شهدت الفترة الأخيرة تحركات غير معتادة لعدد من دول الخليج العربي نحو التقارب مع روسيا. وهو ما ظهر في مواقف قد تُفسر على أنها خلاف خليجي أمريكي في مقابل تقارب ودعم لموقف موسكو في الحرب التي تخوضها ضد أوكرانيا. الأمر الذي تمثل في امتناع الإمارات عن التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار بإدانة الحرب الروسية. وكذلك موقف دول الخليج وعلى رأسها السعودية التي رفضت مطالب يقودها التحالف الغربي بقيادة أمريكا لرفع سقف إنتاج البترول. ذلك بغرض تعويض الإنتاج الروسي من الطاقة. ومن ثم إفقاد موسكو أحد أهم أدواتها للضغط على الدول الأوروبية في معركتها الأخيرة.
هذه المواقف الناشئة عن دول الخليج، والتي دُعمت بزيارات من كبار مسؤوليها إلى موسكو، دفعت إلى التكهن بأن هناك تغيرا استراتيجيا وفكا للارتباط التاريخي بالولايات المتحدة. الأمر الذي بدا وكأن الدول الخليجية في طريقها للتقارب مع المعسكر الروسي الصيني على حساب واشنطن. وهي رؤية يرفضها رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، الأستاذ الزائر بالناتو الدكتور سيد غنيم. وقد وصف -في حوار مطول مع “مصر 360”- ما يحدث حاليًا من تحركات خليجية بأنه لا يمثل أي تغيير جذري في علاقة دول الخليج بأمريكا، وإنما هو توتر مع إدارة بايدن وليس الولايات المتحدة. وهو أقرب إلى محاولة لإقامة علاقة توازن بين الأقطاب العالمية الجديدة.
وكما يقول الدكتور سيد غنيم، فإن أفضل توصيف لما يحدث خليجيًا حاليًا هو الرفض لفكرة التبعية لقطب واحد. ذلك من منطلق الاعتراف الكامل بالتعددية القطبية على الصعيد العالمي، وليس التقرب لأحد الأقطاب العالمية باستعداء الآخر. والتغيرات الخليجية بهذا الوصف ليست وليدة الأزمة الراهنة. بل هي ممتدة منذ عدة سنوات. وإن كانت أحداث الحرب الأوكرانية الأخيرة كاشفة لحجم هذه التغيرات.
كيف ترى الخلاف الخليجي الأمريكي الجلي في الفترة الراهنة؟
دعنا نحدد أمر هام عند الحديث عن العلاقة الخليجية الأمريكية، أن الخلاف قائم بين السعودية والإمارات من جهة والإدارة الأمريكية نفسها من جهة أخرى. وقد ظهر ذلك مع الحزب الديمقراطي وخاصة إدارة جو بايدن. وهو خلاف تسببت به مواقف سلبية للديمقراطيين تجاه بعض النظم الخليجية، خاصة السعودية والإمارات. وذلك في مقابل مواقف أخرى أكثر إيجابية تجاه قطر على سبيل المثال.
فعلاقة دول الخليج بإدارة بايدن سواء في الفترة الحالية أو وقت شغله منصب نائب الرئيس كانت دائمًا تحمل بعض توتر بسبب مواقف الرجل تجاه هذه الدول.
الأمر الثاني الواجب النظر إليه عند الحديث عن تطور العلاقة الحالية مع أمريكا هو الرفض الأمريكي للعملية العسكرية في اليمن. إذ لا يجب أن ننسي أن الحملة العسكرية في 2015 بقيادة التحالف الإسلامي في اليمن، والذي شكلته السعودية وغالبية دول الخليج، لم يحظ بموافقة الإدارة الأمريكي. وقد وصل الأمر إلى درجة أن الحزب الجمهوري انتقد إدارة بارك أوباما بشدة. لأن هذه الحملة تم تنفيذها في أحد مناطق النفوذ الأمريكي دون مواقفة واشنطن.
