في 26 ديسمبر 1991، توارى الاتحاد السوفيتي في صفحات التاريخ. بعد توقيع بوريس يلتسن على اتفاقية حل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. عندها، تناثرت أوراق الدومينو. سقط جدار برلين، ثم توالى رحيل البلدان من خيوط الشيوعية تمامًا. رغم العاصفة التي أدت إلى عالم أحادي القطب. رحل بوريس يلتسن -الذي فقدت السلطة هيبتها في عهده- وظهر من النظام القديم فلاديمير بوتين. الذي لم يكتفي بسلطة كاسحة في روسيا فحسب. بل عاد يسعى للمجد السوفيتي كاملًا.
أمّا الشرق الأوسط، فقد أكثر من ثلاثين عامًا بعد انهيار السوفييت حتى يتخلص -بشكل مؤقت- من فكرة اتباع السلطة أينما ذهبت. كعادة المنطقة التي كان أهلها يتقاتلون كثيرًا، وتبنى دولهم فوق أنقاض بعضها. اشتعل الأمر، بعد أن أشعل بائع تونسي نفسه، في حريق أشعل العديد من الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط. وأغرق الآخرين في الفوضى.
في الوقت ذاته، أعطت تلك الفوضى فرصة لإيران -الغريم التقليدي للخليج العربي- لتوسيع نطاق نفوذها عبر المنطقة. لا سيما في العراق ولبنان واليمن. بينما زادت الصين وروسيا وتركيا ودول الخليج من نفوذها على العديد من أضعف دول المنطقة. بفضل هذه الاتجاهات جزئياً، عاد نظام الرئيس بشار الأسد الوحشي في سوريا بهدوء إلى الحظيرة العربية. مع احتفاظه بدعم لا محدود من روسيا، التي أعلنت عن قوتها من جديد.
اقرأ أيضا: إعادة إحياء الربيع العربي غير ممكنة الآن
تعلمت الدول الناجية من الفوضى، مثل مصر وتونس. أن تأخذ حذرها من الاحتجاجات، عبر إعادة السلطة إلى قوتها بشكل ربما كان أكثر سطوة. باعتبارهما أول العابرين. بينما سادت حملات قمع وحشية، انتهت بنزاعات أهلية في ليبيا وسوريا واليمن. ومزيج من القمع والاستقطاب في دول أخرى شهدت حركات احتجاجية طفيفة أمام أنظمة ملكية مثل الأردن والمغرب، هذه تم إنهاؤها سريعًا.
على الجانب الآخر من البحر الأحمر تم قمع أولئك الذين انضموا إلى الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، وقدمت صدقات لكسب أولئك الذين يفكرون في القيام بذلك. كانت وعود البحرين بزيادة الوظائف والأجور في أوائل عام 2011. والهجوم اللاحق -المدعوم من السعودية- على المتظاهرين في المنامة مثالًا واضحًا. بعد أكثر من عقد، أوضح وليّ العهد السعودي أنه لا بديل عن نظام البيعة في المملكة.
صراعات طويلة الأمد
في مقاله “الديمقراطية في أزمة”، المنشور ضمن ملف الحرية في العالم عام 2018. أشار مايكل إبراموفيتز في مقاله في Freedom House. إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسع حملة القمع ضد خصومه. والتي بدأت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، تداخل ذلك مع التطهير الفوضوي وهجوم على الأقلية الكردية، الأمر الذي أدى بدوره إلى تأجيج التدخلات الدبلوماسية والعسكرية لتركيا في سوريا والعراق المجاورتين.
في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، أكد الحكام في المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر مصالحهم بطرق وصفها إبراموفيتز بأنها “متهورة”. وأدت إلى استمرار الصراعات طويلة الأمد في ليبيا واليمن. وشرعوا في محاولة مفاجئة لحصار قطر، التي يعتبرها الغرب مركزًا للتجارة الدولية ووسائل النقل.
وبينما لعبت خصمهم القمعي إيران، دورها في صراعات المنطقة. وأشرفت على شبكات الميليشيات التي امتدت من لبنان إلى أفغانستان. أضافت وعود الإصلاح من ولي عهد جديد قوي في المملكة العربية السعودية متغيرًا غير متوقع في منطقة قاومت منذ فترة طويلة مزيدًا من الانفتاح. لكن، التغييرات الاجتماعية والاقتصادية في المملكة ترافقت بدايتها مع مئات الاعتقالات التعسفية والتحركات العدوانية ضد المنافسين المحتملين. لا ميل لفتح النظام السياسي.
على حافة الهاوية
تلفت مها يحيى، مديرة مركز مالكولم كارنيجي بالشرق الأوسط. إلى مخاطر التحولات الجيوسياسية والأنظمة السلطوية غير المستقرة في المنطقة. ربما جاء هذا على هوى الإدارة الحالية في واشنطن -ومن قبلها إدارة ترامب- والتي عملت على تقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية الخارجية. مع الحفاظ على تركيز واشنطن طويل الأمد على مكافحة الإرهاب.
تقول يحيى في مقالها “الشرق الأوسط على حافة الهاوية مرة أخرى”، المنشور على Foreign Affairs.: أدى ذلك إلى الحد من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وجعل الولايات المتحدة أكثر تسامحًا مع الشركاء المستبدين. طالما أنهم يدعمون أولوياتها الرئيسية. كما أنها فتحت الباب أمام نشاط إقليمي أكبر من قبل الصين وروسيا والقوى الإقليمية مثل إيران والسعودية وتركيا ودول الخليج. وكلها تتصور أن مصالحها القومية تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها.
