سعى الحزب المصري الديمقراطي، منذ الخطوات الأولى لتأسيسه في غمار ثورة 25 يناير حتى اكتماله في يوليو 2011، إلى بناء مجال سیاسي شرعيٍّ آمِن ومستقرٍّ، يسمح بتداول السُّلطة على المدى الطويل بين أطرافه المختلفة. وكانت قناعة الحزب الراسخة منذ بداياته أنَّ تَوَفُّرَ مثل هذا المجال يعتبر خطوة كبيرة في اتجاه بناء دولة مدنية ديموقراطية حديثة.
لقد شهِدَت مصر -ولعقود طويلة سبَقَت ثورة 25 يناير- غيابًا كاملًا لأي مجالٍ سياسيٍّ واضح المعالم، وحياة سياسيَّة تُبنَى على التَّعدُّديَّة، ولعلَّ هذا -من بين أسباب أخرى كثيرة- يُفسِّر عدم تحقيق ما كانت تصبو إليه الثورة من آمال وتطلُّعات جِدُّ كبيرة.
نعم، لقد كان غياب حياة سياسية بالمعنى الحقيقي، وعنوانه الكبير وجود أحزاب قوية، ذات ثِقَلٍ جماهيري تحترم الدستور الذي ينظِّم قواعد تداول السُّلطة، ويضع الحدود اللازمة في ممارستها على كلِّ مَن يتولَّاها لكي لا يسيء إلى مصر وشعبها وحقوقه، كان غيابها لعقود طويلة سبقت ثورة 25 يناير، ضمن الأسباب الكبيرة التي أدَّت لانفجارها العفوي، وعدم تبَلْوُر قيادة سياسية ثورية لها، ومن ثَمَّ إلى تَشتُّت قواها، وتَمكُّن جماعة الاخوان وحلفائها من الاستيلاء على السُّلطة؛ ما استلزمه إزاحة خطرهم الوبيل وضررهم الجسيم عنها من دماء أُريقَت، واقتصادٍ كاد أن يصل إلى مرحلة الانهيار، وغيابٍ عن المجال الإقليمي عانت مصر من جَرَّائه، ولا زالت تعاني، وأخيرًا بأن ضررهم الأهم هو الحيلولة دون تحقيق ما كانت تصبو إليه الثورة من آمال وتطلُّعات كبيرة.
إن غياب أو ضَعْف الأحزاب السياسية يؤدِّي في النهاية إلى انفراد الأجهزة والمؤسَّسات الأمنية، وكذا أجهزة الدولة البيرقراطيَّة، و تَحمُّلِها وحدها بما لا طاقة لها به، وما لم تُعَدَّ أصلًا من أجل القيام به؛ ونعني بذلك إدارة الحياة السياسية، وهو أمر من شأنه أن يشيع الفساد والانتهازيَّة والتواكليَّة لدى المواطنين، وربَّما يُضعِف من قُدرَة هذه الأجهزة والمؤسَّسات في القيام بالدور الذي يُفتَرَض بها القيام به أصلًا، بخلاف ما ينجم عنه من آثار سلبية أخرى، من أهمها: إنتاج مراكز قوى تضرُّ بالنظام نفسه.
بدأت الحوارات لتأسيس حزبنا، الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، مُبكِّرًا، حيث كان الميدان لا یزال مشتعلًا في الفترة ما بين شهرَيْ فبراير ومارس 2011، وتُوِّجَت هذه الحوارات بمؤتمرٍ ما قبل تأسيسيٍّ في 18 مارس 2011 بنقابة الصحفيِّين، وبدأنا بعد ذلك مباشرة في رحلة جمع خمسة آلاف توكيل بعد افتتاح أول مقرٍّللحزب في نهاية مارس، ونجحنا بالفعل في أن نكون من أوائل الأحزاب التي أُسِّسَت عقب الثورة، في يوليو 2011.
