لم تكن الفكرة غريبة على نضالات الشعب المصري من أجل الديمقراطية، فقد كانت لنا تجربة بعد دستور 1923 الذي نص على أن مصر ملكية دستورية نيابية، ومع بدايات ثورة يوليو سنة 1952 طرحت فكرة الجمهورية البرلمانية في مشروع دستور 1954، وجرى تغييبها عمدا، ثم عادت لتطرح نفسها من جديد وبقوة بعد ثورة يناير سنة 2011، ومرة أخرى جرى تغيبها عمدا من جديد.
وللأسف أننا -في المرتين- سددنا على أنفسنا ممرا -كنت وما زلت أراه- إجباريا لعبور مصري إلى العصر الديمقراطي.
تتبدى قيمة صبغة الجمهورية البرلمانية وتترسخ أكثر فأكثر بسبب ما اختزنته الخبرة الوطنية من تجارب انتهت على عكس ما أرادت الإرادة الشعبية، التي سرعان ما تنتكس عقب كل مرة تعبر عن نفسها بقوة ووضوح، وبعد أن تتلمس اللحظة التي يمكن فيها إخراج مصر من جعبة الحاكم، لتعود إلى أهلها يشاركون جميعًا على قدم المساواة في صناعة القرار على أرضها، في ظل دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
**
في أعقاب ثورة يناير 2011 جرت مناقشات عديدة بوسائل مختلفة شاركت فيها أعداد لم يسبق لها أن اهتمت من قبل بموضوع الدستور، وكان السؤال الأهم يدور حول المعيار الذي يمكن أن نقيس به الانتصار في معركة العقد الاجتماعي الجديد، بعبارة أخرى كان السؤال ينصب على القضايا التي يمكن لها أن تحقق أفضل نظام دستوري لمصر بعد الثورة.
فكرة الجمهورية البرلمانية أثارت نقاشا جادا وحادا، وبدا لبعض الوقت من خلال تقصي الآراء والمواقف أن الرأي السائد عند قوى المعارضة السابقة، وكثير من جماعات ومنظمات المجتمع المدني يتجه إلى المطالبة بصياغة الدستور الجديد لكي يضمن تحويل مصر إلى نظام برلماني، يقوم علي رئيس رمزي يحفظ للبلاد وحدتها ساعة الخطر، بينما تقع السلطة الفعلية لإدارة البلاد في يد مجلس منتخب انتخابًا حرًا ، ويشكل حزب الأغلبية، أو تحالف الأغلبية فيه -طبقا لنتيجة الانتخابات- الحكومة التي تقع على عاتقها مسؤولية إدارة شئون البلاد.
أصحاب هذه الرؤية استندوا إلى التراث البرلماني المصري الذي تأسس على دستور سنة 1923.
وهذا التراث نفسه كان حجة لأصحاب الاتجاه المضاد، خاصة وأن تفاصيل التجربة البرلمانية الأولى فيها الكثير من المثالب والمعايب التي تحرج الداعين إلى التمثل بها أو اتخاذها حجة في مواجهة أصحاب الاتجاه الرئاسي في الحكم الذين كانوا مع بقاء مصر جمهورية رئاسية.
يذهب أصحاب هذه النظرة إلى أن العيب لم يكن في النظام الرئاسي نفسه، ولم يختلف هؤلاء حول أهمية وضرورة التقليص من صلاحيات الرئيس وتعظيم صلاحيات وسلطات البرلمان والوزارة، ومسؤوليتها أمام البرلمان، وغير ذلك من ضمانات وحلول تمنع تغول الرئيس على السلطات الأخرى.
ولكنهم قصروا في فهم طبيعة الأمور في مصر التي سرعان ما تركن الدساتير على الرف، لتسود سلطة المر الواقع، وتقع السلطات كلها في يدٍ واحدة تقبض على كل مراكز صناعة القرار.
**
لم يكن المطالبون بنظام الجمهورية البرلمانية ينطلقون من فكرة وصل ما انقطع في تاريخنا الدستوري والسياسي، حيث الكثير منهم، خاصة التيارات اليسارية، لا يغفل سلبيات تلك المرحلة المسماة ليبرالية، والتي حضرت فيها السياسة، وغابت الجماهير، وشهدت تلاعبا مستمرا بالدستور، وعرفت الكثير من الانقلابات عليه، ولم تحكم الأغلبية النيابية إلا في حدود ضيقة، وتكاد تكون مفروضة على الحكام بضغط الظروف أو بضغط الاحتلال.
ولكن المطالبين بالجمهورية البرلمانية ظلوا يأملون في فتح أبواب الحيوية السياسية في مصر بعد حالة طويلة من الجمود الممتد، والشيخوخة السياسية التي أنهكت حركة المجتمع، وكادت تدخله في غيبوبة دائمة، وهم يرون أن نظام الحكم البرلماني يمكن أن يعيد تلك الحيوية مجددا، ويمكن له أن يحدث فرزا طبيعيا للملكات والمهارات والأشخاص على أسس سياسية قومية، وليست مناطقية أو دينية أو مذهبية أو جذرية، أو عرقية.