ويضاف إلى ذلك الموقف الأخير الذي كشف بطلب الرئيس بايدن من الكونجرس إعلان قطر حليف استراتيجي رقم 18 للولايات المتحدة. هنا نلاحظ أن لا السعودية أو الإمارات حلفاء استراتيجيين للولايات المتحدة. ورغم أن الإدارة فسرت طلبها بأنه لغرض إبعاد قطر عن التقارب مع إيران. إلا أنه أظهر تباعدًا بين هذه الإدارة ودول خليجية أخرى. وزاد من ذلك الأثر مواقف على الأرض تمثلت في رفض إدارة بايدن بيع صفقة الطائرات الحربية “إف 35” إلى الإمارات. وهي الصفقة التي وقعت عليها إدارة ترامب السابقة.
هل التقارب الخليجي الروسي الحالي مؤقت أم دائم يمثل استراتيجية جديدة؟
أعتقد أن سياسة الخليج الحالية في التقرب من روسيا ليست وليدة أحداث راهنة وليست جديدة. لكن هذا لا يعني أنها تعبر عن رغبة في فض ارتباط حقيقي مع الولايات المتحدة. هي أقرب لمحاولة توازن في العلاقات. ومن ثم الخروج من شكل التبعية المطلقة. إذ لا يرضي التحالف مع روسيا الحاجة للأمن. وإنما هو سعي نحو إقامة علاقات متوازنة مع أقطاب دولية متعددة وليس قطب واحد تمثله الولايات المتحدة.
وأنا أرى أن دول الخليج تدرك طبيعة استراتيجيات الدول العظمى الثلاث في التعامل مع الحلفاء أو الشركاء. فنجد أمريكا تحارب في حال تهديد حلفائها المباشرين، لو مس ذلك مصالحها الاستراتيجية. بينما الصين لا تحارب، وروسيا تعمل على عملية احتواء الخصوم. وقد ظهر ذلك في حرب الولايات المتحدة لنظام صدام حسين حينما احتل حليفها الكويت وهدد باقي دول الخليج. وهو ما اعتبرته أمريكا تهديدًا لمجالها الاستراتيجي في أحد مناطق النفوذ التابعة.
لكن روسيا حاربت إلى جانب النظام السوري؟
عندما دخلت روسيا الحرب إلى جانب نظام الأسد كان غرضها الأول ليس الدفاع عنه. بل خدمة استراتيجيتها؛ أن تجد لنفسها مكانًا وموضع قدم لا تخرج منه على ساحل المتوسط. لذلك تدخلت حفاظًا على نظام يسقط، واستغلت هذه الحماية لصالحها. بل ونجحت في الوقت نفسه بإدارة التنافس بين الخصوم في سوريا لمصالحها وليس لصالح دمشق. وقد حققت مصالح لها مع دول طامعة في سوريا مثل إيران وتركيا وإسرائيل.
وما تفسيرك للمواقف الخليجية الأخيرة تجاه الأزمة الأوكرانية؟
دعم بعض دول الخليج وتحديدًا السعودية والإمارات لروسيا في الحرب على أوكرانيا لا أراه نكاية في الولايات المتحدة إطلاقًا. بل الأمر لا يتعدى أن الدول العربية بصفة عامة، بينها توافق مع نظم الحكم الروسية والصينية. ويرجع ذلك إلى أن الحكومات الخليجية لا تميل أكثر نحو النظم الغربية الديمقراطية. وهي أقرب في هذا الاتجاه إلى نظم مثل الصين وروسيا التي لا تتدخل في شؤون الدول.
هل ستبني روسيا على المواقف الأخيرة بتعميق علاقاتها بالدول الخليجية؟
بالتأكيد، فروسيا تسعى طوال الوقت لتحسين علاقاتها بدول الخليج. لكن الاستراتيجية الروسية تولي أهمية أولى لطموحها في النفوذ في منطقة وسط آسيا ومنطقة البلطيق والبحر الأسود، ويلي ذلك الاهتمام بمنطقة الخليج.
