لم تتركني عند بوابة المدرسة في يومي الأول أواجه المجهول. حملتني على كتفها وخاضت بي زحام الطابور وهرج اليوم الأول ومحاولات المدرسين البائسة لإعادة النظام لمدرسة حكومية لم تعرفه لنصف قرن. من فوق كتفها كنت أرى المشهد كنصف إله استمد قوته من جبل الأولمب الذي يحمله. حيث يمنحه الأمان والطمأنينة والثقة. من كتفها إلى أفضل دكة في الفصل تركتني مصحوبا بتوصية المدرسين وسندوتشاتي المفضلة وزمزمية المية، وعلى الرصيف المقابل للمدرسة كنت أراها من شباك الفصل تنتظر خروجي.

الفقر والرفاهية خصمان لا يجتمعان. لكن أمي كانت قادرة على تحقيق المعجزات. لم أختبر إحساس ركوب باص المدرسة لكني أمتلك ذكريات لا تحصى عن مشوار المدرسة اليومي ذهابا وإيابا وكل ما فيه من “دلع” يصل إلى درجة حملي على كتفها عندما أكون متعبا أو الطريق مزدحما، متعة الحكي معها طوال الطريق. إلقاء الأسئلة وحرصها على الإجابة بلا ملل .

أمينة كانت لديها خمسة أبناء. لم تتخلف يوما عن تحقيق رفاهية توصيل أبنائها إلى المدرسة وانتظارهم على باب المدرسة بكل ما تحمل هذه الرحلة من إغراءات للرضا بالذهاب إلى المدرسة صباحا وتخفيف عبء يوم طويل على طفل في مدرسة حكومية عند العودة .

كنت محظوظا لأني لم أذهب إلى الحضانة. فقد كان وقتي كله أقضيه معها. تجاوزت الأربعين لكن ما زالت ذكرياتي معها حاضرة في الطبخ وشراء الخضار من السوق وتنظيف البيت وعمل كحك العيد في رمضان وخبز العيش في البيت .

أنا ابن امي. الحياة لم تمنحها الكثيير. لكنها كانت قادرة على منح الحياة حياة بأشياء قليلة كانت تغذينا بالرضا. فطيرة بالسكر أو زلابية أو سد الحنك بآخر نص كيلو دقيق وآخر كوب من الزيت  في البيت كانت كفاية “عشان نقضي سهرة سعيدة في ليلة شتا على صوت وابور الجاز نسمع حكاياتها”. خروجة لحديقة عامة بحلة مكرونة ونفرش ملاية نقعد عليها ونلعب طول اليوم. هي أشياء لا تُشترى.

كنا أُسرة بلا أي مدخرات. فراتب الأب من وظيفته الحكومية يأتي في اللحظة الحاسمة لسداد الإيجار الشهري وما سحبناه عالنوتة “شكك” من عند البقال طوال الشهر. ودفع فواتير المياه والكهرباء وشراء أنبوبة البوتاجاز. لكن دائما كان لدينا منقذ أسطوري. لم نشعر معه يوما ما بأي خوف من المجهول. سواء كان مرض واحد منا أو مصاريف الأعياد أو مصاريف الدراسة. حلق أمي كان كفيلا بحماية أسرتنا من أي ظروف طارئة -وما أكثرها- تمر بها أسرة عددها سبعة أفراد منهم خمسة أطفال في التعليم. لم يكن سعر الذهب مرتفعا كهذه الأيام كما لم يكن يمثل وزنه أي قيمة مضافة. فهو بالكاد لا يتجاوز 10 أو 15 جراما. لكنه اكتسب صفاته الأسطورية من صاحبته. فالأمان امرأة. دائما كنا ندرك أنها تحمينا بقوة حبها لنا. ذلك الحب الذي يجعل كل ما تلمسه يداها تمائم تجلب لنا السعادة .

“كل النساء يحبون الحُلي والذهب”

هكذا كان يفسر أبي فرحة أمي وهي في طريقها للصائغ لشراء الحلق. وحزنها في طريق العودة بعد بيعه. لكنه لم يكن مصيبا ككل الرجال. فقد اختفى الحلق من حياة أمي بمجرد أن تخرجنا وبدأنا نعمل لأنها رفضت ترتدي أي مصوغات ذهبية !

البطولة كانت دائما تتجسد في صورة أمي. صبرها وتحملها. حرصها على تعليمنا. تجاوزها كل الأزمات. حمايتها لنا المتواصلة. وحتى في لحظاتها الأخيرة رغم معاناة المرض وآلامه لم تتوقف عن الاهتمام والعناية بتفاصيل حياتنا. أمي كانت هي الغطاء الذهبي للثقة بكل النساء. واعتبار كلمة المرأة ووعدها أقوى المواثيق والعهود.