للعلاقات الدولية مثل جون ميرشماير كتبوا يدينون تعامل الغرب وأمريكا خصوصًا مع روسيا بعد انهيار إمبراطوريتها السوفيتية، دون أن يخشوا لومة لائم، فضلًا عن أن يقمعوا أو يسجنوا.

ومن المهم كذلك أن ألفت النظر إلى أنني لم أسمح لنفسي بالتكهن بالنتيجة النهائية للغزو الروسي لأوكرانيا في الأجل القصير، وإنما توقعت احتمال (وأكرر احتمال) تطورها على المدى الطويل إلى ما يشبه الحرب الأهلية الإسبانية، من حيث إحياء روح “مقاتلي الحرية“ ضد نظم وقيم الاستبداد الفاشي القومي في أوروبا، فيتدفق آلاف المتطوعين للقتال ضد الروس، وتتأسس شبكات التمويل والتسليح والتدريب والتمريض والكر والفر في الدول الأوروبية المجاورة، بإشراف حلف الأطلنطي، بعد استيعاب صدمة الغزو، واحتواء موجات اللاجئين. ولأنها في نهاية المطاف ليست حربًا أهلية ولكن غزوًا أجنبيًا، فالأرجح أن يخسرها الروس، مثلما خسرت كل الجيوش الغازية حروب الاستنزاف أمام المقاومة الشعبية المدعومة من القوى الدولية المنافسة.
أعود إلى حيثيات صديقي المعارضة، فأنبهه إلى أن مقالي لا يتبني السردية الأمريكية، في مواجهة السردية الروسية، كما يلمح. ولكنه يتبني السردية الأوكرانية التي لم يرد لها ذكر إطلاقًا في رؤية الأستاذ حسين، مع أنها الأصل الذي تبني عليه الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي موقفهما من الصراع، سواء كان هذا الموقف انتصارًا لحق شعب أوكرانيا في اختيار نظامه السياسي وتحالفاته الدولية، أو كان استغلالًا انتهازيًا لهذا الحق في محاصرة وتحجيم روسيا، والحفاظ على الانفراد الأمريكي بالمكانة الأولى في النظام الدولي.

ومن هذه النقطة تحديدًا، أي حق الشعوب في الاختيار الحر، فإنني لا أتفق البتة مع ما ذهب إليه صديقي من أن تعثر أو حتى فشل التطور الديمقراطي في بعض دول أوروبا الشرقية (كبولندا والمجر) يكفي لمصادرة حق الاختيار الحر للشعوب، حتى وإن كان أكثرها لا يملك بعد الأسس الاقتصادية والاجتماعية الكافية لنجاح واستقرار النظام الليبرالي، بسبب سنوات القحط الشامل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا تحت الحكم الشيوعي، علي الطراز السوفيتي الروسي وتحت هيمنته الصارمة، ذلك الطراز الذي ينتج سلطة في منتهى القوة والضراوة، ومجتمعًا في غاية الضعف والاستكانة.
ومع ذلك ففي كل تطبيقات الفاشية القومية المتجددة في حكومات بولندا والمجر وبعض دول أوروبا الشرقية الأخرى أوجه اختلاف جذرية عن فاشية بوتين، وعن الفاشيات القديمة متمثلة في موسوليني وهتلر وفرانكو، وعن المثال السوفيتي الستاليني الذي عمم على شرق أوروبا، فلا هيمنة مثلًا لأجهزة الأمن، ولا إهدار جزئي أو كلي للقانون، ولا تفريغ للانتخابات من مضمونها، ولا قمع ولا اضطهاد للمعارضة السياسية، ولا نزوع لعسكرة السياسة الخارجية، وكل هذه الاختلافات تجعل النزوع الفاشي في أوروبا الشرقية الذي يتحدث عنه الأستاذ حسين أقرب إلى أن يكون ليبرالية منقوصة، من أن يكون فاشية مكتملة.

