ربما يمكنك أن تتنبأ بأي حدث -من خلال النظر في بيانات الماضي وإذا كنت مُؤهَلًا “ثقافيًا” من خلال دراستك لمحفزات أو محركات السلوك البشري وسلوك الطبيعة وليس ما حدث فيها في الماضي- لكنك لن تستطيع بأكبر قدر من الدقة التنبؤ بميعاد حدوثه ولا بحجم الخسائر الناتجة عنه  اعتمادًا على معادلات خطية لا تفسر سوى نتائج سلوكٍ ما من الماضي لا تتوافر ظروف تكراره. “صعوبة التعميم انطلاقًا من المعلومات المتوافرة” كان هو القصد من وراء قيام الباحث الأمريكي لبنانيُ الأصل “نسيم نقولا طالب” بإعداد كتابه الأشهر “البجعة السوداء” الذي صدر في عام 2007 وحاز المركز الأول بقائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا في ذلك العام.

كان الناس يعتقدون أن طيور البجع إنما هي بيضاء فقط حتى وقع نظر علماء الطيور على البجعة السوداء الأولى فكان ذلك دليلًا على محدودية معارف الإنسان من خلال مشاهداته وملاحظاته بل وتجربته العملية من ناحية، ودليل على ضآلة مداركه عن الأشياء والأحداث والصور من ناحية أخرى. من هذا المنطلق، بدأ “طالب” في البحث الدؤوب الذي أنتج هذا الكتاب بالغ الثراء الذي أعُدُه شخصيًا واحدًا من أهم المنتجات الثقافية في هذا القرن -حتى الآن- إذ يكشف بحساسية بالغة -في 305 صفحة من القطع المتوسط- بؤس وتهافت نظرة الإنسان إلى العالم استنادًا إلى ما يعرفه فقط حيث يعتمد على أحداث الماضي للتنبؤ بالمستقبل الذي ما أن تقع أحداثه الضخمة التي فشل في التنبؤ بها إلا وتراه ينبرى في تصوير نفسه عالمًا ببواطن الأمور قادرًا على التنبؤ. يرى “طالب” أن البجعة السوداء هي حدث له ثلاث ملامح:

1- أنه حدث عرضي يقع خارج نطاق التوقعات المألوفة حيث لا شيء في الماضي يشير إلى مثل هذا الاحتمال بشكل مقنع.

2- أنه يتضمن تأثيرات بالغة الشدة.

3- أنه وبرغم كونه عرضيا، فإن طبيعتنا البشرية تجعلنا ننسج تفسيرات ومرويات له بعد حدوثه بما يجعله قابلًا للإدراك والتوقع عما كان عليه الأمر بالفعل. باختصار، ينظر الإنسان إلى العالم من خلال نموذج مُعَد سلفًا حيث الخطأ التأكيديConfirmation Error الذي يعكس الإصرار على عدم نقض ما سبق التوصل إليه من آراء ليُجهد الإنسان نفسه في البحث عن شواهد من شأنها التأكيد على معتقداته التي ما إن يجدها إلا ويستشهد بها دليلًا علي صحة وجهة نظره. فإذا ما تداخل الخطأ التأكيدي مع الغطرسة المعرفية Epistemic Arrogance، أُصيب الإنسان بحالة من اليقين الزائف بسبب خروجه من دائرة التأمل المُحايد والبحث المُجرد إلى حالة من البلادة المُريحة والفشل المتعجرف في البقاء على قيد المستقبل.

