تتعدد قنوات العدوى المالية التي من المتوقع أن تضرب مصر خلال الفترة المقبلة. من ناحية هناك الاضطراب الكبير في سلاسل الإمداد العالمية الذي بدأ مع ذروة جائحة كورونا خلال الفترة 2020/2021 واستمر بصورة أعنف مع تطور الأوضاع مؤخرا بين روسيا وأوكرانيا بنهاية فبراير الماضي. تمثلت صور ذلك الاضطراب في تقييد حركة التجارة من وإلى دولتي الصراع وعبر البحر الأسود، فضلا عن العقوبات الاقتصادية على روسيا وردود الأفعال الدولية المتوجسة من نقص المعروض السلعي، والذي حدا بكثير من الدول أن تراجع استراتيجيات تخزين السلع لديها، سواء بمد أجل التخزين أو بزيادة حجم المخزون من مواد الغذاء والطاقة أو بكليهما.
من ناحية أخرى، هناك الموجات التضخمية العنيفة التي ضربت معظم دول العالم على خلفية التعافي النسبي من فترات الإغلاق في العام 2020، وكان من مظاهر ذلك التعافي زيادة الطلب على مواد الطاقة لتلبية الاحتياجات المتراكمة طوال فترات الإغلاق، ووجدت أسعار الطاقة سبيلها إلى رفع أسعار مختلف السلع والخدمات عبر ما يعرف اقتصاديا بأثر التمرير pass-through effect، حيث تؤثر أسعار الطاقة على تكاليف النقل والتشغيل والتخزين والحفظ… بل وتدخل في إنتاج الأسمدة الزراعية كمدخل إنتاج يمثل 75% من التكلفة بما يؤثر على تكلفة الغذاء فضلا عن تشغيل الميكنة الزراعية ورفع المياه وخلافه من عناصر إنتاج المواد الغذائية الأولية.
الزيادة الكبيرة في معدلات التضخم بعيدا عن النسب المستهدفة لتبلغ مستويات تاريخية في الولايات المتحدة وأوروبا تسببت في اتجاه الدول المتضررة والمرتبطة بالدولار الأمريكي تحديدا إلى رفع أسعار الفائدة الأساسية بما من شأنه أن يكون قناة للعدوى تصيب مختلف الدول النامية ذات المديونية الكبيرة نسبيا والمقوّمة بالدولار في أسواق الدين العالمية.
ومن المعروف أن أعباء خدمة الدين العام قد التهمت ما يقرب من 40% من مصروفات الموازنة العامة الأخيرة، وأن أي زيادة في أسعار الفائدة على الدولار سوف تؤثر سلبا على تكلفة الدين الخارجي لمصر، وسرعان ما تنتقل تلك الزيادة بصورة أكثر حدة إلى الفائدة على الجنيه المصري، وما يستتبعه ذلك من ارتفاع تكلفة الدين المحلي فضلا عن تقويض النمو بما يحدثه ذلك من رفع تكلفة تمويل الاستثمار بصفة عامة.
قنوات العدوى المالية كثيرة ومتشعبة وتحملها بورصات السلع والعقود وأسواق النقد والمال الحاضرة والمستقبلية وسلاسل الإمداد… من مناطق الأزمة إلى مناطق تبدو للوهلة الأولى أنها بمنأى عن بؤرة التوتر والصراع، لكن الوفورات السلبية للعولمة تتجلى ظاهرة في تداعي كل أعضاء المجتمع الدولي الحديث لحمى الاضطراب في أي عضو خاصة إذا تعددت صور التشابك والانفتاح بين هذا العضو وسائر الدول والمؤسسات.
