في المقال السابق “عن الحرب” أوضحنا أن الحروب الحديثة ليست مجرد ممارسة جماعية للعنف والقتل والعدوان الهمجي. لكنها امتداد للسياسة بين الدول. وهذا يعني أنها صراع مشاريع فكرية وتوجهات ومصالح مدونة في وثائق استراتيجية تخضع لدراسات وأبحاث ومناقشات مكثفة في البرلمانات وأجهزة الاستخبارات ودوائر صنع القرار
هذا الفهم يعني أن تعبيرات مثل “حرب بوش” أو حرب بوتن” مجرد تعبيرات إعلامية تستخدم اسم الرئيس باعتباره المعبر النهائي عن قرار شاركت فيه مؤسسات كثيرة للدولة التي يحكمها. لهذا لا ينبغي مناقشة حالة مثل الحرب في أوكرانيا، باعتبارها لوثة شخصية أصابت ديكتاتور له مطامع توسعية فاستيقظ من النوم وفاجأ العالم بإعلان الحرب.
كما أن هذا الفهم يتجاهل حقيقة اسمها التاريخ والمسار السياسي للدول عبر اتفاقيات ومحادثات واختلافات وتعارض مصالح قد يصل إلى التصادم باللغة أو الإجراءات وصولا إلى استخدام السلاح، وبالطبع فإن دراسة التاريخ السابق على الصدام يعطينا فكرة عن أسباب الحرب: هل هي مقبولة بالقياس للمنطق الإنساني وأسس بناء الدول وقواعد المجتمع الدولي الحديث؟ أم أنها مجرد ذرائع ملفقة للتوسع والاعتداء على الغير؟
المسار السياسي للصراع بين الدول هو الذي يفصل بين الحروب القديمة والحروب الحديثة بوصفها صراع بين الدول اتخذ مظهرا مسلحا نتيجة إخفاق المباحثات السياسية والجهود الدبلوماسية في حل مشاكل كبيرة تهدد سيادة وأمن إحدى الدول.
وبالتالي، يمكننا بناء موقفنا من أي صراع على أساس المرجعية العامة التي يحكتم إليها نظام العالم في مرحلة ما. وليس على أساس الانحيازات الفكرية أو الشخصية أو الانتماء العرقي أو الديني، وهذا ما نسعى للتعرف عليه معا في هذا المقال.
أين الحقيقة؟
يشن الإعلام الغربي حملة عنيفة ضد بوتن وكل ما هو روسي، ويمتدح إجراءات تتعارض مع قيم العولمة الرأسمالية، فلا الاقتصاد صار حرا حسب شروط السوق ولا كل مستثمر يمكن أن تدعه يمر. لأن المرور صار مشروطا بجنسية وهوية، والعقوبات والمصادرات وإتلاف الأموال الخاصة صارت سلوكا شائعا في دول طالما تحدثت عن ضمانات للملكية الفردية وفصل الرياضة عن السياسة. فماذا فعل بوتن؟ وماذا فعلت روسيا؟
الإجابة الغربية المعلنة باختصار تتحدث عن غزو عسكري يمتهن سيادة دولة مستقلة. بينما إجابة روسيا تتحدث عن حقها في الدفاع عن أمنها القومي وحماية أقليات ومناطق حكم ذاتي حليفة لها. وتبالغ أكثر فتتحدث عن إبادة جماعية وأفكار نازية وخيانة للتاريخ والمعاهداتمما يستوجب تطهير أوكرانيا من دنس السلاح الغربي وقطع خيط اتصالها بالناتو.. إلخ.
إذا أردنا الاقتراب من الحقيقة فليس علينا أن نسمع أسباب كل طرف ثم نختار واحدا نؤيده والآخر نعاديه. لكن ندرس الحالة بالقياس للخبرات السابقة والقواعد المعمول بها والاتفاقات التي تنظم علاقات الدول المتصارعة وابدأ بالمشهد التالي:
في عام 2003 كانت أوكرانيا قريبة من روسيا ووقعت معها اتفاقية تعاون اقتصادي في معظم المجالات وذلك بعد 12 عاما من انفصالها عن الاتحاد السوفييتي بشروط منها عدم الانضمام للناتو وتفكيك قوتها النووية، وهكذا تحول الزوج السابق إلى صديق،
وفي الوقت نفسه كانت أوكرانيا قد أقامت علاقات دافئة مع الغرب أغمضت روسيا عينها عنها، حتى عندما تحمست كييف للانضمام إلى التحالف الأمريكي لغزو العراق وشاركت بثالث أكبر قوة في تجربة تدير بلد مستقل بذريعة خطورته على العالم. بينما كانت روسيا تتمنى السلامة لصدام حسين ونظامه!
