فقدوا أمسَهم في خدمة مؤسسات الدولة والآن جاء الوقت ليفقدوا غدهم كخَيْل لم تعد هناك حاجة إلى خدماته. هل سمعتم أيها المصريون عن “سكان المستعمرات؟”. هم مثلكم بشرٌ عاشوا وخدموكم وعمّروا أرضكم التي يطردهم قانونها الآن إلى مساحة أوسع من المجهول.
هم أسر أولئك العمال والموظفين الذين أفنَوا أعمارهم في هيئات ومصالح حكومية. اليوم تقضي عليهم حكومتكم بالطرد في الشارع “بموجب القانون”. فمن المفترض أن يخلوا مساكنهم التي يعيشون بها منذ عشرات السنين دون تعويضهم أو توفير سكن بديل.
آلاف الأسر بطول مصر. من الدلتا شمالا حتى أسوان جنوبا. الواقعة بمناطق محطات وطلمبات “نجع حمادي-قناطر نجع حمادي-أبوشوشة- غرب طهطا-الحبيل والبياضية والغريرة والرزيقات والمعلا والملاحة بمحافظة الأقصر. وكذا بإدفو وكوم أمبو وأسوان بمحافظة أسوان. ومناطق الوجه البحري غرب ووسط وشرق الدلتا. آلاف المهندسين والعاملين على خط الطوارئ بمصلحة الميكانيكا والكهرباء التابعة لوزارة الري. وبعض الجهات الأخرى من الذين تدفعهم حاجة العمل إلى الاستدعاء في أي وقت خارج ساعات العمل الرسمية. والعاملون بشركة غزل المحلة للغزل والنسيج حصلوا على هذه المساكن كبديل سكني تتطلبه ظروف عملهم مقابل تحصيل 15% من رواتبهم نظير انتفاعهم بهذه الوحدات طول مدة الخدمة “وتوفير بديل عند بلوغهم سن المعاش أو حال الوفاة”.
الذين استعمرهم “عبد الناصر”
وطبقا لقرار رئيس الجمهورية رقم 2095 لسنة 1969. المنشور بالعدد رقم 45 من الجريدة الرسمية. حصل المنتفعون على هذه الوحدات. وينص القرار على أن يتم شغل العامل هذه الوحدة بالهيئات الحكومية بقرار الجهة الإدارية التي يعمل بها. وهي المنوطة بتحديد إذا كان ممن تقتضي حاجة العمل السكن بها أو الترخيص له بالعيش فيها. وهي التي تحدد قيمة الخصم من راتبه مقابل الانتفاع بها أو إعفائه من رسوم الخدمات.
مستعمرات ومطرودون
يعود تاريخ إنشاء تلك “المستعمرات” إلى عهد الاحتلال الإنجليزي. حيث كانت عبارة عن منشآت عسكرية. ويعود بعضها الآخر إلى عهد محمد علي والي مصر الذي أنشأ مجمع إسطبلات لتربية الخيول العربية وتدريبها بالقناطر الخيرية. وتم تحويلها بعد ذلك لمساكن للعاملين بوزارة الري.
وتقوم المصلحة بتغيير القيمة الإيجارية بزيادة مشروطة كل عام يعتبرها البعض مبالغا فيها. في مقابل تخلي الدولة عن توفير سكن بديل لهم. كما تنص العقود المبرمة بين المنتفعين وهذه الهيئات.
سكان مستعمرة وزارة الري بمنطقة القناطر الخيرية وسكان كهرباء طلخا بالدقهلية يقولون إن الوزارة شكّلت لجان تسعير القيمة الإيجارية لها. وتحرير عقود إيجار لسكان المستعمرة. رغم أن الشركة منحتهم تلك الشقق السكنية ويعيشون فيها منذ أكثر من 30 عاما دون مقابل أو مطالبة بسداد فواتير مياه أو كهرباء.
ادفع أكثر لتبقى في مسكنك
جاء قرار وزير الري رقم 5 لسنة 2017 بإعادة تسعير الوحدات وإلزام المنتفعين بوحدات السكن الإداري التابع للوزارة بسائر أنحاء الجمهورية من العاملين التابعين لمصلحة الميكانيكا والكهرباء والمقيمين بمساكن المصلحة. استنادا لقرار محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية في حكم سابق لها بالطعن رقم 4881 لسنة 44 القضائية. فيما يخص السكن الإداري وضوابط الانتفاع به.
وأشارت المحكمة في حكمها أن قرار رئيس الجمهورية رقم 2095 لسنة 1969. الخاص بتنظيم شروط وقواعد انتفاع العاملين المدنيين بالدولة بالمساكن الملحقة بالمرافق والمنشآت الحكومية. بالمادتين (2) و(6) أجاز ترخيص شغل هذه الوحدات السكنية على سبب معين. وهو قيام العلاقة الوظيفية بين الحكومة والعامل المرخص له بشغل العين. يترتب على زوال هذه العلاقة بين المنتفع والحكومة أثر معين هو انتهاء الترخيص. مع منح المنتفع الذي زال سبب انتفاعه مهلة ستة أشهر لإخلاء الوحدة. ويحق للجهة الإدارية إخلاء العين بعد زوال سبب الانتفاع. وأن ترك الجهة الإدارية شاغلي تلك المساكن مستمرين في شغلها مدة طويلة لا يكشف عدم حاجتها إلى تلك المساكن.
