منذ أيام انتشر على “فيسبوك” فيديو لمجموعة من السيدات اللاتي يُقِمْن حفلات “زار” وهن يغنّين أغنية “سيرة الحب” ولكن بالدفوف والطبول وبإيقاع الزار، فتحولت الأغنية تمامًا من أغنية عاطفية إلى أغنية تهديد من السيدات لسلامة الحبيب، خصوصًا في مقطع “وقابلتك أنت لقيتك بتغيّر كل حياتي، ماعرفش إزاي أنا حبيتك، ما أعرفش إزاي يا حياتشي”! لك أن تتخيل أو تبحث عن الفيديو فتعرف أن تغيير الإيقاع حوَّل اللحن تمامًا بجانب تحويله نبرة الصوت من رقة وعذوبة إلى حفلة تهديد ووعيد، فكتب صاحب الفيديو عليه عنوان “سيرة الرعب”.

تذكرت هذا الفيديو وأنا أستمع عرضًا غير متعمدة إلى أغنية “ست الحبايب”، ورحت أبحث عن سبب ما يجعلنا نحزن ونبكي حين نستمع إليها، وظللت أتخيل كيف كانت الأغنية ستصبح لو لحَّنها بليغ حمدي؟ كثير من المقسوم والفرفشة والمزمار والأوكرديون بدلًا من البياتي والكمان الحزين هذا.

في “ست الحبايب” الكلمات رقيقة وفيها امتنان، وتشبيهات كثيرة للأم بأنها “نور العين والمهجة والحياة أجمعها”. مقام الأغنية كله بياتي، وهو مقام بسيط وشعبي، فالسيرة الهلالية بياتي وقرآني أيضًا يستهلّ بها كثير من القراء قراءاتهم، فهو مقام عاطفي وحزين، ما عدا “أنام وتسهري” فهو مقام حجاز، أما اللحن فهو رصين جدًّا غارق في الحزن، يجعلك تشعر بجنازة معدّية تستلزم كل هذا النواح والعَديد. مزيج المقام العاطفي المُحيِّر واللحن الذي يرتفع في “يا رب يخليكي” أو في وقفته عند “زمان.. زمان سهرتي” يشحنك عاطفيًّا بشكل ما لتشعر بالذنب تجاه فعل لم تفعله، ولكنك يجب أن تشعر بالذنب كدا وخلاص، فأنت ابن مُقصِّر، لهذا ستبكي، نعم ستبكي الآن.. هيا ابْكِ..

حسنٌ، ما العلاقة بين الأمومة والحزن؟

أو بين الأمهات والنكد والدراما والابتزاز العاطفي؟ ولماذا كل هذه اللطميات؟

لو تأمّلنا حفلات تكريم الأمهات المثاليات فسنجد أن جميعهن أرامل رفضن الزواج مرة أخرى وأنكببن على أبنائهن الذين هم كثيرون، حتى تخرجوا جميعًا في كليات لا معاهد ولا دبلومات. مايصحّش طبعًا، لن تجد أمًّا مثالية مُطلَّقة، أو تزوجت مرة أخرى، فالأم المثالية الأصيلة هي التي تؤثر أبناءها على نفسها وتضحِّي بشبابها وصحتها من أجلهم، فتصبح الأم المثالية تبكي وهي تتسلّم شهادة التقدير من المجلس المحلي أو المحافظ، لماذا؟ لأنها تبكي عمرها وصحتها وتفرح بالتقدير، نعم، ولكن نحن أمام شِقَّين: الأول هو تنميط شكل ومواصفات للأم المثالية يجب أن لا تخرج عنه، والثاني أمام أمهات ينظرن إلى أنفسهن كإلهات مقدَّسات لا يخطئن ويستحققن التقدير من الأبناء والمجتمع.

