ولد “نوبي” من رحم “حودايت الكذب والحزن”، فكان ابن الكذبة الأكثر صدقًا. مُدلل العائلة الأرستقراطية ومنبوذها، مجنونها الذي اعتلى قمة العقل. اللا منتمي إلى جذوره، المنحاز إلى الهامش. نوح- هذا النبي الهارب من ماض يتداعى ومن طوفان واقع يملؤه البؤس وتغلفه القذارة.

كان على المخرج يسري نصرالله أن يبحث عن ممثل يستطيع أداء شخصية “نوبي” بطل فيلمه الثاني مرسيدس. بكل ما تحمله  الشخصية من إرث عائلي واجتماعي ثقيل، من أفكار وأحلام، من جنون وخفة، من تداخلات ومتناقضات، فكان زكي فطين عبد الوهاب. وقد اختاره نصر الله قبلها بخمس سنوات لأداء دور الباشا في فيلمه الأول سرقات صيفية.

“مرسيدس”.. من أين جاءت كل هذه الوداعة؟

جاء أداء زكي فطين عبد الوهاب، في “مرسيدس” مختلفًا عن أدائه  لشخصية “الباشا” في “سرقات صيفية”. وبالطبع مختلفًا عن دوره في فيلم “اليوم السادس” والذي عمل فيه أيضًا كمخرج مساعد ليوسف شاهين عام 1986.

كان أدائه لشخصية “نوبي” مبهرًا وسلسًا. للدرجة التي تجعلك تتساءل كيف يصير إنسانًا محملًا بتلك الشحنات النفسية والاجتماعية المتداخلة والمعقدة، بهذه الوداعة. كيف يحمل هذه القوة رغم كل الضعف الذي يعتري حياته – أبًا غير شرعي، وأمًا حجرت عليه وأودعته مستشفى للأمراض العقلية. حتى لا يتبرع بميراثه للشيوعيين وأخ منبوذ، فر من قساوة العائلة العفنة. التي أنكرت ميوله الجنسية، فصار يتسكع متصعلقًا في سينمات الدرجة الثالثة، وأسفل كباري القاهرة.

من المؤكد أن كتابة يسري نصر الله ورؤيته الإخراجية كانت عاملًا هامًا في تكوين شخصية بهذه السمات، لكن جوانب الشخصية. ربما ما كانت تكتمل مع ممثل آخر بالقدر الذي صنعه زكي فطين عبد الوهاب من خلال أدائه الذي نفذ إلى أرواحنا.

سفينة نوح والفرار من الطوفان

هذا الأداء النافذ بسلاسة إلى الأعماق، سنجده في كل مشاهد زكي في فيلم مرسيدس. لكننا سنلحظه جليًا وصادقًا في مشهد يجمعه بحبيبته “عفيفة” – شبيهة أمه:

“ساعات بحلم إني سيدنا نوح.. وابص حواليا وأقول يا ترى مين اللي هاخده معايا في سافينتي.. هاخدك انتي وجمال.. انتي معايا..  وساعات بحس إنك هتضيعي مني أو تزهقي”.

نوح هنا، سوف يصطحب، المختلفون، المغتربون عن واقعهم، أبناء الهامش، المنبوذون. من كسروا ستار العفة الزائف وتحرروا من “حوادايت الكذب”: عفيفة – الراقصة التي ترفض أن تحول جسدها لوجبة يلتهمها الرجال. وأخوه جمال – مثلي الجنس – الرسام الرقيق الذي رفض ميراثه من أبيه حتى لا يتحول من إدمان الماكس إلى الهيروين.

رومانتيكا.. أزمة الذات ومجتمع الهامش

عقب أدائه لدور البطولة في  فيلم “مرسيدس” بهذا الإبهار، أقبل زكي فطين عبد الوهاب، على تجربته الإخراجية الأولى “رومانتيكا”.

لم يكن رومانتيكا والذي كتب زكي له السيناريو أيضًا، سوى تجسيدًا لعلاقته هو ذاته بفنه. تعبيرًا عن أزمته مع السينما ومع ما يريد طرحه، والمساحات المتاحة لذاك الطرح.

