جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا بمثابة زلزال جيواستراتيجي ألقى بظلاله على مختلف دول العالم. خصوصًا البلدان المكشوفة أمنيًا، والمعروف عنها بأنها ساحة يتنازع فيها النفوذ الإقليمي والدولي. ورغم أن أزمة غزو روسيا لأوكرانيا تقع في نطاق جغرافي بعيد نوعًا ما عن منطقة الخليج. إلا أن التداعيات المترتبة عليها من شأنها جرف اللاعبين الرئيسيين في المنطقة لإعادة تموضع سياسي سريع استباقًا للكيفية التي ستنتهي بها الحرب.
وفي ضوء المعطيات الراهنة، ومواقف السعودية منذ بدء الأزمة، يمكن استنتاج أن التداعيات التي خلفتها المعارك على الأراضي الأوكرانية، ووصل صداها للعلاقات السعودية الأمريكية، ستسرع من وتيرة عملية انتقال الحكم هناك من الملك الأب سلمان بن عبد العزيز، إلى ولي عهده (بن سلمان) الذي يرغب في عملية انتقال آمنة وسلسة، دون انتظار أي مفاجآت قد ترافق غياب العاهل السعودي عن المشهد بشكل مفاجئ. آخذًا في الاعتبار فشل محاولة ابن عمه الأمير متعب بن عبد الله، في الساعات الأخيرة من حياة العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، لاعتلاء عرش المملكة. وكان وقتها يحتل منصبًا رفيعًا في الحكومة السعودية. وهو وزير الحرس الوطني صاحب الصلاحيات والقوة الهائلة في حينه.
بن سلمان ودلالة البيان الملكي بشأن صحة العاهل السعودي
المدقق في البيان الأخير المتعلق بشأن الوضع الصحي الراهن للعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، سيدرك تغيرا واضحا في طبيعة تلك النوعية من البيانات الصادرة عن الديوان الملكي. وربما كانت هناك رسائل بين السطور يريد كاتب البيان إيصالها. حيث أعلن لأول مرة أن العاهل السعودي البالغ من العمر 87 عامًا دخل مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض لتغيير بطارية منظم ضربات القلب -جهاز صغير يوضع تحت جلد المريض في منطقة الصدر لعلاج الحالات المسماة باضطراب التوصيل داخل القلب نتيجة خلل ما.
البيان الأخير بشأن الوضع الصحي للملك سلمان جاء في وقت تمر فيه العلاقات الأمريكية السعودية بمنحنى خطير. وهو نتاج الرفض السعودي للمطلب الأمريكي بضخ مزيد من النفط لضبط الاضطراب الذي ضرب سوق الطاقة العالمي.
الأزمة بين الإدارة الأمريكية الحالية وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ليست وليدة اللحظة. ولكن يمكن القول إن الزلزال الذي ضرب العالم بغزو روسيا الأراضي الأوكرانية أدى إلى تأجيجها. وقد وجد بن سلمان الفرصة سانحة لرد الإهانة لبايدن الذي تعهد خلال حملته الانتخابية بأن يجعله “منبوذًا”. ذلك في ظل قناعة الرئيس الأمريكي و”الديمقراطيين” بتورط نجل العاهل السعودي في اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا. ومنذ وصول بايدن للبيت الأبيض تجاهل بن سلمان ورفض التواصل معه. رغم اتصالاته المتكررة ولقاءاته بعدد من زعماء المنطقة. وهو ما يحمل بين طياته موقفًا أمريكيًا بشأن نواياه وخططه لاعتلاء عرش المملكة لاحقًا.
ضغوط لتأمين انتقال سلس للحكم
التحركات داخل الدائرة المقربة من الأمير محمد بن سلمان بشأن تأمين عملية نقل الحكم إليه من والده خلال حياته، رصدتها دوائر غربية وأمريكية. بينما قال عنها مسؤول بأحد المراكز البحثية الخليجية الهامة والمقربة من دوائر صناعة القرار في بلادها، إنها “باتت مسألة وقت”. وقد أكد أن “بن سلمان يسعى لفرض معادلة جديدة في التعامل مع الولايات المتحدة في ظل القرارات الأخيرة لإدارة بايدن. وظهر خلالها غير معني بأمن حلفائه في المنطقة”.
يرى المصدر البحثي أن بن سلمان يرغب في تصعيد الضغط على إدارة بايدن لأقصى مستوى له. وهو ما يتم عبر وسائل متعددة منها قرار النفط الأخير وإصراره على الالتزام باتفاق أوبك بلس. فضلًا عن ترجيح كفة روسيا، بخلاف مغازلته الصين في وقت شديد الحساسية قبيل انتخابات التجديد النصفي. ويسعى الديمقراطيون للاحتفاظ خلالها بأغلبية مجلسي الكونجرس.
ويواجه بادين مخاطر سياسية بعد قرار حظر استيراد النفط الروسي، قبل الانتخابات المقرر عقدها في نوفمبر المقبل. ذلك في وقت بلغ التضخم أعلى مستوياته منذ أربعة عقود. ما يرجع بشكل كبير لارتفاع أسعار البنزين.