أيضًا، تحتاج روسيا إلى المال لأن اقتصادها ضعيف. ومن هنا، احتياجها لدول الخليج احتياج مادي في الأساس. علينا أن نتساءل: ما حجم المنفعة التي تقدمها روسيا لدول الخليج في قضايا مثل مواجهة أطماع إيران أو حسم الأمر مع الحوثيين الذي يعتمد على الدعم من طهران؟ روسيا ليس لديها أوراق تقدمها لصالح دول الخليج، ومصالحها مع إيران كبيرة. وحتى فيما يخص الأمن الدفاعي؛ الأنظمة الدفاعية الروسية ليست بنفس سمعة نظيرتها الأمريكية والغربية.
أليس بمقدور روسيا الضغط على النظام الإيراني لصالح دول الخليج؟
روسيا ليس لديها الكثير من أوراق الضغط على إيران. الصين تملك أوراق ضغط أكثر. ذلك لأن روسيا تنتفع من إيران في استغلال للعقوبات الغربية المفروضة عليها. بينما الصين داعم حقيقي لطهران، وما تقدمه بكين لإيران أكثر بكثير من روسيا التي تستفيد فقط من العقوبات الغربية عليها في دعم التجارة والاقتصاد معها.
الصين استراتيجيتها هي التحالف أو القرب من إيران في إطار مبادرتها (حزام الطريق). أما روسيا فليس بيدها الكثير لتقدمه لدول الخليج. وهنا نحن بصدد سؤال مهم: هل باستطاعة موسكو أن تطالب إيران بوقف دعم الحوثيين؟ لا أعتقد. إن أقصى ما يمكن أن تقدمه روسيا أن تعمل على إدارة الخلاف بين الخليج وطهران.
هل يعني ذلك أن العلاقات بين روسيا والخليج لن تتطور بشكل أكبر؟
ليس بالضبط. يمكن أن يحدث تطور لكن ليس بالشكل الذي يذهب إليه البعض بمقارنته بين علاقات مع روسيا في مواجهة أمريكا. لأن ما يحدث الآن ليس نقطة تحول جذري في العلاقات الخليجية الروسية، في مقابل تدهور في العلاقة الخليجية الأمريكية. بل هو ما يمكن وصفه بأنه توسيع دائرة العلاقات وعدم الاعتماد على العلاقة الثنائية مع أمريكا فقط. وهو ليس بالأمر الجديد. فقط قد تكون أحداث أوكرانيا هي ما جعلت الأمور تتكشف أكثر نتيجة المواجهة الأمريكية الروسية.
وماذا عن ما يتردد بشأن تحويل السعودية لبيع نفطها باليوان الصيني وليس بالدولار؟
قصة بيع النفط للصين باليوان أيضًا ليست بالأمر الجديد الذي يطرح. إذ أن هناك مباحثات اقتصادية بين السعودية والصين منذ فترة حول طبيعة العملة في التبادل التجاري بين البلدين.
وأعتقد أن الصين نفسها لم تنجذب للأمر. فبكين لا تريد سقوط قيمة الدولار الأمريكي. وهي مستفيدة من أسعار العملة الحالية. وأيضًا لن تقبل أن تقتل نفسها بالسيف الذي تملكه، بتريليونات تستدينها أمريكا منها، وكلها بالدولار. أما قصة طلب السعودية بيع النفط للصين باليوان فهذا طلب متكرر من السعودية. بينما الصين لا تستجيب له لما أسلفنا من ذكر الضرر على اقتصادها.
وفيما يتعلق بزيارات الرموز الخليجية لروسيا، هي أيضًا ليست جديدة؛ فالعلاقات الروسية الخليجية في تطور. لكن لا يعني ذلك استبدالها بالعلاقات بأمريكا.