لم يكن هذا متواريًا، أراد زكي فطين أن يخبرنا به بوضوح تام، فمع أول ظهور لـ”حسن” المخرج الشاب. والشخصية الرئيسية في “رومانتيكا” تدور الكاميرا داخل شقته لتظهر على الجدران صور عائلته: الأب المخرج الكبير فطين عبد الوهاب. والأم الفنانة ليلى مراد، والجد الملحن زكي إبراهيم موردخاي (زكي مراد) والخال الفنان منير مراد.

يؤكد زكي على هذه الحقيقة في مشهد يجمع “حسن” بـ”بيسو” ـ أحد “الخرتية”. عندما يسأله الأخير: “هو صحيح أبوك اتجوز ليلى مراد” فيهز حسن رأسه، يواصل “بيسو”: “يعني انت ابنها” فيهز رأسه ثانية.

كان موضوع “رومانتيكا” جديدًا على السينما المصرية، فلم يتطرق أي عمل سينمائي قبله لحياة “الخرتية” – الذين يصطحبون”السياح” في جولاتهم داخل القاهرة. يتجولون معهم، يطوفون بهم معالمها يستأجرون لهم المراكب ليتنزهوا في النيل. كل ذلك مقابل أجر يومي، إضافة لما يتحصلون عليه عندما  “يخرتنوا”  (ينصبون) على “السياح” خلال الشراء من البازرات أو دفع حساب المطاعم والمقاهي.

“الخرتية”، هؤلاء القابعون في القاع، سكان الهامش المحاصرون باليأس والإحباط، الحالمون بالنجاة. إلى الثروة كـ”توتو” (محمد لطفي) أو إلى الزواج من أجنبي كـ”صباح” (لوسي) أو السفر إلى أمريكا والعمل في هوليود كـ” سيد سكارفيس” (أشرف عبد الباقي). والذي لعب ببراعة شديدة أهم دور في العمل كله وأكثرها عمقًا وتعبيرًا عن مأساة “الخرتية” – أبناء الهامش، وحلم النجاة الذي يصل إلى الجنون.

 

التماهي مع التجربة ومرارتها

لم يكن حلم “حسن” بطل “رومانتيكا” بتقديم عمل سينمائي عن “الخرتية” وحياتهم – عملًا يحلم بأن يجسدوا هم أنفسهم أدوارهم أمام الكاميرا. سوى معادلًا لحلم زكي فطين عبد الوهاب، بتقديم سينما أبناء الهامش.

بل والأكثر من ذلك أن يتماهى زكي مع فيلمه، للدرجة التي جعلته  يتوصل لنفس النتيجة التي توصل لها بطله “حسن” عندما مزق السيناريو في آخر مشاهد الفيلم متراجعًا عن فكرة تنفيذه. فكان “رومانتيكا” هو أول وآخر أعمال زكي فطين عبد الوهاب تأليفًا وإخراجًا.

لا أحد يستطيع أن يجاوب على سؤال: لماذا لم يكمل زكي مشروعه الإخراجي الذي بدت ملامحه في “رومانتيكا” تُنبأ بمخرج عملاق. هل تماهى حقًا مع عمله، فلم يكن بالنسبة له مجرد فيلمًا، بل خلاصة خبرة فنية وبحثية وحياتية.

أم أن ما واجهه من خلافات مع منتجة الفيلم مي مسحال، والتي قيل إنها رفضت تصوير مشاهد إضافية طلبها زكي، بسبب الميزانية. ما جعله يترك العمل، لتستعين بمجموعة من صناع السينما منهم صلاح أبو سيف ومحمد خان وأسامة فوزي. قدمت لهم الشكر في تتر الفيلم لما أسمته جهودهم في إنهاء الفيلم، دون أن توضح ما هي هذه الجهود هل كانت إعداد الفيلم للعرض. أم مجرد الوساطة لإنهاء الأزمة بينها وبين زكي فطين عبد الوهاب. عرض الفيلم للجمهور في 1996، وحقق نجاحا كبيرًا خاصة على المستوى النقدي حيث حصد عدة جوائز بمهرجان الإسكندرية.

أيًا كانت الأسباب فقد انتهت تجربة زكي فطين عبد الوهاب الإخراجية. لتحرم السينما المصرية من العديد من الأفلام التي كان يمكن أن يقدمها خلال ربع قرن مر منذ فيلمه “رومانتيكا”.

أدوار متميزة  

لأكثر من سبع سنوات منذ بطولته لفيلم “مرسيدس” وأربع سنوات منذ إخراجه لـ”رومانتيكا” لم يشارك زكي فطين عبد الوهاب في أي أعمال سينمائية. ولم يكن بالطبع اتجه للدراما التلفزيونية بعد.