اقرأ أيضًا: الخروج من النفق المظلم.. “دام” يقدم 15 توصية لإنهاء الأزمة بين الدولة والمجتمع المدني
في ذلك الوقت كان هناك اتجاه كبير -ولا نبالغ عندما نقول اتجاهًا سائدًا- داخل الميدان يرى أن تأسيس الأحزاب خطأ، إنْ لم يكن جريمة؛ فهو تَفتيتٌ لقوى الميدان، وينحرف بالثورة عن مسارها وأهدافها، وراجت في هذا الوقت عبارة “إحنا عايزين نشتغل ثورة مش سياسة”!، وكأنَّ العمل الثوري ليس عملًا سیاسيًّا، أو كأنَّ العمل السياسي هو بالضرورة عملٌ غير ثوري!
عقب تأسيس الحزب بشهور جاءت الانتخابات البرلمانية (2012) فقرَّر الحزب خوض هذه الانتخابات، فإذا بهذا الاتجاه “الثوري” الغالب نفسِه يكيل لنا الاتهامات، ويعلن أن “الثورة في الميدان مش في البرلمان”، وهكذا توالت الأحداث والمنعطفات العديدة التي رَسَمَت منذ الأيام الأولى للثورة مسارين، الأول: مسار المشاركة، ونعني بذلك مَثَلًا المشاركة في أي حوار سیاسي مع الأطراف كافَّة، وكذا المشاركة في أي انتخابات استطعنا المشاركة فيها، وأخيرًا المشاركة -أو الإسهام- في بناء التحالفات السياسية والانتخابية، وفقًا لمبدأ البناء على ما هو مشترك ومُتَّفَقٌ عليه، وأن نعذر بعضنا البعض فيما يُعتَبَر موضِعَ خِلافٍ، والاستمرار بالتحالُفات بمنطق التوافُق، أما المسار الثاني فيمكننا فيما بيننا أن نطلق عليه مسار المقاطعة، وتعني بذلك مقاطعة أي حوارات وانتخابات (أو بعضها على الأقل) من خلال وضع شروط مستحيلة، والدخول في التحالُفات بمنطق فرض وجهة نظر بعينها وفرض منطق الأغلبيَّة والأقلِّيَّة في إدارة التحالُفات السياسية.
اللافت أن أغلب المشاركين في الثورة والمهتمِّين بالشأن السياسي لم ينخرطوا أصلًا في أي عمل جماعي مُنظَّم! لا وفقًا لمسار المشاركة ولا حتى وفقًا لمسار المقاطعة، وهذا الإصرار على العمل الفردي كرَّس الإحساس باليأس وعدم الجدوى، وأشاع أساليبَ فوضويَّة وغير مسؤولة في العمل السياسي، وينبغي الإشارة هنا أيضًا إلى أن انصراف الناس عن المشاركة في العمل الجماعي المنظَّم بصفةٍ عامَّة والعمل السياسي بصفة خاصَّة يرجع في جانب كبير منه إلى السياسات والإجراءات التي اتَّخذها النظام وخلَقَت مناخًا من الخوف وعدم الأمان لدى كل مَن يرغب في المشاركة فضلا عن الجهد الهائل الذي بذله الإعلام وأنصار النظام في شيطنة السياسة والسياسيِّين.
لقد اختار حزبنا مسار العمل الجماعي المنظَّم، وفي القلب منه طريق الحوار والمشاركة؛ لأننا حزبٌ يسعی إلى تغيير الأوضاع من خلال عملية إصلاحيَّة من المتوقَّع أن تمتدَّ لسنوات طويلة، وقد رفضنا منذ البداية -بداية الثورة- التصوُّرات التي كانت تذهب إلى أن 25 يناير ستنتهي إلى جنَّةٍ على الأرض، واعتبرنا أن مشاركتنا في إسقاط نظام “مبارك- التوريثي” هو خطوة على طريق الإصلاح المنشود، واعتبرنا أن مشاركتنا في إسقاط نظام الإخوان هو خطوة أيضًا في نفس الاتجاه… وبنفس المنطق فإن مواقف الحزب ومشاركاته يمكننا أن نفسِّرها بأنها خطواتٌ في اتجاه إصلاح الأوضاع، أو بتعبيرٍ أكثر دقَّة: خطوات في اتجاه بناء دولة ديمقراطيَّة مدنيَّة حديثة، وهو أمرٌ تؤكِّده مواقفنا من ملفِّ الحريات، وكذا مواقفنا من أولويات الإنفاق الحكومي وتدَنِّي مستوى معيشة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وهو أمر تؤكِّده أيضًا المشاركات المتعدِّدة في الاستحقاقات الانتخابية والحوارات و(أو) التحالفات التي شارك فيها الحزب مع ما يمكن وصفه بقوى وأطراف تحالُف 6/30.