مستعمرات قنا.. منتفعون بلا منافع
500 أسرة مهددة بالطرد من العاملين بمحطة رفع المياه بمدينة نجع حمادي. وهؤلاء ممن أحيلوا للمعاش. وقد تفاجأ المنتفعون برفع القيمة من 110 و383 إلى 2211 جنيه في الشهر.
وطالب المتضررون من القرار بإعادة النظر في عملية تقييم القيمة الإيجارية بقدر يراعي دخل أصحاب المعاشات. أو بنسبة زيادة سنوية معقولة. حيث يتقاضى غالبيتهم 1700 جنيه معاشا شهريا.
محمد محيي الدين -من المتضررين بمساكن مصلحة الميكانيكا- يقول: المساكن دي كانت عبارة عن بقايا مستعمرات بناها الإنجليز ومافيهاش أي خدمات أو مرافق أو مستشفيات ومدارس. عشان كدا طورها السكان وأعادوا بناءها لتلائم أجيال عاشت فيها ودلوقتي مالهمش بديل.
“محيي” أوضح أن وزارة الري “تقاعست منذ خروجهم على المعاش في منحهم حقوقهم المادية وتركتهم يعيشون بهذه المنازل بمقابل انتفاع بعد خروجهم معاش منذ سنين. لأنها لم توفر لهم سكن بديل. حيث كان يتم استقطاع مبلغ 15% من مرتبهم لصالح المحليات مقابل توفير سكن بديل حال خروج العامل معاش”. وذكر أن الزيادة السنوية المشروطة على قيمة الإيجار والتي أقرتها اللجنة في عملية التقييم منذ عام 2018 أنهكتهم وتبتلع ثلثي دخلهم المحدود. وناشد وزير الري خفض قيمة الإيجار ووضع مبالغ تتناسب مع دخولهم والظروف الاقتصادية لمصر حاليا بعد كورونا والغلاء. أو الالتزام بالعقود القديمة وتوفير سكن بديل لهم.
سكان الإسطبلات في القناطر
مجدي نوح قال إن الحكومة تعتبرنا “عايشين في فندق خمس نجوم”. وأضاف: تضع إيجارات فلكية لناس عايشين في إسطبل خيول. إحنا فعلا كدا خيول. بس خيول حكومة بينضربوا بالنار بعد انتهاء خدمتهم. وتابع: “طبيعة عمل الناس دي كانت تتطلب وجودهم في الأماكن دي. عشان كدا اتوفر لهم السكن لسنين عشان يشتغلوا هنا مش عشان يترفهوا”.
العقود التي أبرمها العاملون مع وزارة الري -حسب نوح- تنص على أن المصلحة ملزمة بتوفير سكن لهم حال بلوغ سن المعاش أو الوفاة. وقال إن العقد ينص على أن المنتفع يسقط حقه في السكن البديل حال سفره خارج مصر أو انتقاله للعمل في هيئة أخرى فقط: الوزارة بعد تخليها عن مسؤوليتها في توفير سكن بديل رفعت الإيجار من 200 لـ1200 جنيه وبزيادة قدرها 15% كل عام.
إنها سياسة الضغط للتهجير -حسب مجدي أحد المتضررين. حيث تقوم كل فترة بعمل محاضر “اغتصاب” للوحدات واستيلاء على أملاك الدولة وتغريم السكان غرامات كبيرة للضغط عليهم للخروج. ما أدى لتهجير 75 أسرة بمنطقة “المناشي” وهدمها ووضعهم أمام أمر واقع. وأكد أن الإدارة كانت تخطر المحليات سنويا بعدد الخارجين معاش وحالات الوفاة لتدبير سكن لهم. لكن توقف العمل بهذا النظام منذ سنة 1980. ودا اللي عمل المشكلة دلوقتي.
وتساءل: “كيف يتم وصفنا بالمغتصبين وتم تسكيننا بهذه الوحدات من جانب المصلحة رسما قبل 40 عاماً في مناطق نائية بعيدة عن العمران والمواصلات ووسائل المعيشة وبمرتبات متدنية كانت كان يتم استقطاع جزء منها لصالح توفير سكن؟!”.
