كان موقف “الأستاذ” وشريكه من النقد الأدبي -خلافًا لما كان يرى الدكتور طه حسين- يتلخص فيما يلي:

  1. مضمون مادة الأدب ليس المعاني. لكنه هو أحداث العمل الأدبي، وهي التي تعكس مواقف ووقائع اجتماعية.
  2. الصورة الأدبية أو الصياغة ليست اللغة، لكنها هي عملية تشكيل المضمون وابراز عناصره.
  3. هناك ضرورة -إذن- لإبراز الدلالة الاجتماعية للمضمون طالما أن لكل عمل أدبي جذور اجتماعية تكمن في موقف الأديب من الحياة ومن البيئة الاجتماعية بما لا يتعارض مع توكيد الصورة أو الصياغة. بل ربما يساعد علي الكشف عن كثير من أسرار هذه الصياغة.
  4. النقد الأدبي ليس دراسة لعملية الصياغة في صورتها الجامدة. لكنه استيعاب لكافة مقومات العمل الأدبي وما يتفاعل فيه من علاقات وأحداث وعمليات. وبهذا يصبح الكشف عن المضمون الاجتماعي ودراسة عملية الصياغة للعمل الأدبي مهمة واحدة متكاملة.

وقد قام “الأستاذ” وشريكه بتضمين هذا الموقف في مقال بعنوان “عبقرية العقاد”، كانا قد كتباه ردًا علي مقال للعقاد بتاريخ 27 فبراير 1954 بعنوان “إلى أدعياء التجديد… إقرأوا ما تنتقدونه”، تعليقًا منه على معركة الصياغة والمضمون التي خاضاها مع الدكتور طه حسين.

كان مقال “عبقرية العقاد” بمثابة الزلزال حين قرأته لأول مرة. فقد كان “العقاد” بالنسبة لي -بسبب ما نشأتُ عليه بِحُكمِ ما كنت أطالعه من كتب بمكتبة أبي الذي كان واحدًا من رواد صالون العقاد المنتظمين- هو العملاق الذي لا يطاوله أحد ولا ينبغى لأحدٍ أن يفكر مجرد التفكير في نقده علي أي نحوٍ.

هاجم العقاد “الأستاذ” وشريكه بصورة بالغة الحدة واصفًا إياهما بالتافهين والأدعياء، ردًا علي مقالهما بشأن الصورة والمضمون عند طه حسين الذي ذكرته سالفًا. وقد أشارا فيه إلى العقاد إشارة عابرة دون قصدٍ لتخصيص نقد لنظرته الأدبية بالتحديد، فقاما بالرد عليه كاشفين عن موقفه الأدبي بالتفصيل.

في البداية، قدم “الأستاذ” وشريكه تأكيدًا علي رأيهما بشأن الصورة والمضمون، ثم قدما نقدًا لنقد العقاد لشعر شوقي. ذلك النقد الذي اقتصر على عدم التزام شوقي بالقافية واحتواء شعره على أخطاء لغوية ونحوية. فلم يتطرق لمسألة تفكك وحدة الرواية الفنية (كانت رواية “قمبيز” هي المقصودة). بل تعرض لأمور خارجية كاضطراب القافية وأخطاء النحو، ليُعَقِبا في عبارة شديدة الحدة على دراسة للعقاد عن بن الرومي: “إلا أن الذي يدعو للأسف حقًا، أن يسقط العقاد هذه السقطة الفكرية، فيتصور أن القول بوحدة الموضوع هو نفسه القول بالبنية الحية أو الوحدة العضوية للعمل الأدبي. ثم يدعي أنه من القائلين بها منذ أربعين سنة”.

ثم انتقد “الأستاذ” وشريكه عدم التزام العقاد بوحدة المعنى والموضوع في القصيدة الواحدة بمعظم إنتاجه الشعري هو شخصيًا. ففي ديوانه “بعد الأعاصير” يقول العقاد في الملك فاروق بإحدى القصائد التي نظمها بمناسبة عودة النقراشي باشا من مجلس الأمن:

وما إتَخَذت غَير فَاروقِها عمادًا يُحاط وركنًا يُؤمْ
ولا عَرفت مِثلَه في العُلا صديقًا يشاركها في القَسَمْ
فَدتهُ البلادُ وَفَدَّى البلادَ بِعَالي التُراثِ و غَالي القِيَّمْ
مَليكٌ يلوذُ بِه عَرشُه وَكَم مَلِكٍ بالعُروشِ إعتصمْ
وذو عَلَمٍ تَستَظِلُ المُلوكُ بأعلامِها ويُظَلُ العَلمْ
وراعٍ رَعِيتُه عِزه إذا عَز بالصَخرِ بَاني الهَرمْ
أبى المُلك إلا كما شَاءَه مَنيعُ الجِوارِ رَفيع الدَعَمْ

كان نقد “الأستاذ” وشريكه لشعر العقاد -آخذين من هذه القصيدة مثالًا- بعدما قررا أنهما سيتحدثان عن الجانب الشكلي من النقد الأدبي ولن يعدوه إلى سواه. كان هذا النقد مبني على أسلوب العقاد ذاته في نقد تفكك بعض قصائد شوقي، فقاما بإعادة ترتيب الأبيات الأربعة الأخيرة على النحو التالي:

مَليكٌ يلوذُ بِه عَرشُه وَكَم مَلِكٍ بالعُروشِ إعتصمْ
أبى المُلك إلا كما شَاءَه مَنيعُ الجِوارِ رَفيع الدَعَمْ
وراعٍ رَعِيتُه عِزه إذا عَز بالصَخرِ بَاني الهَرمْ
وذو عَلَمٍ تَستَظِلُ المُلوكُ بأعلامِها ويُظَلُ العَلمْ

ثم يقولان: “لو فعلنا هذا، لما شعرت بأي تغيير في وحدة القصيدة، وليس بعد هذا دليل على تفسخ العمل الفني وانهياره. وقد ضربنا مثلًا واحدًا لضيق المقام، والذي يتابع قصائد العقاد يجد أكثرها على هذا المنوال. فلا وحدة عضوية بالمعنى السليم ولا حتى وحدة المعنى والموضوع في بعض الأحيان”.

أتى “عبقرية العقاد” ليكشف لي جوانب خافية عن شخصية “العملاق” ما كنت أتخيلها. كنت أعلم أنه كان حادًا سريع الغضب مُعتزًا بنفسه لدرجة كبيرة، ولم أكن أعلم من مواقفه السياسية (لتقصيرٍ مِني) سوى وقفته الشهيرة المُقَدرَة في مجلس النواب مُوَاجِهًا الملك “فؤاد” حين عَمَد الأخير لتعطيل دستور 1923 ما أدى إلى سجنه (العقاد) تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكية.

كانت ملاحظة “الأستاذ” وشريكه بشأن نفاق العقاد للملك الفاسق الذي كان عدوًا للحركة الوطنية وحقوق الأمة (حسب وصفهما) هي فاتحة بحثي بعين النقد الجاد لتاريخ سلوك العقاد السياسي وعلاقته بالسُلطة الحاكمة، بعيدًا عن الخلاف المنهجي في النقد الأدبي بين “الأستاذ” وشريكه من ناحية وبين العقاد من ناحية أخرى، والتهافت الواضح في صياغة القصيدة التي أشارا إليها بالذات.

اهتزت لَدَىَّ مكانة العقاد كثيرًا حين قرأت ما كتبه في الملك فاروق، والذي تجاوز حدود المديح إلي منزلق النفاق البغيض. فشرعت في قراءة نقد العلامة “سلامة موسى” الذى استوقَفَه تبدل موقف العقاد من الهجوم الذي لا يلين على الملك فؤاد إلى التأييد شبه المطلق للملك وابنه فاروق حين قال: “وقد بدأ العقاد حياته الأدبية بالسير مع الشعب، كافح مع الزعيم العظيم سعد، وسجن من أجل هذا الدفاع، ولكنه بعد ذلك آثر الملوكية على الشعبية، كذلك فعل طه حسين، ويستطيع الباحث أن يجمع ما كتباه وهما مع الشعب، أيام ثورة 1919م، وما كتباه بعد ذلك حين أصبحا ملوكيين، ويقارن ويعلل هذا الانقلاب. لقد أصاب كامل التلمساني، إن فؤاد ثم فاروق، قد أفسدا الأدباء والفنانين، وبدلًا من أن ينهضوا بالثورة عليهما انحنوا وركعوا ومسحوا الأحذية”.

لم تقتصر قفزات العقاد السياسية على ما سلف، لكنه قال بعد يوليو 1952: “فلم تمض من هذا القرن عشر سنوات متعاقبة دون أن تتدرج فيها مصر من حالة إلى حالة أفضل منها، فخرجت من السيادة العثمانية، ثم خرجت من الحماية البريطانية، ثم تخلصت من حكم الملكية الرثة التي صار بها الزمن إلى أسوأ أطوارها في عهد فاروق ربيب الفساد، بن أحمد فؤاد صنيعة الحماية”!

عجيب جدًا كان تَبَدُل موقف العقاد في وصف فاروق الذي تحول فجأة من ملك “فَدتهُ البلادُ وَفَدَّى البلادَ، بِعَالي التُراثِ و غَالي القِيَّمْ” ليصبح “ربيب الفساد، بن أحمد فؤاد صنيعة الحماية”.

سأقبل تقدير البعض لإسهامات العقاد الأدبية -حتى و إن إختلف منهج التقييم- لكن ما لا يمكن قبوله هو التحولات الجذرية في المواقف السياسية للعقاد من النقيض إلي النقيض، وهو أمر لا يمكن تجاوزه في دراسة وتحليل شخصية العقاد وأثره على أعماله الأدبية، وحتى لا يُسبغ البعض من الأوصاف على شخصه ما ليس به في داءٍ تاريخي تتوارثه الأجيال حيث التغاضى عن الأخطاء وربما الخطايا بداعي العاطفة وطِيب العلاقة وقَديمِ الصداقة فيكون ذلك مبتدأ التخلي عن حياد منهج البحث العلمي بما يفضى إلي إضطراب النتائج و الوقوع في ضلالات التدليس.