وفضلًا عن ذلك فهذا التوجه الفاشي ليس مقصورًا على الشرق الأوروبي، ولكنه يظهر أيضًا في أوروبا الغربية، ممثلًا في الأحزاب اليمينية، بل وفي بريطانيا أيضًا والولايات المتحدة (ترامب مثلًا)، لكنه توجه لا يهدم دولة القانون، ولا يصادر التعددية، ولا يعصف بإرادة الناخبين، ولا بالحريات العامة والفردية. وهي أوجه اختلاف بالغة الأهمية عن الفاشية البوتينية. وهذا ما يجعلني متفائلًا بأن وجود هذه الظواهر ذات الصبغة الفاشية في النظم الليبرالية ليست سوى انتكاسة ظرفية عارضة، بما أن التاريخ يقطع بأن التقدم نحو الديمقراطية هو المسار المطرد في مجمل التطور السياسي للمجتمعات الحديثة، ليس فقط كما تثبت هزيمة النازية وحلفائها، ولكن أيضًا كما يثبت الانهيار السوفيتي المدوي.
في هذه النقطة بالذات، وكما أرى وكما قلت في مقالي الأول هنا أتمني هزيمة بوتين، إذ أن تلك الهزيمة سؤدي تلقائيًا إلى تثبيت الإيمان بالديمقراطية، وإلى محو شكوك النازعين إلى الفاشية في قيم الديمقراطية.
غير أن أكثر ما أدهشني من الصديق حسين عبد الغني هو نفيه الجازم لوجود مشروع إمبراطوري للرئيس الروسي، في حين أن منظر البوتينية الأكبر ألكسندر دوجين -الذي ركزت على نظريته في مقالي السابق- يعترف بهذا المشروع ويروج له، وكما يعلم الجميع فقد كان دوجين مستشارًا رسميًا لبوتين، وهو الآن مستشار غير رسمي في الكرملين، لأنه غدا أكبر من المناصب البيروقراطية. ثم لمزيد من الدهشة يتحدث الأستاذ حسين عن رغبة روسيا في حماية مصالحها ومكانتها في إقليمها أو مجالها الحيوي بالقوة الناعمة، ومشروعية هذه الرغبة، فما هي مكونات تلك القوة الروسية الناعمة؟!

باستثناء اللغة في ذاتها، والأدب الروسي الكلاسيكي، وفن الباليه الكلاسيكي أيضًا، ليس لدى روسيا المعاصرة من مقومات القوة الناعمة سوي مشروب الفودكا، فلا نموذج حكمها جاذب، ولا صحفها ولا تليفزيونها، ولا أفلامها السينمائية ولا مسرحها، والأهم أنها متخلفة صناعيًا وتكنولوجيًا، فمثلًا كم من السلع الروسية المصنعة يتهافت عليها المستهلكون في أنحاء العالم، من السيارة إلى الهاتف المحمول إلى جهاز الكمبيوتر، فالثلاجة والتكييف والأزياء… والأدوية إلخ، فضلًا عن الطائرة والباخرة والقطار، وكم عدد المخترعات التي تخرج من روسيا في العام، وكم تستقبل جامعاتها من طلاب الدراسات العليا، وكم عدد المهاجرين إلى جنتها في الأعوام الأخيرة؟!
ويتبقي سؤال الأمن القومي الروسي وسؤال تعدد أقطاب النظام الدولي، وهل تمني هزيمة بونين هو تمني سيادة النيوليبرالية؟
أظنني كنت قد أشرت في المقال الذي يعارضه الأستاذ حسين إلى أن من حق وواجب روسيا وكل دولة أن تدافع عن أمنها القومي، وشرحت البدائل التي كانت متاحة أمام الرئيس الروسي دون اللجوء إلى القوة المسلحة، وتساءلت أيضًا أين تقف مقتضيات الأمن القومي في مغامرة أوكرانيا، لتبدأ مقتضيات الدفاع عن النموذج البوتيني في الحكم والسياسة، ومعها مقتضيات نظرية دوجين المشار إليها توا. وأظن أن ذلك يكفي للرد علي السؤال الأول.

وفي مسألة تعدد الأقطاب أشرت إلى أن روسيا بوتين لا تملك سوى الابتزاز العسكري، وهذا ما يثبته حديثي قبل عدة أسطر عن انعدام القوة الناعمة لدى روسيا البوتينية.
وأما اعتبار هزيمة بوتين انتصارًا لنظم النيوليبرالية الظالمة لفقراء الدول الصناعية ولدول العالم “الثالث“، فليس نظام بوتين أقل توحشًا في الاستغلال والظلم والفساد الشامل، من أعتى نظام نيوليبرالي، بل أنه الأكثر قبحًا في كل ذلك، مع فارق بالغ الأهمية وهو أن المجتمعات الديمقراطية التي لا تصادر فيها السلطوية التطور والصراع السياسيين هي الأقدر على نفي “خبثها”، وتقويم سلبياتها من المجتمعات الفاشية بمئات المرات.
اختتم هذه السطور بتوجيه الشكر إلى زميلي وصديقي حسين عبد الغني على إسهامه القيم في توسيع دوائر الرؤية والتقويم، كما أشكر له مبادرته الكريمة بالاتصال هاتفيًا بي قبل أن يرسل مقاله إلى موقع “مصر 360″، لإبلاغي كصديق باختلافه معي حول السياق العام لمقالي. كما أشعر أنه من واجبي التنويه بمقالات الدكتور رائد سلامة والأستاذ هشام جعفر والدكتور عمرو الشوبكي والأستاذ جمال الجمل عن المسألة الاوكرانية من زوايا متعددة ومتعمقة، آملًا في مزيد من الحوار و التفاعل فيما بيننا، وفيما بيننا وبين زملاء آخرين، وبالطبع فالشكر أوجب لموقع “مصر 360″، والقائمين عليه لإتاحة هذه الحالة الصحفية المتميزة.