القانون لا يعتد بقرار مجلس الوزراء
كان مجلس الوزراء قد وجه في وقت سابق بالموافقة على عدم إخلاء المساكن الحكومية من شاغليها قبل تدبير سكن بديل عن طريق المحافظات طبقا لقرار رئيس الوزراء رقم 7144 المؤرخ 25/9/1977. وتم إبلاغ هذه التعليمات للوزارات المختصة. لكن محكمة القضاء الإداري ذكرت في حيثيات حكمها أن صدور تعليمات عن رئيس مجلس الوزراء أو عن أحد الوزراء بعدم إجلاء العاملين من المساكن التي يشغلونها قبل توفير المحافظة سكنا آخر لهم “لا تعدو أن تكون توجيهات وتعليمات سياسية لا ترقى إلى مستوى القرار الجمهوري سالف الذكر. ما يتعين معه طرحها جانبا وعدم التعويل عليها. مما يلزم شاغلي المساكن المصلحية بإخلائها وتسليمها للجهة الإدارية متى انتهت علاقتهم الوظيفية بها. ويلتزمون سداد مقابل الانتفاع بهذا المسكن ومقابل استهلاك المياه والكهرباء حتى تمام إجراءات الإخلاء”.
مستعمرات المحلة ومأساة السكن البديل
يختلف الوضع بمساكن المستعمرات في مدينة المحلة الكبرى بالغربية. البالغ مساحتها 64 فدانا في موقع مميز بالمدينة. وتضم 1000 أسرة يعيش بها 5000 إنسان من أبناء وأسر العاملين بشركة غزل المحلة.
وقد تمكنت شركة غزل المحلة مؤخرا من الحصول على أحكام ضد السكان بالطرد. وقامت بملاحقة العاملين برفع قضايا “تعويض ريعي”.
محمد عبد السلام جودة -أحد سكان المستعمرة ومن العاملين السابقين بشركة غزل المحلة وخرج للمعاش منذ 15 عاما- يقول: “بيحاولوا باستماتة طردنا من المستعمرة لتسليم أرضها للدولة دون إعطائنا سكن بديل”.
وقال إن الشركة رفعت قضايا تعويض مالية ضخمة تصل إلى 70 و80 ألف جنيه ضد بعض المنتفعين. وهذه الأحكام حسب وصفه “تهدد العديد من الأرامل وكبار السن بالتشريد”.
النائب أحمد بلال -عضو البرلمان عن مدينة المحلة- ذكر أن القانون رقم 203 حرم هذه الفئات من الحصول على وحدات بديلة بعد بلوغهم المعاش طبقا لقرار رئيس الوزراء رقم 7144 المؤرخ 25/9/1977. والذي ينص على عدم إجلاء العاملين الذين انتهت خدمتهم من المساكن التي يشغلونها من الجهة الإدارية لحاجة العمل إليها. قبل أن توفر لهم المحافظة التي يتبعونها سكناً آخر.
وأكد أن الأزمة الحالية لسكان المستعمرة جاءت نتيجة تراكم وإهمال قضية عمال المحلة المحالين للمعاش على مدار 30 عاما. وقد استطاعت الشركة الحصول على أحكام بالطرد ضد سكان المستعمرة وتلاحق العديد منهم قضايا ريع وصلت مبالغها إلى 60 ألف جنيه مقابل الانتفاع عن السنوات التي شغلوا فيها هذه الوحدات بعد انقضاء مدة العمل. وغالبيتهم مهددة بالحبس الآن.
حل وسط
وقال “بلال” لـ”مصر 360″: تفاوضنا مع الشركة المالكة للأرض. وتم التوصل إلى حل وسط بتعويض كل ساكن بمبلغ 200 ألف جنيه مقابل خروجه أو الحصول على دعم قدره 150 جنيها من الدولة من قيمة الوحدة البالغ 800 ألف جنيه. وتقسيط باقي المبلغ على 15 سنة حال رغبته في العودة إلى محل إقامته.
وأشار إلى أن الشركة بدأت تنفيذ مشروع إسكاني استثماري على أرض المستعمرة. ولم تراعِ فيه البعد الاجتماعي للسكان باعتبارها هيئة اقتصادية تتبع قطاع الأعمال العام تهدف إلى الربح. مبينا أن الأرض ملكيتها مناصفة بين شركة غزل المحلة ووزارة التنمية المحلية. حيث يقوم بتنفيذ المشروع صندوق التنمية الحضارية.
وأشار إلى أن دور المحافظة مجرد وسيط فقط. حيث تتفاوض مع السكان وتجمع استبيانات وطلبات الرغبات في التعويض أو العودة فقط. والتعاقد معهم على مبلغ 1200 جنيه شهريا مقابل سكن خارجي لحين الانتهاء من المشروع والعودة إلى محل إقامتهم بعد استكمال المشروع خلال 3 سنوات.
ووفقا لعضو مجلس النواب أحمد بلال فإن ما يقرب من 60% من السكان وقعوا على استبيان قبول التعويض أو العودة حتى الآن.
أما أحمد مغاوري -رئيس حي مدينة المحلة- فقال لـ”مصر 360″ إنهم ما زالوا في مرحلة الحصر. ولا يمكن التكهن بملامح المشروع أو إعلان تفاصيله. قبل استكمال عملية الاستبيان وحصر عدد المستحقين من السكان. بعدها ستبدأ المرحلة الثانية وهي هدم مساكن المستعمرة بعد الإخلاء وإنشاء شقق سكنية الجديدة على أحدث طراز مزودة بخدمات وفق خطط الدولة لتوفير شقق جديدة للشباب.