عادت أزمة الديون العالمية لتهدد الاقتصاد العالمي مجددا مع تزايد تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتطورات جائحة كورونا. حتى باتت العديد من البلدان الفقيرة تواجه اضطرابا اقتصاديا كبيرًا واحتمالية التخلف عن سداد ديونها السيادية في 2022.
تفاقمت المشكلات أكثر بسبب حرب روسيا على أوكرانيا. فالصراع بين أول وخامس أكبر مصدرين للقمح في العالم (روسيا وأوكرانيا على التوالي). سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص الغذاء العالمي.
بدأت كورونا كأزمة صحية عالمية لكن سرعان ما تحولت لمشكلة اقتصادية. ولن يمر وقت طويل قبل أن تتحول لأزمة سياسية عالمية.
فقبل الوباء كان المحتجون ينزلون إلى الشوارع للاحتجاج على ارتفاع الأسعار وعدم المساواة. وفرض التباعد الاجتماعي توقفا لتلك الاحتجاجات التي من المرجح أن تعود.
خلال الوباء أقبلت الحكومات على القروض الطارئة قصيرة الأجل باهظة الثمن. وحان الآن وقت السداد. ويجد الكثيرون أنفسهم في وضع أسوأ بكثير من ذي قبل.
مع ارتفاع مدفوعات الديون الخارجية بنسبة 45% خلال العامين الماضيين. أصبح أكثر من نصف البلدان منخفضة الدخل رسميًا في ضائقة ديون أو معرضة لخطر كبير. وقد تضطر الحكومات حتماً إلى خفض الإنفاق على كل شيء. بداية من جهود تغير المناخ إلى التعليم وأولويات الرعاية الصحية الأخرى.
يوجد احتمال حقيقي بأن الأزمة قد تنتقل قريباً إلى حالة من افتقاد الأمن السياسي، وأصبح ملحا لقادة العالم مساعدة البلدان على إعادة هيكلة ديونها كجزء من إعادة تمويل أوسع لمستقبلها الاقتصادي.
ارتفعت البطالة في جميع أنحاء جنوب العالم ، مع فقدان الملايين من الوظائف بما في ذلك 22 مليونًا في إفريقيا جنوب الصحراء خلال عام واحد فقط.
في الوقت نفسه تضررت الاقتصادات ذات الدخل المنخفض. والتي تعتمد بشدة على الصادرات بشكل خاص من تعطل سلاسل التوريد. وبالنسبة لأولئك الذين ليسوا منتجين للنفط والغاز يعانون ارتفاع أسعار الطاقة.
أرقام مفزعة للديون العالمية
مشكلة الديون ليست غريبة على الاقتصاد العالمي. لكن الجديد وصولها إلى مستويات قياسية عند 226 تريليون دولار. وهو ما قدّره صندوق النقد الدولي (قاعدة بيانات الديون العالمية) بما يعادل 256٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
اقترضت الحكومات في جميع أنحاء العالم إجماليًا أكثر بقليل من نصف الزيادة. مما رفع نسبة الدين العام العالمي إلى 99 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما بلغ الدين الخاص للمؤسسات غير المالية والأسر ارتفاعات جديدة خلال نفس الفترة.
كانت الزيادة في مستويات الدين مرتفعة بشكل خاص في الاقتصادات المتقدمة. حيث ارتفع الدين العام من 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 2007 إلى 124٪ عام 2020.
خلال تلك الفترة ارتفع الدين الخاص بمعدل أكثر اعتدالاً من 164٪ إلى 178٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
ويمثل الدين العام الآن ما يقرب من 40٪ من الدين العالمي. وهي أعلى حصة منذ منتصف الستينيات.
ويعزى ارتفاع وتراكم الدين العام منذ عام 2007 بشكل أساسي إلى الأزمتين الاقتصاديتين الرئيسيتين اللتين واجهتهما الحكومات. أولاً الأزمة العالمية الأزمة المالية 2007-2008 والثانية التي تزامنت مع وباء كورونا في 2020.
في مواجهة الموارد المالية المحدودة وارتفاع أسعار الفائدة اضطرت الاقتصادات الناشئة والنامية إلى الاقتراض بأقل من احتياجاتها. فيما مستويات الديون المرتفعة تفاقمت بسبب انخفاض معدلات الناتج المحلي الإجمالي. فضلا عن مواجهة الاقتصادات الناشئة والنامية أيضًا أزمة مالية مثل البلدان المتقدمة. لكن حجم المشكلة لم يكن هو نفسه. كان تقارب كل من الأزمة النقدية والمالية في جميع الاقتصادات غير مسبوق.
تنتهي المبادرات المتعلقة بالأوبئة مثل مبادرات تعليق خدمة الديون لمجموعة العشرين “دي إس إس أي” نهاية عام 2022. فيما يواجه العديد من البلدان التي استفادت من هذه المبادرات الآن متأخرات في السداد أو التخفيضات في كل من النفقات العامة والخاصة.
ما لم توافق دول مجموعة العشرين على تسريع إعادة هيكلة الديون لهذه البلدان وتعليق خدمة الديون. فإن العديد من هذه البلدان يواجه انهيارًا اقتصاديًا.
من جانبه قدم صندوق النقد الدولي قروضاً طارئة وخصص 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة (SDR) لجميع البلدان الأعضاء. فيما تم تخصيص 21 مليار دولار بشكل مباشر للبلدان ذات الدخل المنخفض. بينما التزمت البلدان المتقدمة بدعم البلدان ذات الدخل المنخفض بإقراض 100 مليار من مخصصاتها الخاصة لحقوق السحب الخاصة.