اقرأ أيضًا: من أين نبدأ عام المجتمع المدني 2022.. ورقة سياسات جديدة من “دام”
لقد وضَعَت 6/30 المشهد السياسي المصري في مفترق طُرُقٍ تاریخيٍّ، حيث اصطفَّ على جانِبَيْ الحياة السياسية في مصر: الإخوان وحلفاؤهم ومَن لَفَّ لَفَّهم في جانب، والقوى الديمقراطية والمدنية و”الدَّولتيَّة في جانب آخر، حيث اتَّضح من خلال الفترة الوجيزة التي قضاها الإخوان في السُّلطة أننا إزاء مشروع له ارتباطاتٌ إقليميَّة ودوليَّة ضارَّة بمصالح مصر واستقلالها واستقرارها، بالإضافة إلى أنه بدا واضحًا أن الإخوان قد تحوَّلوا من حزبٍ أو جماعة سياسيَّة إلى طائفةٍ “تسعى إلى تغيير هويَّة الدولة والوطن”، وتحاول فرضَ هيمنة “الإخوان” أو “الطائفة الإخوانيَّة”، حيث أصبح الإخوان وكأنهم مذهبٌ أو عِرقٌ أو دين يتمتَّع مُعتَنقوه أو أبناؤه بأفضليَّة المواطن “الدرجة أولى”، فيما يصبح أبناء الشعب “العاديُّون” بعد ذلك “مواطنين درجة ثانية أو ثالثة”!
رفع تحالف6/ 30 شعار بناء دولة ديمقراطية مدنيَّة حديثة في ظل أجواء من التفاؤل عندما اجتمعت تحت راية واحدة قوى وأطراف شديدة التنوُّع، في مشهدٍ بدا وكأنه يفتح عهدًا جديدًا، بالذات بعد أن بَدَت أول حكومة بعد 6/30 وكأنها حكومة ائتلافيَّة؛ إذ رأَسَها د. حازم الببلاوي، وتولَّی حقائب وزاريَّة بها د. حسام عيسی و د. زیاد بهاء الدين وأ. كمال أبو عيطة…. إلى آخر هذه المجموعة من رموز القوى الديموقراطية، إلى جوار شخصيات ورموز أخرى مثَّلَت ما يمكن وصفه بمؤسَّسات وأجهزة الدولة.
يمكننا القول الآن، وبعد مرور حوالي 9 سنوات على 6/30، إن الرياح جَرَت بما لا تشتهيه السُّفُن، أو على الأقل سُفُن معظم القوى السياسية الديموقراطية التي شارَكَت في ذلك التحالُف؛ إذ سرعان ما استعادت ما أُطلِقَ عليه قوى الدولة العميقة عافِيَتَها، وراحت بعد الإطاحة بسيناريو التوريث تعيد إنتاج نفس النظام السابق مع بعض الرتوش والتعديلات الجزئية.
إننا لا ندعو إلى استعادة “تحالُف” قد تكون مُدَّتُه ووظيفته من الناحية الواقعية والعملية قد انتهت، وإنما إلى استعادة مشهدٍ سیاسيٍّ يمكن أن ينتهي بنا إلى بناء مجالٍ سیاسيٍّ شرعيٍّ ورئیسي؛ ذلك أن جوهر الأزمة السياسية في مصر أن الأطراف الرئيسية في المشهد السياسي لم تتوصَّل فيما بينها إلى مُقوِّمات وأسس مشتركة نتمنى بناء تعايش انطلاقا منها ، ومثل هذا المجال يعتبر وجوده – وبوضوح – شرطًا أساسيًّا لأي تنمية سياسية مُمكِنَة.