لكن في العام التالي أظهرت أوكرانيا جفاء للطليق مفضلة العشيق، وحدثت في خريف 2004 أزمة الاعتراض على نتيجة الانتخابات (الديموقراطية!) التي نجح فيها رئيس روسي الهوى يراعي الود القديم، فاندلعت “الثورة البرتقالية” التي أطاحت بالرفيق يانكوفيتش وجاءت بمستر يوشتشينكو عن طريق انتخابات نزيهة بإشراف دولي نجح فيها الرئيس الموالي للغرب بنسبة 52%، وهي نسبة تعبر عن انقسام ومراوحة ظلت مستمرة لأكثر من 10 سنوات بين “شينكو” و”فيتش” نجاحا وسقوطا، تزويرا ونزاهة، روسيا والغرب، رئاسة وخلع، حكم وهروب.
واعتبرت موسكو أن هروب يانكوفيتش إليها بعد مظاهرات 2014 بمثابة انقلاب دموي على الرئيس الشرعي، وبعد تهديدات ساخنة تدخلت عسكري الاستعادة القرم والسيطرة على أطراف في الجانب الشرقي بدلا من السيطرة السابقة على أوكرانيا كلها.
لماذا تصمت روسيا ومتى تتحرك؟
تؤمن روسيا أنها “الوريث القانوني” للاتحاد السوفيتي. لكن الحالة التي انتهى بها الاتحاد كانت بائسة جدًا. وبالتالي، تنازلت موسكو بشكل سريع ومهين، بدون شروط ولا تعويضات عن قواعدها العسكرية في أوروبا الشرقية، وأغلقت دكان المد الشيوعي وهجرت الحلفاء الأيديولوجيين في كوبا وفيتنام ولاوس وأفغانستان واليمن وشارع كريم الدولة، وانكفأت على نفسها في حالة انكماش وصل بها إلى الإفلاس في نهاية القرن الماضي، فطلبت من صندوق النقد الدولي جدولة ديونها، ونجحت بعد عقد من الهوانفي ترميم ذاتها الجريحة، وخلال ذلك العقد في التسعينيات رولت للتقارب مع الغرب، واتبعت سياسة وديعة تريد أن تصبح فيها جزء من الأسرة الدولية تحت راية واشنطن.
واستمرت هذه السياسة في فترة حكومة بريماكوف والفترة الأولى من حكم بوتن الذي فتح البلاد للاستثمارت الأوروبية والأمريكية، وأظهر الكثير من الود والتعاون حتى كاد يعلق صورة آدم سميث في الكرملين، وفي فترته الثانية بدأت روسيا تسترد عافيتها وتنظر حولها، فرأت الصواريخ الأمريكية تحيط بها، والكتلة الشرقية التي فرطت فيها (أو أُجبرت على التنازل عنها) قد تحولت إلى منصة سلاح لحلف الناتو، لذلك تغيرت نظرة بوتن وتصريحاته (وتعلم الجفا) وقبيل انتهاء ولايته الثانية صاغ نظرته الجديدة في الكلمة التي ألقاها في مؤتمر ميونيخ للسلام والأمن عام 2007 وهي الكلمة التي صدمت الغرب وأعادت الحرب الباردة مجددا، لأن بوتن أعلن بشكل صريح عدم قبول الهيمنة الأمريكية على العالم ورفض توسعات الناتو في أوروبا الشرقية.
