قبل أيام خرجت الحكومة بقرار يُحدد سعر بيع العيش الحر والفينو. وذلك للمرة الأولى منذ تسعينيات القرن الماضي. وبعد إلغاء دعم الرغيف الفينو والشامي. وهو ما يأتي بعد زيادات سعرية في أسعار الخبز الحر والفينو، قُدرت بين 25 إلى 50%.
وشمّل قرار التسعير الحكومي المنشور بالجريدة الرسمية برقم 21 في 20 مارس الجاري: “العيش المميز 72%، العيش الفينو”. وذكر أن هذه التسعيرة جاءت بعد دراسة أعدها جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.
وحدد القرار الحكومي، سعر رغيف العيش الحر بين 50 قرشًا لوزن 45 جرام، و75 قرشًا للرغيف وزن 65 جرام. بالإضافة إلى جنيه للرغيف وزن 90 جرام. أما سعر الرغيف الفينو وزن 40 جرام فحُدد بـ50 قرشًا، و75 قرشًا للرغيف وزن 60 جرام، وجنيه للرغيف وزن 80 جرام.
سبق هذا القرار بيومين، حديث لرئيس الجمهورية في لقاء متلفز، مع أحد ملاك المخابز الخاصة. وقد قدر تكلفة إنتاج الرغيف الحر بـ65 قرشًا. قال: “إحنا مش بندي الدقيق من وزارة التموين بالحصص سواء الخبز المدعم أو الخبز غير المدعم”.
وأجرى الرئيس عملية حسابية ذكر فيها: “لو أنا عندي مخبز بيطلع 10 آلاف رغيف، وبكسب في الرغيف 20 قرشًا، يبقى مكسبي 4 آلاف جنيه”.
لكن حقيقة الأمر، أن التكلفة الحقيقية لإنتاج الرغيف تختلف سواء عما قررته الحكومة، أو ما ذكره رئيس الجمهورية. ذلك لأن مكسب الـ10 آلاف رغيف سيكون ألفي جنيه فقط وليس 4 آلاف. لكن دعونا الآن من كل ذلك.
اقرأ أيضًا: مصر: رغيف العيش لم يعد خطًا أحمر
الرغيف.. كيف تُدار منظومة الدقيق الحر؟
لنرجع إذًا إلى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1987، حين قرر وزير التموين حينها محمد جلال الدين أبو الدهب، تنظيم أنواع استخراجات الدقيق من القمح، حيث حددها عند 5 أنواع.
ووفقًا للقرار الصادر برقم 712، كانت تلك الأنواع هي دقيق بنسب استخراج 93.3%، و87.5%، و82%، و80%، و72%. واشترط القرار موافقة وزارة التموين على الترخيص للمطاحن بكل نوع.
لكن ماذا تعني تلك النسب المئوية. الأمر بسيط، الدقيق نسبة استخراج 72% تعني أن الحجم الإجمالي للدقيق المستخرج من حبة القمح هي 72%. بينما يتم التخلص من نسبة الـ28% المُتبقية كشوائب أو ما يُعرف بـ”الردّة”.
وعادة ما يُعرف هذا الدقيق بالحر أو “الزيرو” -حسب التعبير السائد. وذلك كونه أكثر بياضًا من الأنواع الأخرى. ويعدّ مناسبًا لكل أنواع العجين الفاخر مثل صناعة العيش الفينو والعيش الشامي الأبيض، والعيش الحر السياحي، والمكرونة والبسكويت، والبقسماط والمعجنات الأخرى.
أما النوع الآخر، فهو الدقيق نسبة استخراج 82%، والذي تعمل به عادة المطاحن التموينية. ذلك كونه المُستخدم في صناعة العيش البلدي المدعم. ويكون هذا الدقيق أكثر اسمرارًا من الأول، وغالبًا لايُستخدم إلا في صناعة العيش البلدي.
حتى العام 2016، كان يُحظر على المطاحن الخاصة إنتاج الدقيق نسبة استخراج 82%. بينما يُسمح لها بإنتاج الدقيق نسبة استخراج 72%. واستمر الأمر حتى سمح لهم قرار وزير التموين رقم 257 بذلك. وهذين النوعين هما الأكثر استخدامًا في مصر.
لكن لنعد مرة أخرى إلى تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا إلى العام 1992 و1996، حينما أُزيح العيش الفينو والعيش الشامي من قائمة الدعم التمويني. فيما سُمح بتداول وإنتاج واستيراد الدقيق الفاخر استخراج 72% للمخابز والأفران الخاصة والأفرنجية، وفقًا للقرار 335 لسنة 1992.
وبعد إلغاء الدعم للعيش الفينو والعيش الشامي، خرجا من منظومة التسعير الجبري الذي تفرضه الحكومة. فيما سبقهم الدقيق الفاخر أو الزيرو في الخروج من عباءة التسعير الجبري أيضًا وذلك بعد حذف دستور 1971، كل ما يخص الاشتراكية، ونص على حرية النشاط الاقتصادي. واستمد دستور 2014 حرية النشاط الاقتصادي أيضًا.
بالتالي، بات سعر الدقيق الفاخر استخراج 72% يخضع لقوى العرض والطلب. وعلى هذا الأساس، زاد سعره بسبب أزمة غزو روسيا لأوكرانيا، وتسببها في تعقيد الموقف المصري. كون البلدين يُمثلان نحو 80% من القمح المستورد، نظرًا لانخفاض أسعارهم عن بقية دول العالم، وتردي جودة أقماحهم أيضًا.
إذًا؛ الدقيق الفاخر الذي تستخدمه الأفران في صناعة العيش الفينو والعيش الحر السياحي، لا يرد إليها من وزارة التموين، كما ذكر رئيس الجمهورية.