في كل بلاد الدنيا التي سارت في طريق ديمقراطي يوجد مجالٌ عامٌّ، في القلب منه، وإلى جوار منظَّمات المجتمع المدني والنقابات وحركات الاحتجاج الاجتماعية: الأحزاب السياسية التي تُشكِّل ما يُعرَف بالمجال السياسي، وهذا المجال السياسي ينقسم بشكل عام إلى قوى وأحزاب غير شرعية لسبب أو آخر، وقوى وأحزاب أخرى شرعية تعمل في إطار الدستور والقانون، وفي القلب من هذا المجال السياسي الواسع والمتنوِّع جدًّا توجد مجموعة محدودة من القوى والأحزاب التي تُشكِّل ما يمكن أن نُسمِّيه المجال السياسي الرئيسي، فى الولايات المتحدة الأمريكية حزبان فقط رئيسيان يملآن معظم الفضاء السياسي الحزبي، ويتقاسمان المجالس النيابية وحدهما، ويتبادلان السُّلطة رغم دور مئات وربما آلاف الأحزاب الأخرى، وفي بلدان أوربية عديدة قد يصل عدد الأحزاب الشرعية الرئيسية إلى بضعة أو عِدَّة أحزاب، لكنها عادة لا تزيد عن نسبة ضئيلة للغاية من إجمالي عدد الأحزاب الشرعية.
في مصر لم تتفق أو تتوافق الأحزاب والقوى السياسية على ما يمكن وصفه بالمجال السياسي الشرعي الرئيسي الذي يمكن أن تتعايش أطرافه بدون تَناحُر، بحيث يمكنها أن تتداول السُّلطة فيما بينها دون خطر الانقلاب من وضعٍ إلى نقيضه عند كل عملية تغيير أو انتقال للسُّلطة من حزب إلى آخر، وهذا الوضع (عدم وجود مجال سیاسي شرعي رئیسي) يمكن وصفه بجوهر الأزمة السياسية في مصر، وهو وضع قائم ومُحتَقِن، رغم أن – وهنا سنعود مرةً أخرى إلى الوراء قليلًا- 6/30 كان من الممكن أن تعتبر أساسَ ما يمكن أن يبني عليه تأسيسُ مثل هذا المجال الشرعي الرئيسي القادر على الاستمرار بشؤون البلاد والاضطلاع بمهام التحوُّل الديمقراطي.
إن بناء مثل هذا المجال السياسي لا بُدَّ من أن يتِمَّ عبر حوارات سياسية طويلة تصقلها الممارسات السياسيَّة الدَّالَّة على طبيعه توجُّهات كل حزب، ويمكننا القول إن الأوان لم يَفُت بَعدُ، وأن بناء مثل هذا الحوار الآن من الممكن أن يُخفِّف من حِدَّة الاحتقان ويضع البلاد على طريق التحوُّل الديموقراطي، ونحن نرى أن هذا الطريق -في حال نجاح الحوارات ووصولها إلى توافُقات يمكن التعايُش على أساسها- سيكون طريقًا طويلًا وشاقًّا، ومليئًا بالعَقَبات والعراقيل، واحتمالات الرِّدَّة عنه أو الخروج منه واردة.
باختصار لا يوجد إلا ضمان واحد لنجاح هذه الخطوة: أن تتوافر إرادة سياسيَّة ناضجة وضوء أخضر واضح، أو بالأحرى موافقة صريحة من أجهزة ومؤسسات الدَّولة، بل دعونا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونقول إن هذه الأجهزة والمؤسسات تستطيع أن تلعب دورًا كبيرًا وحاسِمًا في إنجاح هذا الحوار من خلال تحقيق درجة ملموسة من الانفراج السياسي قبل وأثناء هذا الحوار، وبالذات ما يتعلَّق بالافراج عن المحبوسين السياسيين وفتح المجال الإعلامي.