النظام الديمقراطي النيابي، طبقا لرؤية هذه المدرسة، يفتح الباب أمام قادة جدد، وأحزاب جديدة، ورؤى مختلفة، ويمهد لإعادة الحياة إلى السياسة ومعادلاتها، وأخيلتها، ومهاراتها.
**
وهناك البعض الآخر الذي يرى -ونحن منهم -أن هناك عللا واختلالاتٍ واضحة يعاني منها النظام المصري لا علاقة لها بما إذا كان النظام برلمانيا أو رئاسيا، ولا يعالجها في الواقع أي منهما.
فمثلاَ يوجد في مصر اختلال فادح في التوازن بين صلاحيات مؤسسة الرئاسة وبين المؤسسة التشريعية، والمشكلة الحقيقية في مصر هي توحش السلطة التنفيذية ممثلة في الرئاسة على حساب المؤسسة التشريعية التي تتحول من دور الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية إلى رديف وتابع لها.
وهو خلل لا يصلحه في رأي البعض إقامة حكومة برلمانية، إنما يصلحه نصوص دستورية تضع صلاحيات محددة في يد السلطة التشريعية وحدها، خاصة وضع الميزانية تحت إشراف ورقابة البرلمان، بعبارة أخرى أن يوضع المال العام تحت تصرف نواب الشعب، بحيث لا يمكن للمؤسسة التنفيذية، رئيسا ووزراء على السواء، إنفاق مليم واحد من المال العام من أجل تنفيذ أية سياسة عامة دون موافقة البرلمان.
وبذلك يصبح البرلمان متحكمًا، ليس فقط في المال العام، ورقيبًا على الحكومة بشأنه، وإنما تجعله صانعًا للسياسة العامة عبر رفض الإنفاق على ما لا يحظى بالأغلبية فيه.
**
حين نوقشت الجمهورية البرلمانية في لجنة الخمسين التي وضعت دستور 2013 انتهى الأمر إلى ما انتهت إليه نصوص الدستور، واستبعدت فكرة الجمهورية البرلمانية من النقاش تحت زعم أن مصر كانت وما تزال في حاجة ماسة إلى (سلطة مركزية قوية)، الأمر الذي لا يمكن تحققه بغير النظام الرئاسي، وضربت الأمثال بالديمقراطية الغربية التي تتوزع بين ديمقراطية تقوم على النظام الرئاسي مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وديمقراطية تقوم على النظام البرلماني وأشهرها وأكثر رسوخًا الديمقراطية البريطانية.
أصحاب هذا الزعم يضيفون إلى ذلك سببًا آخر لانحيازهم إلى النظام الرئاسي وهو أن مصر لا يستقيم فيها حكم برلماني مع ضعف أحزابها، بل وضعف فكرة التنوع فيها، وهزال المشاركة الشعبية في العملية السياسية منذ ما يزيد عن القرنين من الزمان عقب تشكل الدولة الحديثة على يد محمد علي باشا الذي استأثر بالسلطة وقضى على الفوضى الناشبة في البلاد ووحد سلطة القرار وجمع بين يديه السلطات كلها وصار هو التاجر والزارع وقائد الجند والقاضي الذي لا استئناف على حكمه ولا مناقشة لقراره.
**
من ناحيتي أرى أن السبب نفسه الذي يسوقه أنصار النظام الرئاسي هي نفسها التي تبرر في قناعتي فكرة الجمهورية البرلمانية.
ولا أجادل في أن مركزية الدولة كانت لها مزايا لا شك، وربما كانت ضرورية على مر الزمان منذ الحاكم الفرعون وحتى ما بعد قيام دولة محمد علي وأسرته من بعده، وربما حتى نهاية عصر أنور السادات، ولكن لم يبق لها في نظري مسوغ قوي بعد كل المتغيرات الضخمة التي جرت بها المقادير، وجاءت بها التطورات العالمية الهائلة، والتغيرات في طبيعة التكوينات الاجتماعية والتي شملتها حركة المجتمعات، ومن بينها المجتمع المصري.
لم يعد مستساغًا اليوم، ونحن على أبواب الدخول إلى الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أن نتحجج بفكرة مركزية السلطة، تلك المركزية التي وضعت الدولة كلها في جعبة الحاكم، اختصرت الوطن في النظام السياسي الحاكم، ثم اختصرت النظام في سلطة الفرعون، أو الملك، أو الرئيس، حتى صارت الدولة هي الرئيس، وصار الوطن هو الحاكم.
لم يعد في الوقت متسع لمزيد من هذه المركزية، خاصة هذه النوعية من المركزية التي -رغم ما حققته من إنجازات- إلا أن مضارها صارت أشد وبالا على مستقبل الدولة في مصر، بل على مستقبل الوطن كله بكل مكوناته وسلطاته ومكوناته المجتمعية.