لكنه عاد في عام   2000 مع يسري نصر الله، مرة أخرى في دور ثان في الفيلم المصري الفرنسي المشترك “المدينة”. ثم دور صغير لكنه مؤثر في سكوت ح نصور مع يوسف شاهين. حيث لعب دور المخرج داخل الفيلم وهو الدور الذي يقول عنه الناقد طارق الشناوي إنها المعادل الموضوعي لشخصية يوسف شاهين. وفي 2004، اختاره المخرج أسامة فوزي لأداء دور مميز جدًا في فيلم “بحب السيما” أحد أهم الأفلام المصرية في العشرين عامًا الأخيرة.

في العام 2011، يعود إلى السينما بدورين مميزين كانا آخر أعماله السينمائية من خلال فليمي “واحد صفر” و”الفاجومي” قصة حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم. حيث قام بدور رسام الكاريكاتير الشيوعي الذي يلتقي نجم بعد خروجه من السجن، ليفتح عقله على الكثير من الأفكار.

الدراما التلفزيونية.. من أهل كايرو إلى قلوب الجهور

منذ عام 2010 ، اتجه زكي فطين عبد الوهاب إلى الدراما التلفزيونية فقدم دور الدكتور شريف راسخ. في مسلسل “أهل كايرو”. يكتشف شريف الماضي الفاضح لعروسه سيدة الأعمال “صافي” (رانيا يوسف) ليلة زفافهما. بعد عرض شريط فاضح لها على شاشة عرض قاعة الزفاف. تُقتل “صافي” في اليوم التالي، ويتولى الضابط “حسن محفوظ” (خالد الصاوي) التحقيق في القضية.

أدى زكي الدور بإتقان وصدق شديد فتفاعل معه جمهور الدراما التلفزيونية بشكل كبير. حيث حقق نجاحًا أهله للتواجد في ثلاث مسلسلات في العام التالي 2011، هي “دوران شبرا، سمارة، المواطن إكس”.

قدم زكي خلال العشر سنوات التالية لـ 2011، نحو ثلاثين عملًا دراميًا أدى من خلالها أدوار مميزة زادت رصيده من حب الجمهور. فلا أحد ينسى شخصية “راضي عبد المنعم” في مسلسل العراف مع الفنان الكبير عادل إمام. أو دوره في مسلسل “اسم مؤقت” حيث أدى شخصية “رأفت الروي” مرشح الرئاسة والسياسي الرومانسي. الذي ينسحب من الانتخابات على الهواء في أحد برامج الـ”توك شو” محاولًا فضح المتاجرين باسم الثورة.

انحياز بعمق الواقع

لم يكن انحياز زكي فطين عبد الوهاب للقطاعات الشعبية، ولأبناء الهامش، في أعماله، منفصلًا عن مواقفه. أيد زكي ثورة 25 يناير منذ اندلاعها وشارك في أيامها الأولى. فلم يكن انحيازه سطحيًا أو ساذجًا بل كان انحيازًا اجتماعيًا بعمق الواقع وأزماته. فكان واضحًا في آرائه دون صخب.

بهدوء شديد انتقد زكي تكرار الموسيقار عمر خيرت لمؤلفاته الموسيقية، وطالبه بالخروج من تيمة موسيقى ليلية القبض على فاطمة، الذي يرى أنه لا يزال يكررها. كما انتقد أعمال الفنان عادل إمام في السنوات الأخيرة واصفه بأنه يقدم نفس الشخصية، رغم المشاركة معه في مسلسل العراف عام 2013.

دافع أيضًا عن حق مطربي المهرجان في أداء لونهم الموسيقي والغنائي الخاص. مهاجمًا عمرو دياب وحلمي بكر متهمهم بالإفلاس بسبب ما وصفه بالهجمة الشرسة على أغاني المهرجانات.

هاجم سرطان الرئة الفنان زكي فطين عبد الوهاب عام 2019، لينتصر عليه معلنًا شفائه بعد عدة أشهر من العلاج. لكنه عاد ليعلن في شهر يونيو من العام الماضي 2021، أنه اكتشف إصابته بورم في المخ  في المرحلة الرابعة، ليرحل أول أمس تاركًا سفينته في وجه الطوفان.