قبل سكان الدول التي لم تمزقها النزاعات على مضض الازدهار الاقتصادي بدلاً من الحرية السياسية. التي خرجوا إلى الشوارع من أجلها ذات يوم. لكن، بينما تقوم الحكومات في المنطقة بقمع حقوق الإنسان وتقويض الديمقراطية. لا تستطيع أن تقدم سوى القليل من الوظائف أو الفرص الاقتصادية الأخرى في المقابل.
حتى مع أسعار النفط نتيجة للحرب في أوكرانيا -ما أدى إلى تحسن التوقعات الاقتصادية قصيرة المدى لبعض الحكومات في الشرق الأوسط – لا يزال العديد من الآخرين يعانون من جائحة كوفيد 19. ويواجهون معوقات اقتصادية طويلة الأجل، بما في ذلك أزمة مناخية تلوح في الأفق.
اقرأ أيضًا: لماذا توقفت الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
الربيع السياسي
يُعزى الفضل المريب لمصطلح الربيع العربي إلى الكاتب والأكاديمي مارك لينش، الذي استخدمه لأول مرة في مقاله الاستنكاري “الربيع العربي لأوباما؟“. والمنشور بمجلة Foreign Policy في 6 يناير/تشرين الثاني 2011. مع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان لينش هو -في الواقع- أول شخص صاغ هذا المصطلح.
أشار جوشوا كيتنج -في المجلة نفسها- في وقت لاحق من نفس العام إلى أن المصطلح ربما استخدم من قبل المعلقين المحافظين الأمريكيين في عام 2005 لشرح التحركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو الديمقراطية. وعلى الأخص الاحتجاجات اللبنانية لطرد القوات السورية من بلادهم، بعد اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري.
هناك آراء أخرى ترجح أن يكون الصحفيون والمحللون السياسيون الذين استخدموا مصطلح “الربيع العربي” لأول مرة في تلك الأيام العصيبة من أوائل عام 2011. قد فعلوا ذلك كإشارة إلى “ربيع براج”، والذي عنى سنوات من الاضطرابات السياسية الجماهيرية في الغرب.
الشتاء العربي
كانت السنوات التي تلت الانتفاضات العربية في 2011 مخيبة للآمال لأنصار الديمقراطية. لم تقتصر الحرب الأهلية على ليبيا وسوريا واليمن فحسب. بل فضلت الحكومات التي ظلت مستقرة في الغالب جانب القمع والمراقبة على أعمال الإصلاح. بينما لا يزال الكثيرون يستخدمون جائحة كوفيد 19 كذريعة لفرض حظر التجول. والقيود على الحركة، والمراقبة المشددة.
تلفت مديرة مركز مالكولم كارنيجي بالشرق الأوسط إلى أنه في الجزائر، والبحرين، ومصر. والأردن، والمغرب، وعمان، والمملكة العربية السعودية. والسودان، وتونس، وغيرها، قيدت الحكومات الحريات الأساسية وقمعت المجتمع المدني. سجنت العديد من الدول مدافعين عن حقوق الإنسان، وسحب بعضها -مثل البحرين – جنسية منتقدي الحكومة. بينما استخدمت الإمارات تطبيق المراسلة ToTok للتجسس على ملايين الأشخاص.
تحولات الاستبداد وإحلال القوى
في العام الماضي، أثارت تحولات في بلدين تساؤلات حول قصص النجاح الوحيدة المتبقية في المنطقة. في يوليو/ تموز، علّق رئيس الجمهورية قيس سعيد البرلمان. وأقال رئيس الوزراء، وأعلن أنه سيحكم بمرسوم. كما أمر باعتقال نواب وصحفيين انتقدوا أفعاله.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول، قام قائد الجيش في السودان، اللواء عبد الفتاح البرهان. بالاستيلاء على السلطة بشكل مماثل، حيث علق الحكومة الانتقالية في البلاد. وعين حكومة جديدة، ومنح الأجهزة الأمنية سلطات طوارئ جديدة. لمطاردة السودانيين الذين يقاومون الحكم العسكري.
تعزز هذا الاتجاه نحو الاستبداد بفك ارتباط الولايات المتحدة التدريجي بالشرق الأوسط. على مدى العقد الماضي، تركت واشنطن أهدافها الموسعة المتمثلة في إرساء الديمقراطية والتحول الإقليمي على جانب الطريق. واستبدالها بمجموعة أكثر تواضعًا من الأولويات.
الآن تسعى أمريكا إلى ضمان الاستقرار الإقليمي، ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي، ومكافحة الإرهاب. لقد منح الوجود المتناقص للولايات المتحدة في المنطقة القوى الإقليمية مساحة أكبر لمتابعة مصالحها، والتي أعطت الأولوية لبقائها على رفاهية شعوبها.
مع انسحاب واشنطن، تحركت روسيا والصين أيضًا لملء بعض الفراغ. ليتحول الشرق الأوسط إلى ساحة منافسة بين القوى العظمى. أصبحت موسكو متورطة بشدة في الصراع السوري على وجه الخصوص، أبقت على عرش الأسد وحققت نتائج دبلوماسية وعسكرية مهمة بتكلفة منخفضة نسبيًا.
كذلك زاد النفوذ الروسي على أجزاء أخرى من العالم العربي -خاصة شمال أفريقيا- حيث استخدمت صفقات الأسلحة والمرتزقة لتعزيز مصالحها. حولت الحرب في أوكرانيا تركيز موسكو إلى حدودها. لكن سيكون من السابق لأوانه توقع حتى من روسيا -التي تعاني من ضغوط عسكرية ومعزولة دوليًا- أن تدير ظهرها للشرق الأوسط.