هذه المركزية هي -على سبيل المثال لا الحصر- التي أتاحت للرئيس حسني مبارك أن يستمر في الحكم طيلة ثلاثين سنة متواصلة، ويسرت له السعي إلى توريث نجله الصغير حكم البلاد من بعده، وكادت تنتهي مركزية السلطة إلى (جمهورية وراثية)، ولم يترك كرسي الحكم إلا حين انتفضت ضده الملايين من الشعب المصري في واحدة من أهم وأكبر هبات المصريين ضد تمديد وتوريث الحكم.
**
مصر بعد 25 يناير تغيرت فيها أشياء كثيرة، وأهم ما طرأ عليها من متغيرات أنها أدخلت قوى عديدة، إلى جانب أعداد كبيرة من المواطنين، أدخلتهم إلى ساحة المشاركة في النقاش العام، وفي القضايا السياسية والقضايا الأخرى التي تخص عموم المصريين، صارت المشاركة واسعة وساعد على ذلك الدور الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي التي كان لها دور كبير فيما جرى قبيل وأثناء وبعد 25 يناير.
صحيح أن القوى والأحزاب السياسية ما زالت مشتتة، ومنقسمة، وضعيفة التأثير في محيطها الاجتماعي، ولكن لا يمكن إغفال أن السبب الرئيسي وراء هذا الضعف يتمثل في زيادة وتيرة التسلط، وعدم إيمان السلطات الحاكمة بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الأحزاب وقوى المجتمع المدني في إعادة بناء الدولة والمجتمع على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل السياسية والمجتمعية.
والمشكلة من الأصل هي أننا لم نهيئ الظروف الملائمة، ولم نساعد على تهيئة العوامل المحفزة لقيام حياة حزبية حقيقية في مجتمعاتنا، بل على العكس، نحن صنعنا الظروف التي تئد كل تجربة حزبية، وهيأنا العوامل التي تقتل أي مبادرات حقيقية على صعيد المجتمع المدني كله بما فيه من مبادرات حزبية.
**
الخروج النهائي من جعبة الحاكم والدخول إلى منطقة يستطيع فيها المصريون حكم أنفسهم بأنفسهم لابد أن يعبر ممرا اجباريا يتمثل في تغيير جوهري وجذري في نظام الحكم الرئاسي، وفي ظني أننا لن نتمكن من تعديل المسار السياسي وتحقيق انعطافة تاريخية عميقة تحدث أثرها المرجو في أن تزدهر الحياة السياسية في مصر إلا من خلال إعادة إحياء الحياة البرلمانية.
نحن في حاجة إلى إحداث تحول جذري في بنية النظام، وقد علمتنا التجربة أنه لا يمكن إحداث مثل هذا التحول من دون الانتقال الآمن من الجمهورية الرئاسية إلى جمهورية مصر البرلمانية، تتولى فيها وزارة برلمانية إدارة شؤون البلاد، ويبقى رئيس الدولة رمزا للسيادة، وتصبح سلطاته الدستورية منحصرة في تولى اختصاصات الحفاظ على الدستور والسهر على تطبيقه، وحفظ التوازن بين جميع السلطات.
الأمر يتطلب الشروع في التفكير في الكيفية التي نعيد بها الحياة إلى السياسة في مصر، والتحضيرات اللازمة لبناء حياة سياسية حقيقية تكفل حرية تمثيل الإرادة الشعبية في برلمان منتخب ومعبر حقيقة عن الشعب.
**
جربنا الوصفة نفسها مرات عديدة، وفي كل مرة نجد أنفسنا أمام نفس النتائج، ومن دون أن نتقدم خطوات حقيقية على طريق التمكين لحضور الشعب في معادلة الحكم، رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تركيعه، واعتباره مجرد مادة للحكم، وليس له الحق في مشاركة حكامه في تقرير مصيره.
إن الحالة المصرية التي تمتد في التاريخ إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، والقائمة على حكم الفرد، لن يكون تطويرها وإصلاحها حقيقيا إلا إذا انتقلنا من نظام رئاسي استبدادي، طال تحكمه، إلى نظام ديمقراطي برلماني تتوازن فيه السلطات الحاكمة، ويتحول فيه المركز الرئيسي في النظام من فرد، إلى مجموعة مؤسسات، لها من الصلاحيات ما يضمن ألَّا تفتئت به على الأخرى، ولا تنقص دورها ولا تصادره.
سوف تبقي مصر هي هبة الرئيس طالما بقينا هنا، وطالما بقي العقد الاجتماعي مبقيًا على النظام الرئاسي الذي يضع الدولة كلها في كف الحاكم، وبداية الانعتاق ستنطلق مع تأسيس دستوري وقانوي ومجتمعي لقيام جمهورية برلمانية تعيد الحكم إلى مصدر كل السلطات، إلى الشعب المصري.