وضع مصر على طريق الإصلاح السياسي يبدأ من بناء مجال سیاسي شرعيٍّ، وهذا ليس معناه نهاية للأزمة السياسية، وإنما معناه أننا قد اعترفنا بوجود أزمة سياسية، وأننا على طريق معالجة هذه الأزمة وإنهائها، وهذه الخطوة ليست ضروريَّةً للغاية فحسب، بل وهي مُمكِنة أيضًا بعد أن تحقَّقَت درجة ملموسة من الاستقرار الأمني، وإلى حدٍّ ما السياسي والاجتماعي أيضا خلال السنوات السبع السابقة، وبالذات فيما يتعلق بالمعركة ضد الإرهاب، ومن ناحية أخرى فإن الإصلاح السياسي المنشود ينبغي أن ينبع من الداخل وبإرادة الأحزاب والقوى السياسية المصرية في ظل ظروف دولية قد تضغط من أجل مسارات تغييرمختلفة قد تضرُّ بمصالحنا.
بناء على كل ما سبق فإننا ندعو لحوار وطني بين القوى والأطراف السياسية في المشهد السياسي، وفقًا لمعايير يُتَّفق عليها، ولا نستبعد بالأساس إلَّا قوى الإخوان وحُلفاءهم ومَن لَفَّ لَفَّهم من دعاة التَّطرُّف والإرهاب، وهي القوى الرئيسية التي تُشكِّل إجمالًا القوى السياسيَّة غير الشرعيَّة.
اقرأ أيضًا: “مصر بلا سجناء رأي”.. حملة جديدة لـ”دام” لإطلاق سراح المحبوسين
دعونا نسأل مرة أخرى، ما هي تحديدًا وظيفة هذا الحوار؟ أَهُوَ بِغَرَض بناء جبهة أو تحالُف سیاسي؟ بالتأكيد، وقولًا واحدًا: لا. نحن لا نريد من الحوار صيغة لـ “الائتلاف”، لكننا نريد صيغة لـ “التعايش”، وهو أمرٌ يُشكِّل حدًّا أدنی بكثير عمَّا يتطلَّبه الائتلاف. التعايش يتطلَّب الاتفاق على خطوط عريضة جدًّا، مثل عدم اللجوء للعنف أو الإرهاب، وهو أمر من الممكن أن تقبله أحزاب 6/30، ولكن بالتأكيد سيرفضه الإخوان وكلُّ دُعاة التغيير بالعنف.
أچندة هذه الحوارات من وجهة نظرنا هي:
1- الوضع الدولي والإقليمي والمخاطر الدولية والإقليمية.
2- التوجُّهات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
3- مَدنيَّة الدَّولة والتهديدات الأمنية والثقافية لقوى التَّطرُّف والإرهاب.
4- الحريات والتحوُّل الديموقراطي.
5- الإصلاح الإداري وتحديث البنية المؤسَّسيَّة لأجهزة ومؤسَّسات الدولة.
وهذه المحاور الخمسة يندرج تحتها كلُّ القضايا والتحديات المهمَّة التي تواجه المشتغلين بالسياسة سواء في دوائر السُّلطة أو المعارضة، فتحت المحور الأول يندرج تشخيص الوضع الدولي، وتحديد موقع مصر من الصراعات والاستقطابات الدولية في اللحظة الراهنة، كما يندرج أيضًا تحديد طبيعة الصراعات الإقليمية وموقع مصر فيها. أمَّا بخصوص المحور الثاني فيتضمَّن طبيعة التوجُّهات الاقتصادية القائمة والمقترحة وأولويات الإنفاق الحكومي على ضوء الاعتبارات الاجتماعية، إلخ… والمحور الثالث يتضمَّن مخاطر التطرُّف والإرهاب وتأثيرها المؤكَّد على هوية الدولة المدنيَّة وتغيير طبيعة الإنسان المصري، وإذكاء الرُّوح الطائفيَّة، كما يتضمَّن أيضًا الحفاظ على مدنية الدولة وحداثتها من حيث الإقرار بالمؤسَّسيَّة، والفصل بين السُّلطات، والحَوْكَمَة، إلخ… والمحور الرابع يتضمَّن ما يتعلَّق بخطوات الإصلاح الديموقراطي وتوفير الحريات الخاصة والعامَّة، بدءًا من حقِّ النشر والتعبير، وانتهاءً بحق الاجتماع السلمي، مرورًا بالحق في التنظيم. وأخيرًا، فإن المحور الخامس يتضمَّن كل ما يمكن تحديده من خطوات وخطط تستهدف الارتقاء بكفاءة الجهاز الإداري للدولة من خلال الأخذ بأساليب الإدارة الحديثة، والقضاء على البيروقراطيَّة ومكافحة الفساد.
