خيمت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على المفاوضات التي انطلقت نهاية العام الماضي ووصلت مرحلة الحسم بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني.

ورغم التداعيات السلبية التي خلفها الغزو الروسي لأوكرانيا على غالبية ملفات الشرق الأوسط. إلا أن التداعيات ذاتها كانت بمثابة قوة دفع نحو تمام الاتفاق النووي مع إيران،، رغم التركيبة المعقدة لمصالح أطراف العملية التفاوضية المجتمعة في فيينا. وهي هنا فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين بخلاف الاتحاد الأوروبي الذي يشارك بدور تنسيقي والولايات المتحدة المشاركة بشكل غير مباشر.

تلك التداعيات جعلت كافة الأطراف تسرع من وتيرة المفاوضات من أجل التوصل للاتفاق في أسرع وقت ممكن. خاصة بعدما ساهمت العقوبات الغربية التي فرضت على موسكو والتلويح بفرض مزيد منها. في زيادة الاضطراب في أسعار الطاقة، وبلوغ سعر النفط إلى أعلى مستوى له منذ عام 2008. في وقت فشلت فيه الإدارة الأمريكية في توفير بدائل لحلفائها الغربيين، أمام الرفض السعودي الإماراتي لمطالبات واشنطن بضخ مزيد من النفط وكسر اتفاق (أوبك بلس) لإعادة ضبط الأسعار العالمية. في المقابل تتحرك طهران تحت وطأة التي تسعى لإنقاذ اقتصادها منها في أسرع وقت للاستفادة من الأسعار الحالية للنفط في دعم خزينتها.

روسيا تضغط وأمريكا تتراجع

بدأت المباحثات بشأن إحياء الاتفاق النووي،في أبريل الماضي وتم تعليقها في يونيو،قبل أن تستأنف مجددا في نوفمبر/تشرين الثاني. وفي الخامس من مارس الجاري طالت شظايا الحرب الروسية الأوكرانية مائدة المفاوضات في فيينا. بعد مطالبة روسيا وهي موقعة على الاتفاق ولاعب مهم في المحادثات. بضمانات مكتوبة بأن العقوبات بشأن غزوها للأراضي الأوكرانية لن تؤثر على تجارتها و تعاونها المستقبلي مع إيران في مجال الطاقة النووية المدني.

كانت أمريكا قد لوحت باستبعاد روسيا من الاتفاق،لكن سرعان ما تراجعت وأعلن المتحدث باسم خارجيتها. نيد برايس ردا على سؤال عما إذا كان الاتفاق النووي المحتمل سيسمح لروسيا بالتهرب من العقوبات الغربية. بالقول “لن نعاقب المشاركة الروسية في المشاريع النووية التي تشكل جزءًا من الاستئناف الكامل للاتفاق النووي، فهذه أمور منفصلة”.

فلاديمير بوتين
فلاديمير بوتين

بعدها خرج وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى جانب نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان. مؤكدا “لقد حصلنا على الضمانات المطلوبة خطيًا وتم شملها في الاتفاقات لإعادة إطلاق خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني”. مردفا “أن التعاون النووي المستقبلي مؤمّن خصوصًا بشأن محطة بوشهر للطاقة النووية”.

السرعة في حسم الخلاف بعد محاولة روسيا عرقلة المفاوضات التي استمرت لنحو 11 شهرا. لم يكن المحرك فيها حاجة أوروبا فقط للنفط. حتى تضغط على واشنطن لإزالة المعوقات، ولكن أيضا كان  القلق الأوروبي بسبب تسارع أنشطة إيران النووية وهو ما عبرت عنه الخارجية الفرنسية. بتأكيدها على وجود “ضرورة ملحّة” لإنجاز الملف “هذا الأسبوع” بينما تقترب إيران من امتلاك القنبلة النووية.

وفي بيان مشترك لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قالت المانيا وبريطانيا وفرنسا إن”نافذة الفرصة ستغلق. لذا ندعو كافة الأطراف إلى اتخاذ القرارات اللازمة لإنجاز الاتفاق في الوقت الحالي. وفي هذا الصدد، ندعو روسيا إلى عدم إضافة شروط غريبة”.

المحاولة الروسية لعرقلة الاتفاق، بدا واضحا أنها لم تكن سوى مناورة سياسية لتذكير واشنطن والعواصم الأوروبية. بأنها ما زالت بحاجة إلى التعاون مع موسكو لحل بعض القضايا العالقة.

لماذا النفط الإيراني تحديدا؟

مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين ،من استمرار الحرب الروسية لفترة أطول وبالتبعية زيادة تداعياتها السلبية. في ظل عدم قدرتهم على فرض عقوبات أوسع على قطاع النفط الروسي. يعد أحد المحركات لإنجاز الاتفاق النووي مع إيران للسماح بمزيد من الحركة لطهران في سوق النفط العالمي. بشكل يساعد التحالف الغربي في امتلاك أوراق ضغط إضافية تجاه موسكو.