الأزمة الروسية تزيد جراح الاقتصاد العالمى
قبل أسابيع أصدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية من تبعات “واسعة النطاق” للتدخل الروسي في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي.
وأعربت المنظمات في بيان مشترك عن قلقها الشديد حيال الحرب في أوكرانيا. موضحة أنها اجتمعت لبحث وطأتها والرد الجماعي الواجب إزاءها.
وذكرت المؤسسات الموقعة -وبينها أيضا بنك الاستثمار الأوروبي- أن الكارثة الإنسانية المدمرة في أوكرانيا تثير بلبلة حول سبل العيش في المنطقة وما بعدها.
وأوضحت أن الحرب تحد من إمدادات الطاقة والمواد الغذائية. وتتسبب في ارتفاع الأسعار وزيادة الفقر. ما “سيضر بالانتعاش الاقتصادي بمرحلة ما بعد الوباء في العالم”.
وجاء في البيان أن “الاقتصاد العالمي برمته سيشعر بالتبعات من خلال نمو أبطأ وسيكون الأكثر فقرا وهشاشة. هم الأكثر تضررا”.
ولفتت المؤسسات إلى أن دول جوار أوكرانيا ستعاني بصورة خاصة مشكلات التجارة وسلاسل الإمداد وستواجه موجات لجوء. فيما ستطال الأضرار الأسواق المالية. حيث سينعكس غموض الآفاق على أسعار الأصول وسيتسبب في تشديد الشروط المالية. وقد يؤدي إلى “تدفق رأس المال خارج الأسواق الناشئة”.
كتدبير لسد الفجوة خلال المرحلة المبكرة من الوباء أنشأت حكومات مجموعة العشرين مبادرة تعليق خدمة الديون أو “دي إس إس اي”. والتي حددت 73 دولة على أنها مؤهلة لتعليق مؤقت لمدفوعات الفائدة إلى الدائنين الرسميين بحكم مستوى دخل الفرد ومستوى ديونه.
المبادرة التي استمرت من مايو 2020 حتى ديسمبر 2021 قدمت أكثر من 10.3 مليار دولار لتخفيف ديون 40 دولة مؤهلة. لكن بعيدًا عن حل أزمة الديون السيادية كانت المبادرة تعليقًا لتكاليف خدمة الدين بدلاً من التنازل عن الفوائد أو المدفوعات الرئيسية.
اشترت البلدان التي استفادت من المؤشر لنفسها بعض الحيز المالي. لكنها الآن بحاجة إلى استئناف خدمة ديونها بانتظام. وتستحق المدفوعات المعلقة على فترة تتراوح بين أربع وست سنوات. على أن يتم دفع أي شيء مستحق بداية من يناير 2022 وفي المواعيد المحددة.
هل في النفق بصيص أمل؟
تحتاج البنوك المتعددة الأطراف بدعم من المساهمين إلى زيادة كبيرة في مقدار ما يمكنها إقراضه. فحاليا ليس لديهم ببساطة القوة لتلبية احتياجات الاقتصاد العالمي.
تبلغ القدرة الحالية نحو ربع تريليون دولار فقط. لكن الخبراء يقدرون أنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على إقراض ما لا يقل عن 1.3 تريليون دولار سنويًا.
مع زيادة الموارد يجب أن يأتي قدر أكبر من المساءلة. فالمؤسسات المالية الدولية فشلت في التطور بشكل كافٍ منذ أن تم تأسيسها لأول مرة من قبل حفنة من الدول الغربية الغنية. والتي لا تزال تحتل الصدارة اليوم باعتبارها أغلبية المساهمين.
إن مثل هذه السيطرة غير الديمقراطية تقوض مصداقية تلك البنوك وقدرتها على خدمة البلدان التي في أمس الحاجة إليها.
يمكن أن يكون لصندوق النقد الدولي تأثير هائل من خلال توسيع خط الائتمان الخاص به. والمعروف باسم حقوق السحب الخاصة بشكل أكثر انتظامًا. فيما تحتاج المؤسسات المالية الدولية إلى القيام بدور أكبر بكثير في الاستفادة من التمويل الخاص. فمؤتمر المناخ للأمم المتحدة “كوب ٢٦” كشف عن فرصة حاسمة لاتخاذ قفزة جذرية إلى الأمام في دفع رأس المال الخاص إلى التخفيف من حدة تغير المناخ والتكيف معه.
العالم بحاجة إلى إيجاد طرق لجلب المزيد من رأس المال الخاص من خلال توفير رأس المال العام لجعل الاستثمارات الجديدة أقل خطورة. إذ يمكن لمبالغ صغيرة نسبيًا من رأس المال العام من البنك الدولي والمؤسسات الأخرى. إذا تم تصميمها بشكل صحيح والاستفادة من مبالغ أكبر بكثير من الاستثمار الخاص.
في نهاية المطاف قد تؤدي العواقب السياسية للتقاعس عن العمل إلى الاحتجاجات المحتملة أو أعمال الشغب في الشوارع. وتحفيز القادة عالميًا نحو إصلاح حقيقي على المدى القصير للاستجابة لكورونا وعواقبه الاقتصادية.
يمكن لمجموعة العشرين أن تبدأ بعض الإصلاحات العاجلة بان تكافئ البلدان التي تدخل في إعادة هيكلة الديون من خلال منحها إعفاءً فوريًا وتجميد الديون عبر وقف نمو الفائدة على قروضها. فيما يجب منح طمأنة بأنه خلال فعل الشيء الصحيح والسعي إلى مسار مستدام للخروج من الديون لن يشهدوا انخفاضًا في تصنيفهم الائتماني أو منع محاولة الوصول لرأس المال.