في هذه المحاور الخمسة للأچندة المقترحة للحوار نعتقد أنه من الممكن الوصول إلى مساحة مشتركة للتعايُش يمكن أن تكون قاعدةً لإطلاق وانطلاق عملية تنمية سياسية شاملة.
مرَّة أخرى، نحن لا نقترح هنا حَلًّا سحريًّا أو ضربة قاضية فنية من الممكن أن تنقل مصر بين عشيَّةٍ وضُحاها إلى دولة مدنية ديموقراطية حديثة… نحن فقط نرى أن التصوُّر الذي نقدِّمه هنا هو خطوة أوِّليَّة، غاية ما نرجوه ونَنشُده هو أن تضع مصر على الطريق الذي يمكن أن يُفضي إلى وجود مثل هذه الدولة المنشودة بعد سنواتٍ لا نراها قصيرة، لكنها تتوقَّف في كل الأحوال على رغبة أطراف المشهد السياسي ومؤسَّسات الدولة، ومدى قناعاتهم بأن الأساليب التي اعتمدت في إدارة شؤون البلاد لعقود طويلة خَلَت لم تُفضِ بنا إلى ما نصبو إليه من تَقدُّم، بل على العكس، إعادة إنتاج نفس النظام، المرَّةَ تلو الأخرى، وإنْ تَغيَّرَ الأشخاص وبعض السِّمات أو الملامح الجزئية، وبينما تستمرُّ هذه العملية المرَّةَ تلو الأخرى تتزايد الهُوَّةُ بيننا وبين العالم، وفقًا للمؤشِّرات كافَّة منذ عدة عقود.
والسؤال الآن هو: هل يمكن للقوى الرئيسية في المشهد السياسي الراهن أن تتوافق على مساحة تعايُش يمكن البناء عليها وفقًا للأچندة المقترحة؟
الإجابة بالتأكيد، وبكلمة واحدة: نعم.
في المحور الأول: تتوافق الأحزاب الرئيسية على أن مصر عليها أن تنتهج سياسة خارجية متوازنة تسمح بعلاقات طيبة مع الأقطاب الكبرى في عالمنا، على نَحوٍ يحفظ لمصر استقلالها وابتعادها عن أي انحيازات تضرُّ بمصالحها وعلاقاتها بقُطبٍ أو أكثر من هذه الأقطاب، وتختلف بعد ذلك في مدى ما تُشكِّله هذه السياسة -أو هذا الموقف- من تَناغُم أو تعارُض مع هذا التَّوجُّه المتوازن. من ناحية أخرى؛ فإن الأحزاب الرئيسية كافَّةً ترى أن هناك مخاطر إقليمية مختلفة تتعرَّض لها مصر، منها ما يتعلق بمحاولات (قد تكون متعثِّرة الآن، وفقَدَت أهميتها إلى حدٍّ كبير) بناء حِلفٍ عثماني- إخواني في المنطقة، حيث كان من المفترض أن تخضع مصر لهيمنة هذا الحلف المدعوم من بعض الدوائر الغربية، وهذا الحلف بالتحديد تمتدُّ خطورته إلى تهديدٍ مباشر لبلادنا، من خلال القوى الموالية له في ليبيا وعلى حدود مصر مباشرة، وبصفة عامة تتَّفِق الأحزاب أيضًا على رفض سياسات الهيمنة والمحاوِر التي لا يخفيها اليمين الصهيوني؛ فهي ستؤدِّي إلى عزل مصر عن الشرق والخليج العربي والقرن الأفريقي. وأخيرًا، هناك المخاطر والتحديات الخاصة بالتَّعنُّت الإثيوبي بخصوص مفاوضات سد النهضة، حيث تتمسَّك هذه الأحزاب بحصَّة مصر من مياه النيل وفقًا لما حدَّدَته الاتفاقات الدولية المبرمة، كما تتمسَّك أيضًا بضرورة توفير ضمانات مُلزِمة لاستمرار تدفُّق هذه الحصَّة.