وقد أدت العقوبات الأمريكية إلى انكماش صادرات النفط الإيرانية من 2,8 مليون برميل يوميا عام 2018 إلى 700 ألف برميل يوميا عام 2020.

وتوقع تقرير لمصرف “بنك أوف أميركا” في مذكرة بحثية، أنه في حال التوصل إلى اتفاق شامل سيكون بمقدور إيران البدء في بيع الهائلة المخزنة لديها.

 

وتخطط طهران لزيادة الإنتاج إلى 3.8 مليون برميل يومياً إذا تم رفع العقوبات. فيما تقدّر وكالة الطاقة الدولية أنه في حال التوصل إلى اتفاق في فيينا. فإن ذلك يمكن أن يعيد 1.3 مليون برميل يومياً من النفط الإيراني إلى السوق.

وعلى عكس الصورة التي تصدرها إيران بكونها لا تعبأ بإتمام الاتفاق في إطار تمسكها بمجموعة من الخطوط الحمراء. فإن كواليس صناعة القرار الإيراني تشير لسعيها جاهدة إلى إبرام الاتفاق أكثر من أي وقت مضى. لأن أسعار النفط المتزايدة قد تساهم بشكل كبير في تعافي الاقتصاد الإيراني الذي تضرر كثيرا جراء العقوبات الغربية وتعويض الخسائر الهائلة التي تعرضت لها خلال الفترة الماضية.

يشار إلى أنه لا توجد عقوبات على صادرات إيران من النفط، وتستطيع تصديره. ولكن توجد عقوبات على مشتري الخام الإيراني، كما أنه لا يمكن دفع ثمنه باستخدام نظام المدفوعات العالمي “سويفت”.

وما يمنح إيران ميزة استثنائية في هذا التوقيت ويجعلها ورقة رابحة للتحالف الغربي ضد موسكو. كونها معفاة من الاتفاق الحالي بين منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) وحلفائها من الخارج بقيادة روسيا. المعروفين باسم “أوبك+”؛ للحد من المعروض النفطي ،وهو ما سيسمح  لها بزيادة الإنتاج مباشرة حال تم التوصل للاتفاق .

الاتفاق النووي القديم

كان  الاتفاق المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة بين “مجموعة 5 + 1″ وهم  الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا وإيران. قد وافقت طهران خلاله  على قبول القيود المفروضة على تخصيب اليورانيوم وتخزينه وإغلاق أو تعديل منشآت في عدة مواقع نووية والسماح بزيارات المفتشين الدوليين لها.

ودخل الاتفاق حيز التنفيذ في 2016 بعد سلسلة طويلة من المفاوضات الشاقة. وتم التوقيع عليه خلال ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، لكن الرئيس السابق دونالد ترامب وصف الاتفاق بأنه”أسوأ صفقة رأيتها يتم التفاوض عليها على الإطلاق”. حتى قبل فترة طويلة من وصوله إلى البيت الأبيض، وسخر منها مراراً واصفاً إياها بـ “المروعة والمثيرة للسخرية”.

وأعرب عن اعتقاده بأن الضوابط المفروضة على أنشطة إيران النووية كانت ضعيفة للغاية. وأنه كان ينبغي أن تتضمن أيضاً قيوداً على برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني وأن أمد الاتفاق غير طويل بما فيه الكفاية.

وبفضل الاتفاقية، تمكنت إيران من الوصول إلى أكثر من 100 مليار دولار من الأصول المجمدة في الخارج. وتمكنت من استئناف بيع النفط في الأسواق الدولية واستخدام النظام المالي العالمي للتجارة “سويفت”.

وكانت العقوبات المفروضة على إيران قبل التوصل للاتفاق النووي في 2015. قد كلفتها أكثر من 160 مليار دولار من عائدات النفط خلال الفترة من عام 2012 إلى عام 2016 .

وفي 2018 أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات على إيران. في ظل فترة شهدت تقاربا كبيرا بين واشنطن، وكل من السعودية والإمارات.

ورداً على ذلك، بدأت إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20% وهو معدل أعلى بكثير من نسبة 3.67٪ المتفق عليها. بموجب الاتفاق النووي لعام 2015 وقلصت تعاونها مع المفتشين الدوليين.

ملامح الاتفاق الجديد

وفقا لتسريبات تداولتها وسائل إعلام إيرانية ودولية، يتضمن الاتفاق الجاري بشأنه مفاوضات فيينا. إجراءات متبادلة تنفذ على مراحل، حيث يقع في 20 صفحة، ولم يتبق فيه سوى مناقشة بعض القضايا الحساسة .