الجنيه المصري الذي فقد جانبا كبيرا من قيمته أمام الدولار الأمريكي عند تحرير سعر الصرف (الجزئي أو المدار) الذي أقدمت عليه مصرفي نوفمبر 2016، ينتظره تخفيض جديد في قيمته تنبأت به مؤسسات متخصصة وعكسته على أرض الواقع حركة تدفقات رؤوس الأموال في أدوات الدين المصرية خلال الأشهر الماضية… حتى إنه تم رصد خروج نحو 1.19 مليار دولار من أدوات الدين المصرية خلال ثلاثة أيام فقط من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا! يلاحظ أن تأخر تخفيض العملة يمنح الأموال الساخنة فرصة ذهبية لتحقيق أرباح غير مبررة، نتيجة لتخارج المستثمرين من أدوات الدين بالجنيه المصري وتحويله الى الدولار بسعر منخفض نسبيا لا يعكس قيمته الحقيقية أمام الجنيه. أما التعجيل بتخفيض قيمة الجنيه خلال فترة ضعف السيولة بالبنوك وقبل امتصاص أثر التضخم جزئيا برفع أسعار الفائدة من شأنه أن يعرض الجنيه لتراجع كبير وغير منطقي في قيمته أمام العملات الرئيسة.
التجمعات الإقليمية القوية يمكن أن تثبت أمام تلك التحديات الاستثنائية بكفاءة أكبر من الدول المنفردة. تحقيق تلك التجمعات لقدر من الاكتفاء الذاتي والاحتياطيات المشتركة من المواد الخام ومواد الغذاء الأساسية، وتطوير نظم وآليات المدفوعات لتسوية التعاملات البينية، والتأكد من تكامل واتصال سلاسل الإمداد على نحو مستدام، من شأنه أن يخفف من التبعات الحادة لهذا النوع من الصدمات الاقتصادية التي باتت متكررة وعنيفة خلال السنوات القليلة الماضية.
التكامل العربي الشامل الذي تعثّرت كافة المساعي السابقة نحو تحقيق أي قدر معنوي منه، بوسع عدد محدود من الدول العربية أن تحققه في “بعض” الملفات الحيوية وفى مقدمتها ملف الأمن الغذائي العربي. المشروع العربي القاطرة هو الصورة التي أراها مناسبة لتحقيق ذلك التكامل، وما أشبه ذلك بتاريخ نشأة الاتحاد الأوروبي ذاته الذي تأسس من نواة اتحاد للصلب. لنفرض مثلا أن مشروع الاكتفاء الذاتي من القمح يقوم على عناصر الإنتاج الآتية:
الأرض بالطبع يقدمها شمال السودان الخصيب.
الأيدي العاملة (ماهرة وغير ماهرة) وخبرات الزراعة والنقل والتخزين توفرها مصر والسودان والعراق.
رأس المال المطلوب لميكنة العملية الزراعية وتطوير نظم الري وتوفير البذور المحسّنة… توفّره دول الخليج العربي ذات الفوائض البترولية التي تراكمت بشكل جيد خاصة خلال الصدمة النفطية الأخيرة التي صعدت بأسعار النفط لما فوق 120 دولارا للبرميل، بينما موازنات تلك الدول قد احتسبت سعر البرميل عند 45 دولارا تقريبا، بما يعني أن كل تلك الارتفاعات تمثل فائضا إضافيا لدخل تلك الدول.
أما التنظيم فيمكن لمصر وعدد من دول المغرب العربي أن توفّره بكفاءة.
هنا يتحقق التكامل العربي بصورة قابلة للتطبيق على أرض الواقع، والأهم من ذلك أن يكون المشروع مجردا من العاطفة والشعارات، وقائما على المنافع والمزايا المتبادلة. فدول الجنوب ومصدر الأرض والمواد الخام عادة ما تشعر بأنها تستغل من قبل الدول الأغنى، وتنتهب مواردها. وهي في حاجة إلى توطين الصناعات، وعدم تصدير المادة الخام بغير قيمة مضافة. لذا فمن المناسب أن تنشأ بالسودان مصانع لتعبئة الحبوب وإنتاج مختلف أنواع الأغذية التي تعتمد على الحبوب كمدخل للإنتاج. على أن تستفيد الدولة من خلق فرص العمل، وتطوير قدرات الإنتاج، ورفع معدلات النمو وتحقيق التنمية الشاملة، دون أن ينتقص ذلك من المزايا الكثيرة التي سوف تتحقق بالقطع لمختلف الدول المشاركة في المشروع.