“هل كان غزو أوكرانيا بجعة سوداء؟”.. راودني هذا السؤال عند بدء الأزمة وتَطَوَرَ مع استمرارها إلى ما يشبه المراجعة الذاتية حول ما إذا كنتُ شخصيًا قد وَقعتُ أسيرًا لدرجة من الغطرسة المعرفية والخطأ التأكيدي انتهيا بي شأن كثيرين من أقراني إلى استشراف نتائج كان أكثرها جموحًا هو تقديرٌ -أحمَدُ الله أنني كنت صاحبه- أن حدثًا جللًا ما سوف يَقع على خلفية التعهدات الزمنية الصارمة لحكومات العالم في COP26 بالوصول إلى الحياد الكربوني (صفر انبعاثات كربونية) عند حلول منتصف هذا القرن، وهو أمر كان يشير إلى احتمال نشوء نزاعاتٍ تتباين مسارح عملياتها بين أروقة الاجتماعات المغلقة وساحات المعارك المفتوحة. لذا، وعلى الرغم من ذلك كله، فلم يكن وضعي لسؤال “البجعة السوداء” كعنوانٍ على رأس هذا المقال استفهاميًا. ما كان غرضي الأساسي هو تقديم إجابة عليه بقدر ما كان محاولة لِحَث الباحثين المعاصرين، وأنا منهم، على مزيد من النظر والتعمق للتنبؤ بأحداث المستقبل استنادًا إلى منهج علمي مختلف وهو ما أتمنى أن يفضي إلى “تركيبٍ” جديد. فلنطرح السؤال بصيغة أخرى، لماذا أخفق الكثير من الباحثين والمحللين السياسيين في التنبؤ -علميًا- بحدث الغزو الروسي لأوكرانيا “قبل وقوعه” وبما يمتد لما قبل الإستعدادات اللوجيستية والمُقدمات السياسية (“قبل وقوعه” هي كلمة السر ومفتاح الصندوق المُغلق بإحكام). وظني أن ذلك راجعٌ إلى حالةٍ من تداخل الخطأ التأكيدي التاريخي مع نزعةٍ للغطرسةٍ المعرفيةٍ ترسختا خلال سنوات التيه بعد انهيار جدار برلين، فازداد اليقين الزائف الذي عَمَقَه انتفاء التناقض -ولو كان ظاهريًا- حين انفردت قوة واحدة وحيدة بالسيطرة العسكرية والاقتصادية على العالم، لتفرض قيمها الثقافية بلا منازع، مع إغفالٍ لأثر الخطر المتأصل/الكامن Inherent Risk في الحدث وهو أمر يخضع لاعتبارات إنسانية بالغة التعقيد تحددها طموحات ورؤى وتقديرات وترتيبات غير نمطية تجعل من التنبؤ بالحدث “قبل وقوعه” أمرًا بالغ الصعوبة، وإن كان من الممكن للباحث المُدَقِقُ منح هذا الخطر نسبة تقديرٍ “كَمية” تَتَحَدَد وفق رؤيته الثقافية والحضارية. في هذا السياق التاريخي، يمكنني الإشارة إلى مسألتين بالغتي الأهمية كثَفَتا دواعي الإخفاق:

غياب استخدام النموذج العلمي “لإدارة المخاطر” (لا “إدارة الأزمات” فقط) التي إن تعاطيت معها وفي ذهنك الملامح الثلاث لبجعة “طالب” السوداء، سيمكنك تقسيمها إلي نوعين: مخاطر تقليدية يتوافر لديك من خبرات الماضي ما يؤهلك للتنبؤ بها، ومخاطر غير تقليدية لا خبرات لديك بشأنها وهي ما أُطلِقَ عليها وصف “البجعة السوداء”.

غياب الإلمام -بدرجة معقولة- بالمناهج الفلسفية التي أبدعها الإنسان على مدار تاريخه والتي يمكن من خلالها سبر أغوار “الخطر المتأصل/الكامن” بحدثٍ ما، وعلى وجه الخصوص مساهمات هيجل وماركس وبوبر. ولعل الأمر يستوجب الإشارة تحديدًا إلى أهمية قوانين الجدل المادي الثلاث (التناقض، التراكم الكمي والتغيير النوعي، نفي النفي) في فهم صيرورة تطور الأفكار والواقع بهدف تحليل الظواهر الذي كان من الممكن الإعتماد عليه (التحليل) في التنبؤ بالحدث الجلل الذي أوقف -ومازال- العالم بأسره على أطراف أصابع قدميه متأرجحًا على حافة الهاوية.

ربما يكون هذا المقال مقدمة لورقة بحثية عن “التركيب” الجديد في منهج التحليل الذي أشرت إليه كبديل للغرق في أحداث التاريخ التي لا تتكرر إلا في صورة الملهاة حيث يحتاج الباحث المعاصر لتقييم “واقعه” المتغير لا “تاريخه” الذي صار ثابتًا بحُكم حركة الزمن، أو كما قال “نسيم نقولا طالب”: “لقد أذهلني اعتقاد لم يغادرني منذ توصلت إليه، أننا لسنا سوى مجرد ماكينات عظيمة للنظر إلي الوراء”.