وفي العام التالي بدأ تطبيق ما ورد في خطابه حيث تحركت الدبابات الروسية خارج أراضيها لتحسم النزاع بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية وتضع حدا للرئيس الجورجي الموالي للغرب (ساكشفيلي)، ولم يتصدى الغرب لروسيا تاركا ساكشفيلي يواجه الأزمة بنفسه، والخصوم يتحدثون عن خذلان أمريكا لحلفائها عندما تقع الواقعة. لكن أمريكا لا تنفق دولارا ولا تتحرك خطوة من أجل حماية أي حليف سقط. لكنها تنفق وتتحرك من أجل خطط ومصالح استراتيجية تخصها. لذلك تحركت بعد فترة لحصار الروس في أوكرانيا، حسب نظرية التخوم، أي أكل الدول من أطرافها والسعي لإضعاف الداخل عن طريق دعم الخلافات الداخلية عرقيا وثقافيا وتشجيع جماعات سياسية تتبني الفهم الأمريكي للسياسة بأجنحته القوية في الاقتصاد والفن والمنظمات المدنية. وهو ظاهر طيب لأغراض تشبه حيلة “حصان طروادة”.
هكذا اشتعلت النيران في آتون الصراع بين روسيا والغرب من عام 2007 وحتى خريف 2013 الذي انتهى بإطاحة ثانية ليانكوفيتش بسبب عدم قدرته على تمرير اتفاقية تعاون بلاده الرسمي مع الاتحاد الاوروبي، حرصا على عدم اختلال المعادلة مع موسكو، وبعد فرار ارئيس الأوكراني إلى روسيا تدخلت عسكريا لضم القرم ودعم القوميين الروس من سكان دونباس وإجراء استفتاء أوضح أن 96% يؤيدون الانفصال عن أوكرانيا والانضمام لروسيا (سهلة خالص حكاية تصنيع الاستفتاءات)، وتوقف الصراع عند هذه النقطة باتفاقية مينسك التي ظلت حبرا على ورق برغم شراكة دول أوروبية كبرى مثل فرنسا وألمانيا.
وبرغم وجود أصوات داخل الكونجرس الأمريكي نفسه تتحدث علنا عن حق روسيا في التدخل العسكري لحماية محيطها الجغرافي والأمني. وهو ما يتردد هذه الأيام في برلمانات أوروبية وتصريحات لسياسيين من الغرب. لكن يتم التعتيم عليه من إعلام يقدم وجهة نظر واحدة بكثافة ويتغافل عن دور الغرب في إثارة الصراع عبر سياسة توسعية تهدد أمن الامبراطوريات المنافسة في الشرق، وحسب تعبير جنرال الحرب الأمريكي الشهير جورج بوتن، فإن حديث السياسة والمفاوضات له وقت ثم يفقد صلاحيته وتأثيره، وعندها نسمع أغنية “سكت الكلام والبندقية اتكلمت”، أو حسب قواعد باتون الشهيرة: عندما يأتي موعد الحرب، لا تتأخر، أضرب أولًا واجعل ضرباتك موجعة، ولا تتكلم… اضرب، فأصوات القذائف مفهومة أكثر من أي كلام.
الموقف المسكوت عنه للغرب
عندما ذكرت على عجالة مثال مشاركة أوكرانيا بقوة كبيرة في الحرب الغربية ضد العراق، كنت أمهد للحديث عن مبدأ كلاسيكي في السياسة اسمه “حق المعاملة بالمثل”، وأمهد أيضا للاحتكام إلى المبادئ التي أقرها الغرب بنفسه ومنها مبادئ مونرو الأربعة، التي أكد الرئيس الأمريكي جيمس مونرو أنها الحد الفاصل بين قواعد العالم الاستعماري القديم وقواعد النظام الجديد للعالم، وتتضمن “عقيدة مونرو” الالتزام بعدم تدخل الولايات المتحدة في الصراعات والحروب الأوروبية والشؤون الداخلية للدول في مقابل عدم تدخل أوروبا في الأمريكتين أو استعادة مستعمراتها القديمة، مع موافقة أمريكا على بقاء بعض المستعمرات التي تحتفظ بها الدول الاستعمارية القديمة خاصة بريطانيا وفرنسا، وظلت عقيدة مونرو المرجعية الرسمية للسياسة الأمريكية في القرنين 19 و20 مع تجاوزات يتم تمريرها بدهاء من غير إسقاط العقيدة التي تنص صراحة على توصيف أي محاولة عسكرية للتدخل في الأمريكتين بأنها عمل عدائي ضد الولايات المتحدة، يستوجب الرد عليه بحسم.