وبحسب للتسريبات فإن الخطوات الأولى تشمل رفع التجميد عن الأرصدة الإيرانية والإفراج عن السجناء. حيث يشير جزء من المسودة المسربة إلى تبادل العديد من السجناء الغربيين مزدوجي الجنسية. مقابل 7 مليارات دولار من الأموال المجمدة في كوريا الجنوبية. على أن يتم النظر في فترة من 1 إلى 3 أشهر من الاتفاق إلى التنفيذ الكامل.

وتتضمن المسودة المسربة رفع العقوبات عن إيران بمجرد توقيع الاتفاقية. وستكون الاتفاقية الجديدة مماثلة للاتفاقية السابقة المبرمة عام 2015، حيث تجدد الولايات المتحدة الإعفاءات كل بضعة أشهر.

مفاوضات فيينا
مفاوضات فيينا

وخلال المشاورات الجارية في فيينا منحت الولايات المتحدة ضمانة إلى طهران، بشأن المخاوف من انسحابها في أي وقت. بحيث لا تنسحب واشنطن من الاتفاقية مرة أخرى، وأحد الضمانات المقدمة هو أنه في حالة انتهاك الولايات المتحدة للمعاهدة. يمكن لإيران زيادة التخصيب بنسبة تصل إلى 60٪.

كما يتضمن الاتفاق الجديد وفقا للمسودة المسربة، الرفع المباشر للعقوبات الأمريكية المفروضة على قطاع النفط الإيراني. كما تتضمن الاتفاقية أيضا مجموعة من الإجراءات التي ستبدأ في المرحلة الأولى مع تعليق التخصيب فوق 5٪ في إيران.

ووفقا للتسريبات فإن المفاوضات الأخيرة شملت مطالب إيرانية بإزالة الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية. ورفع العقوبات عن كياناته بما في ذلك أنشطة فيلق القدس الذراع الخارجية لـ”الحرس” وهو الأمر الذي تتحفظ عليه القوى الخليجية.

في مقابل ذلك نفى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي احتمال إجراء أي مفاوضات بشأن برنامج إيران للصواريخ الباليستية. وسياساتها الإقليمية وعلى رأسها دعمها للجماعات المسلحة في عدة دول. على الرغم من دعوات الدول الغربية والقوى الخليجية بأن تكون هذه الملفات من بين بنود أي اتفاق جديد يتم التوصل إليه في فيينا.

برنامج المسيرات و”البالستي” وإسرائيل والخليج

في الوقت الذي تسعى فيه كافة أطراف التفاوض لإنجاز الاتفاق سريعا، ترغب أطراف أخرى، في عرقلته. أو على أقل تقدير تعطيله لحين تهيئة مناخ يسمح بالضغط على طهران للموافقة على تضمين نصوص متعلقة بتحجيم أنشطتها العسكرية. في دول الإقليم ،إضافة إلى البرنامجين الخاصين بالطائرات المسيرة. والصواريخ البالستية، يأتي في مقدمة هذه الأطراف إسرائيل ومن خلفها السعودية والإمارات والذين يخشون من اتمام اتفاق لا يراعي مخاوفهم الأمنية.

“تل أبيب” من جانبها قامت بدور مزدوج خلال الفترة الأخيرة، فمع الأيام الأولى للحرب الروسية. سعت للتوسط بين موسكو وكييف في محاولة للتوصل لوقف سريع لإطلاق النار حتى لا تتحرك الإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين تحت ضغوط الحرب خلال مفاوضات فيينا. وحينما فشلت في ذلك اتخذت طريقا أخر ، محاولة جر إيران لمعركة عسكرية بعدما استهدفت مستودع أسلحة وذخيرة تابع لها. بمحيط مطار دمشق الدولي في سوريا، قتل على إثره إثنين من كوادر الحرس الثوري. وهو ماردت عليه طهران باستهداف موقعا في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق بعشرات الصواريخ الباليستية. واصفة إياه بأنه موقعا استراتيجيا للتخابر الإسرائيلي.

لماذا تضر العقوبات أوروبا أكثر من روسيا؟
لماذا تضر العقوبات أوروبا أكثر من روسيا؟

المحاولات الإسرائيلية الأخيرة ربما سعت لاستفزاز طهران ودفعها للإقدام متهور. لخصم أي رصيد إيراني قبيل التوقيع على الاتفاق النووي. من خلال إحداث فجوة أمنية في الإقليم عبر جر طهران لسجال عسكري يجعل واشنطن والحلفاء الأوروبيين يعيدون حساباتهم .

في مقابل ذلك ترغب كل من أبوظبي والرياض في تعهد أمريكي صريح بالدفاع عنهما ضد إيران تمهيدا لعودة العلاقات لطبيعتها بين واشنطن والعاصمتين الخليجيتين إلى طبيعتها .