ربما هذا هو السبب، لماذا لا تصبح أُمٌّ مطلَّقة أُمًّا مثالية؟ بالعكس، فهي تعاني من أجل نفقة أبنائها وترفع القضايا وتذهب إلى المحاكم وتطارد الأب حتى يدفع مصروفات الأبناء في المدرسة، تعمل حتى تكفي أبناءها وتُكمِل احتياجاتهم. نعم الأم الأرملة تعمل أيضًا ولكن المجتمع يساعدها، وربما ترك الزوج إرثًا أو معاشًا، ولديها عمّ أو خال يدعم حتى لا يُقال إنهم تَخلَّوا عن الأبناء. ولكن المطلَّقة لا تلقى دعمًا، حتى إن كثيرًا من أهالى المطلقات يرفضن الطلاق خوفًا من تحملهم مسؤولية ابنتهم وعيالها، لا خوفًا على انهدام البيت أو على استقرار الأبناء في بيت به أب وأم، المطلقة ليس لها قدسية الأرملة، فما بالك لو تزوجت؟ هل حازت أُمّ مطلقة تزوجت مرة أخرى على لقب “أم مثالية”؟ بالطبع لا، فكثيرات يؤخَذ أطفالهن منهن لو تَزوَّجن، تُحرم منهم لمجرد أنها تزوجت. ولا تُعَدّ أمًّا مثالية ولا أمًّا أصلًا، لأنها كسرت التابوه الموضوع منذ زمن.

هل المثالية أن أضحي بنفسي من أجل أولادي؟ أرملة في سنّ صغيرة جميلة وذكية ولكنها تخضع لمعايير المجتمع، أنها يجب أن تظلّ بلا رجل، تنكر احتياجاتها الجنسية والعاطفية من أجل أبناء ستذلّهم بهذه التضحية فيما بعد، وتصعد المسرح وهي تبكي ويبكي أبناؤها، لماذا لا تتزوج وترعى أبناءها وتربيهم بنفسٍ سويَّةٍ سعيدة، لو كانت الأمهات سعيدات حقًّا باختياراتهن في الحياة فلن يبكين حين يسمعن “ست الحبايب”، أي شخص طبيعي ليس به عطب ما سيستمع إليها بلا تأثُّر. أعلم أنها أغنية جنائزية، ولكن البعض سيصمد بالتأكيد ولن ينهار.

ولماذا أصلا يجب أن تُذِلّ الأمهات أبناءهن؟ في فيلم “إمبراطورية ميم” كانت الأم تجلس بين أبنائها، وقالت لهم: “أنا أمكم”، فقال لها أكبرهم: “دي حاجة مالكيش فيها فضل”، وهذا حقيقي، الحب يجب أن يكون بلا ابتزاز أو شعور لدى الأبناء بالذنب، حين أحب أمي سأحبها حب إنسان لإنسان، لا لأنها تَكرَّمَت علَيَّ وأنجبَتني؛ هل يجب أن أشعر بالذنب لأنني نتيجة لقاء جنسي بلا عامل حماية جنسية فحدث تلقيح وأصبحتُ جنينًا ثم رضيعًا؟ هل يجب أن أشعر بالذنب لأن أبوَيَّ لم يرمياني في الشارع كتّر خيرهم، وكانوا بيأكّلوني معاهم؟ هل يجب أن أشعر بالذنب وبكرمهم لأنهم ودّوني المدرسة؟ هذه أمور يجب أن تفعلوها تلقائيًّا وبلا تَكرُّم، ونحن أيضًا سنفعلها من أجل أبنائنا.

نحن فقط نُسلِّم ما تَسلَّمناه من رعاية واهتمام من جيل أمهاتنا لأبنائنا، نُمرِّر الحب والحنِّيَّة، ولا يجب أن نفعله بتكرُّم أو كأنه منحة، أنا لا أحب أبنائي بمقابل إن لم يفعلوه صببتُ عليهم لعناتي وابتزازي العاطفي، الجيل الجديد من الأمهات مثلي يحاول أن لا يكرِّر أخطاء الجيل الأول، صرنا نبحث عن سعادتنا حتى نكون سَويَّاتٍ، لا نضحي بكثير، نحب أنفسنا حتى نستطيع أن نمنح من أنفسنا الجميلة لهم قطعًا من الحب والودّ الطبيعي الخالص المُصفَّى من الإحساس بالذنب والصعبانيات، لا ننتظر مقابلًا، فهو يأتي من نفسه حين لا نطلبه ولا نبتزّه. حينها يأتي رائقًا صافيًا مباشرًا للقلب مُرضِيًا فنسعد، نعرف متى نعتذر ومتى نحسم ومتى نأمر ومتى نُصهْيِن، ندرك أن صحتهم النفسية أهمّ من الفسحة أو لبس جديد، نبذل مجهودًا أكبر من أمهاتنا بالقراءة والبحث وتطوير أنفسنا. بالطبع نفقد أعصابنا، وقد تتطاير الشباشب في الهواء في بعض البيوت، ولكننا نحاول أن نكون مختلفات حتى يصبح أبناؤنا مختلفين أيضًا عنَّا.