وبلغ متوسط أسعار البنزين في محطات الوقود الأمريكية -وفقًا لمعدلات التضخم- إلى 4.173 دولار للجالون الواحد. ليسجل الوقود بذلك أعلى مستويات له على الإطلاق، حسبما قالت “رابطة السيارات الأمريكية” (AAA)، وسط مساعي الرئيس الأمريكي للتخفيف من حدة ارتفاع الأسعار، تجنبًا لتأثيرات ذلك على توجهات الناخب الأمريكي لاحقًا.
هدف آخر من التصعيد الأخير -وفقًا لرؤية الباحث الخليجي- هو سعي بن سلمان لانتزاع مباركة أمريكية لاعتلاء عرش المملكة في حياة والده. ما يجنبه أي محاولات تحركها واشنطن لعرقلة ذلك أو إثارة الأزمات في طريقه.
ولي العهد السعودي الذي عمل خلال السنوات الماضية على تمهيد الأرض انتظارًا للحظة المناسبة. وقد حجم مراكز القوى داخل الأسرة الحاكمة من جهة، واشترى الولاءات الدولية من جهة أخرى. هو الآن لا يخفي التردي في العلاقة بينه وبين الرئيس الأمريكي. بل يظهر أنه غير عابئ بانطباعات بايدن بشأنه.
خلال حديث أجراه مع مجلة “ذي أتلانتك” الأمريكية مؤخرًا ، رد بين على سؤال عما إذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن أساء فهم شيء ما عنه، فقال: “ببساطة لا أهتم”. مضيفًا أن “الأمر يرجع له في التفكير في مصالح أمريكا”.
وتابع ولي العهد السعودي: “ليس لدينا الحق في تلقينكم محاضرات في أمريكا.. والعكس، ليس لديكم الحق في التدخل في شؤوننا الداخلية”. ولم ينه بن سلمان حديثه دون التأكيد على قوة العلاقات التاريخية بين المملكة والولايات المتحدة. باعثًا برسالة واضحة مفادها أنه “يهدف إلى الحفاظ عليها وتعزيزها طالما أن الجانب الآخر يراعي طبيعة تلك العلاقة”.
مخاوف بن سلمان.. حقيقة اتصال بايدن وقيادة المملكة
تصاعد مخاوف بن سلمان بشأن موقف الإدارة الأمريكية تجاهه، يمكن قراءتها بشكل واضح، على ضوء ما كشف عنه مصدر خليجي رفيع المستوى، تحدث لـ”مصر 360″، حول طبيعة الخلاف الذي كشفت عنه وسائل إعلام أمريكية بشأن رفض بن سلمان تلقي اتصال هاتفي من بايدن مؤخرًا، مؤكدًا أن “الرواية بهذا الشكل غير دقيقة”.
أوضح المصدر أن بايدن بالفعل طلب إجراء اتصال مع العاهل السعودي ربما لبحث تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا ومطالبته بشكل مباشر بضخ المملكة كميات إضافية من النفط، فتم إبلاغ الجانب الأمريكي بأن الملك لا يمكنه تلقي الاتصال بسبب متاعب صحية تحول بينه وبين إتمام الاتصال، قبل أن يعرضوا -الجانب السعودي- أن ينقل الاتصال إلى ولي العهد محمد بن سلمان. وهو ما تم رفضه من جانب البيت الأبيض، داعين إلى إرجاء الاتصال لوقت آخر.
تبعات رفض البيت الأبيض
عقب فشل الاتصال بين الرئيس الأمريكي وقيادة المملكة، مباشرة، كشف الإعلام الأمريكي عن انطلاق مفاوضات سعودية صينية لبحث استخدام اليوان الصيني بدلًا من الدولار الأمريكي في مبيعات النفط إلى الصين. وهي الخطوة التي من شأنها أن تقلل من هيمنة الدولار على سوق النفط العالمية.
المحادثات السعودية مع الصين بشأن عقود النفط المسعرة باليوان كانت قد توقفت منذ 6 سنوات. إلا أنها عادت وفقًا لتقديرات الإعلام الأمريكي في أعقاب التوتر القائم في العلاقات بين واشنطن والرياض.
ووفقًا لمصدر مطلع تحدث لصحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن السعودية “تسعى لتعزيز وتعميق علاقتها مع بكين في ظل تحول جيوسياسي في الشرق الأوسط”، حيث تتطلع الصين وروسيا إلى توسيع نفوذهما في آسيا والمنطقة.
وأشار المصدر إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الصيني “صديقان قريبان، وكلاهما يدرك أن هناك إمكانات هائلة لعلاقات أقوى”.
في أعقاب ذلك تم الإعلان عن إلغاء زيارة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المملكة، وسط تضارب كبير حول ملابساتها. فبعدما كشف موقع “إكسيوس” الأمريكي نقلًا عن مصادر أمريكية وإسرائيلية أن بلينكن يخطط لزيارة الشهر الجاري تشمل السعودية والإمارات وإسرائيل والضفة الغربية في فلسطين، تبع ذلك تصريح عن مسؤول بوزارة الخارجية السعودية بقوله إن المملكة تتطلع إلى استقبال بلينكن في المستقبل القريب لتعزيز المناقشات “الإيجابية” المستمرة. وذلك قبل أن تصدر الخارجية السعودية بيانًا رسميًا تنفي فيه استعدادات بشأن زيارة لبلينكن للمملكة في المستقبل القريب.