بخصوص المحور الثاني: تتوافق وتتفق الأحزاب السياسية الرئيسية على الأخذ بنظام السوق وصيانة حق الملكية الخاصَّة، إلى جوار ملكية الدولة والملكية التعاونيَّة، وإن اختلفت بعد ذلك حول دور كلٍّ من هذه القطاعات في التنمية، ويفترض أن تتمسَّك الأحزاب بنصوص الدستور فيما يتعلَّق بحصة التعليم والصحة من الناتج القومي، حيث يعتبر هذا المحور تحديدًا من أكثر -أو ربما أكثر- المَحاور التي تعتبر جوانبها المختلفة موضِعَ خلافٍ بين أطراف المشهد السياسي، وبالذات ما يتعلَّق بأولويات الإنفاق الحكومي والتشريعات الضريبية وأساليب الدعم واعتماداته المالية، إلخ…
في المحور الثالث: تعتبر مدنية الدولة ومُناهَضة قوى الإرهاب والتطرُّف من أهم الأمور التي تتوافق عليها الأحزاب الرئيسية، حيث إن مدنية الدولة في مواجهة مشروع الدولة الإخوانية يعتبر مرجعًا مُهمًّا وسَنَدًا رئیسيًّا للشرعية، ووجود هذه الأحزاب نفسها، حتى لو اختلفت بعد ذلك في تعريفها للتطرُّف أو فيما يمكن أن يعتبر ماسًّا بمدنية الدولة في عدد من الأمور.
بخصوص المحور الرابع: إن الأحزاب الرئيسية تتَّفق على ما ورد في الدستور بخصوص الحريات، وهو أكثر من كافٍ، لكنها تختلف كثيرًا جدًّا فيما بينها -بكل أسف-حول مدى التزام المُشرِّع وأجهزة الدولة بنصوص الدستور في هذا الصدد، وكذا حول دور أجهزة ومؤسسات الأمن في إدارة شؤون البلاد، لكن مجرد الاتفاق والتوافق حول الحوار المقترح نفسه بغرض الوصول إلى مُخرَجات يمكن البناء عليها هو أمرٌ سيكون إيجابيًّا للغاية في اتجاه حماية الحريات العامة والخاصة، والسير في اتجاه التحوُّل الديموقراطي، ويولي حزبنا اهتمامًا خاصًّا في هذا الصدد لإطلاق الحريات النقابية وتشجيع العمل التعاوني.
وأخيرًا، وبخصوص المحور الخامس: إن الأحزاب الرئيسية تتَّفق وتتوافق في ضرورات الإصلاح الإداري وأهميته، حتى وإن اختلفت حول أولوياته وكيفية القيام به.
الوصول إلى اتفاق وتوافُقٍ، وعبر حوار مُكثَّف رفيع المستوى، بين الأحزاب الرئيسية من الممكن أن يُرسي دعائمَ مجالٍ سیاسيٍّ شرعيٍّ رئيسيٍّ، ويقينًا، فإن هذا أمرٌ لا يمكن أن نقوم به إلا بالاستناد على خبرات السنوات الماضية، والتي أهدَرَت فيها الأطرافُ كافَّةً الفُرصةَ تلو الأخرى في بناء هذا المجال، وهذا الهدر المتكرِّر كان -ومن الممكن أن يظل- مسؤوليَّةَ كُلِّ الأطراف بدرجات متفاوتة، ونحن إذ نتقدَّم بهذا المقترح الآن فإننا بذلك إنما نحاول أن نبرئ ساحتنا من مسؤولية الاشتراك في هذا الهَدْر مُجدَّدًا، ونناشد كل الأطراف أن تكون على مستوى المسؤولية، وتتمتَّع بروحٍ تَجمَع بين التَّسامُح وسعة الأفق والحرص على مصلحة الوطن وتجاوز الخلافات الحزبية، وبصياغة أخرى، وباختصار: أن تكون على مستوى التحديات التي تواجهها مصر.