فمن غير المقبول أن تقترب القوة العسكرية الأوروبية من الفناء الخلفي في أمريكا اللاتينية. وبالتالي لا تسمح عقيدة مونرو لأمريكا من التحرك العسكري في شرق اوروبا، أسوة بموقف واشنطن الرافضلمحاولة القيصر الروسي الكسندر الاقتراب من المحيط الغربي لأمريكا والتواجد في ألاسكا، والتي انتهت الأزمة ببيع روسيا للولاية الجليدية التي لا ترتبط بحدودها البرية مقابل أقل من 7 ملايين دولار.
وفي فترة روزفلت لوح باستخدام “العصا الغليظة” لمواجهة الدول الأوروبية التي تسعى للتدخل في الجوار اللاتيني بحجة تحصيل ديون قديمة لها هناك، وعلى مدى عقود طويلة كانت أمريكا تتحرك عسكريا في فنائها الخلفي باعتباره حق أمني لها، حتى صارت خلع الأنظمة المعارضة لأمريكا سلوك طبيعي في قارة الانقلابات والتصنيع الأمريكي السافر لأنظمة موالية لسياستها، ما أدى إى أزمة خليج الخنازير في كوبا، والتي وصلت إلى حد التلويح بحرب نووية بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكانت عقيدة مونرو هي المرجعية التي انطلق منها كيندي في حصار كوبا والتهديد باحتلالها عسكريا لإزالة منصات الصواريخ الروسية القريبة من الحدود الأمريكية، وهو المطلب الجوهري هذه الأيام في طلبات موسكو التي ترفع سعار “اسحب اسلحتك إلى بيتك ولا ترفعها في وجهي”.
في أزمة كوبا سحبت موسكو صواريخها مقابل تعهد أمريكا بعدم الاعتداء على كوبا، لكن واشنطن ترفض سحب أسلحتها أو تطبيق ما سمي منذ عقود اتفاقيات الحد من التسلح في هذه المنطقة الملتهبة بين الشرق والغرب، وهي الخطوة التي اقدمت عليها موسكو مجانا في تنازلها عن حلفائها القدامى في كوبا وفنزويلا وجمهوريات اشتراكية صغيرة في المحيط الجغرافي لأمريكا، لكن الرد بالمثل قد يؤدي إلى تفكير روسيا في التحرش الجغرافي ودعم أنظمة معادية لأمريكا في نصف الكرة الغربي، وهذا ما حذر منه مسؤولين امنيين ونواب أمريكان منهم جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق ووزير الخارجية السابق تيلرسون والنائب ذي الميول الاشتراكية القديمة بيرني ساندرز، وترامب نفسه الذي أعاد عقيدة مونرو إلى واجهة السياسة الأمريكية لمنع الصين وروسيا من الزحف الأيديولوجي والسياسي والتجاري في محيطها الجغرافي ودعم الديكتتوريات هناك حسب وصفه.
ولعل تساؤل ساندرز الافتراضي في الكونجرس يعبر عن أخلاقية مبدأ التعامل بالمثل حتى لا نعاقب اللص الضعيف ونكافيء اللص العنيف، يقول ساندرز للسيناتورز: إذا دخلت المكسيك أو كويا أو إحدى جمهوريات أمريكا اللاتينية في تحالف عسكري مع خصوم للولايات المتحدة، فهل يقبل أعضاء هذا المؤتمر بحجة أن المكسيك دولة مستقلة وصاحبة سيادة على قرارها وارضها؟ أشك كثيرا في ذلك، ولهذا أطلب التنبيه لتصحيح ما يحدث من جانبنا في أوكرانيا.
كان هذا قبل تدخل بوتن بالفعل في فبراير الماضي، وبعد التدخل اضطر ساندرز لإدانة بوتن ولكن من غير أن يتنازل عن فكرته الرئيسية التي تستند إلى مباديء جيمس مونرو، على كل حال القصة طويلة ومليئة بالتفاصيل والأغراض الحفية التى تتخفى تحت غطاء من الشعارات الديماجوجية والإجراءات الأحادية التي تكشف حجم التناقضات الخطيرة داخل النظام العالمي المهيمن، ولهذا سنواصل في مقال تال الحديث في جانب آخر من قصة الصراع بين الشرق والغرب في نسخته الأوكرانية.
فإلى لقاء…