وبقراءة موقف الإمارات الأخير من الحرب الأوكرانية، نجد أن ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، أمسك العصا من المنتصف. ذلك بالامتناع عن التصويت ضد روسيا في مجلس، بينما في الوقت نفسه دعا الطرفين الروسي والأوكراني للحوار.
ما يظهر في دول الخليج تجاه روسيا يتعلق بأسباب خاصة بالإدارة الديمقراطية في أمريكا ولا يمثل موقفًا من الدولة الأمريكية في حد ذاتها. وهو ما يتزامن مع قضية المفاوضات النووية مع إيران وتقارير الإدارة الأمريكية ضد السعودية بأنها دعمت الإرهاب في عملية 11 سبتمبر، وغيرها من القضايا المشتعلة بين الإدارة الديمقراطية وبعض دول الخليج. وهذا كله لا يمكن أن يُفسر باعتباره نقطة تحول جذرية في علاقات واشنطن بالعواصم الخليجية.
ما هي توقعاتك لمستقبل العلاقات بين دول الخليج وروسيا والصين؟
علينا أن ندرك أن قوة العلاقة يحددها الطرف الأقوى. والدول العظمى الثلاث أمريكا وروسيا والصين هي صاحبة الاستراتيجية الأكبر هنا. فمثلًا الاستراتيجية الأمريكية مع دول الخليج تقوم على فكرة أن دول الخليج هي رأس مثلث قاعدته شرق أسيا وغرب أوروبا. والخليج يمد هاتين المنطقتين بالطاقة التي تحتاج إليها للتصنيع. ومن هنا، هذا تصور أمريكي عن منطقة الخليج بأن نفوذها فيه يمثل سيطرة على هذا المثلث الذهبي. لذلك أعتقد أن أمريكا ستعيد النظر في شكل العلاقة الحالية مع دول الخليج؛ لأنها حريصة على الاستمرار في الهيمنة على النظام العالمي.
أما بالنسبة للصين، فدول الخليج تمثل أهمية كبرى؛ لأن بكين تحتاج للنفط الخليجي كي يستمر نموها الاقتصادي. والصين هنا عكس روسيا، التي لن يربطها بالخليج احتياج للنفط. فهي مصدر للطاقة وهو سلاح موسكو في حربها الأخيرة بأوكرانيا.
ومن هنا، نجد أن أمريكا ستحاول استعادة حلفائها الخليجيين ليكونوا خالصين لها، حتى لا تترك المجال للصين التي تحتاج لدول الخليج. وما تقدمه أمريكا يفوق الصين. وهذا يطرح سؤال: هل ستواجه الصين طهران من أجل دول الخليج وكسب نقاط تقارب على حساب الولايات المتحدة؟ والإجابة ستكون: بالتأكيد لا. بل أقصى ما يمكن أن تقدمه بكين هو محاولة التوفيق بين الخليج وطهران. بينما واشنطن لها تجارب سابقة في المواجهة والدفاع لحماية دول الخليج.
أما بالنسبة لروسيا، فهي تسعى لاستقطاب دول الخليج لصالحها، ليس بقوة الصين، وفقط بغرض تقليص حلفاء الولايات المتحدة، خاصة من الدول الغنية والقوية في منطقة الشرق الأوسط.
هل الوصول لاتفاق نووي مع إيران سيدفع دول الخليج للبحث عن حلفاء يؤمنون مستقبلها؟
أعتقد أن أمريكا ستحرص على إعادة النظر مع علاقتها بدول الخليج وتحاول تقويتها مرة أخرى، ولن تترك فرصة للصين أو روسيا أن تنتزعها منها.
وبغض النظر عن الوصول لاتفاق، فإن دول الخليج ستحاول أن تطور وتعظم علاقتها مع الصين وروسيا. وهذه استراتيجية خليجية تهدف إلى تنويع العلاقات مع الأقطاب الدولية والقوى العظمي وعدم الاعتماد على أمريكا فقط. ذلك من مبدأ التوازن ليس إلا.