تكلفة إنتاج الرغيف الحر السياحي؟
أجرت “مصر 360″، استبيانًا لـ6 أفران بمناطق الدقي وأبو قتادة وبولاق الدكرور ووسط البلد والمنيا. وقد راعينا في الاستبيان مكان الفرن، ونوعية الزبائن، حتى لايتكرر الحديث. واستخرجنا متوسطًا من التكلفة التي شرحها لنا أصحاب الأفران، واكتفينا بذكرها.
علاء جادالله، صاحب فرن، يشرح لنا في حديثه المسجل، بأن التسعيرة الحكومية غير مناسبة. لأنها أجريت وفقًا لنوعية الدقيق استخراج 82% الذي يصل سعره إلى 320 جنيهًا. بينما كل الأفران الخاصة تستخدم الدقيق استخراج 72%، وسعره 460 جنيهًا للشيكارة وزن 50 كجم. “يعني فيه فرق سعر 140 جنيهًا في الشيكارة الواحدة”.
ويقول لـ”مصر 360″، إن إجمالي تكلفة خبيز شيكارة الدقيق 50 كجم، حوالي 848 جنيهًا. حيث إنها تُخبز وتقطع على 53 طاولة، تحتوي كل طاولة على 16 رغيفًا. “يعني الشيكارة تعطي نحو 848 رغيفًا، يعني الرغيف تكلفته جنيه”.
ويُوضح صاحب الفرن، أنهم لا يلتزمون بوزن معين في إنتاج رغيف العيش السياحي. ذلك أنه عادة ما يتم تقطيعه على الطاولة وفقًا لرغبة صاحب الفرن والزبائن والمُستهلكين. وأحيانًا تحتوي الطاولة الواحدة على 12 رغيف، وأحيانًا 20 رغيف. “يعني شيكارة الدقيق الـ50 كجم ممكن تخبز بها 630 رغيفًا، أو 1060 رغيفًا”.
اقرأ أيضًا: كيف ننقذ الرغيف المدعم دون الإضرار بـ71 مليون مصري؟
لكن المتوسط والعادة دائمًا جرت على خبز 16 رغيفًا على الطاولة الواحدة. وكان قبل زيادة الدقيق يتم بيعه بجنيه. لكن بعد الزيادة زودنا سعره لجنيه وربع، وأحيانًا جنيه ونص، على حسب المنطقة الموجود بها الفرن، وفقًا لعلاء جادالله.
يُتابع، قبل زيادة الدقيق كانت تكلفة خبز الشيكارة الـ50 كجم في حدود 720 جنيهًأ أو أقل. لكن حاليًا أسعار طن الدقيق تتراوح بين 9400 إلى 9600 جنيه. وقبل تدخل الحكومة وصل سعرها إلى 12 ألف جنيه. لكن هذا كان قبل زيادة الدولار وهبوط الجنيه اليومين الماضيين.
يقسم جادالله، تكلفة إنتاج شيكارة الدقيق وزن 50 كجم، كالآتي: 460 جنيهًا سعر الشيكارة – شيكارة الردة بـ265 جنيهًا – أنبوبة البوتاجاز 180 جنيهًا – الخميرة 25 جنيهًا – الملح 4 جنيهات”.
ثم أجور العمال، والتي تُقدر عن كل شيكارة دقيق 50 كجم. حيث يحصل الفران على 30 جنيهًا الذي يقف أمام الفرن، و25 جنيهًا لخراط العجين، و20 جنيهًا لـ”خداع العجين”. وهو من يقوم ببسط رغيف العيش بكف يده. ذلك بالإضافة إلى 15 جنيهًا للسحلجي. وهو من يتلقى العيش الذي يخرج من الفرن بعد خبزه. وأخيرًا، هناك وكيل الفرن -الشخص الذي يبيع العيش- وهذا شخص يُحاسب باليومية، والتي تتفاوت، لكن في المتوسط حوالي 180 جنيهًا.
وعن تنفيذ التسعيرة الحكومية، يقول علاء جادالله: “بصراحة مش عارف إزاي ممكن أحقق ربح. لكن ممكن أصحاب الأفران تلجأ لتصغير الرغيف، نخفف وزنه”. أو “ممكن نخلط الدقيق، يعني نضع نص شيكارة من الدقيق البلدي استخراج 82%، مع نص من دقيق استخراج 72%، عشان نكسب”.
لكن هذه الحلول قد تكون مكلفة لأصحاب الأفران. ذلك إنهم قد يواجهون إسمرارًا في العيش المخبوز بأفرانهم نتيجة خلط الدقيق. وقد يتعرضون للعقوبة التي فرضتها الحكومة فيمن يُخالف الأوزان التي قررتها. وتتراوح بين 100 ألف و5 ملايين جنيه غرامة.
الرغيف الفينو
إبراهيم تهامي، صاحب فرن فينو، يشرح لمصر 360، تكلفة خبز الرغيف الفينو. يقول: “الرغيف الفينو يحتاج إلى 4 زجاجات زيت بـ140 جنيهًا، و2 كيلو سكر بـ23 جنيهًا، وشيكارة الدقيق بـ460 جنيهًا، وخميرة بـ24 جنيهًا، ومحسن خبز بسعر يتراوح بين 65 إلى 500 جنيه، حسب نوعية الرغيف”. فضلًا عن تكلفة الغاز وهو غير مدعم. وأيضًا الكهرباء غير المدعمة. ثم أجور النقل، والإضافات الأخرى مثل السمسم أو الشوفان، أو حسب الإضافات التي يطلبها الزبائن”، حسب تهامي.
يضيف أن أجور تكلفة العمالة أو المصنعية عن كل شيكارة دقيق 50 كجم حوالي 400 جنيه. وفي حال المخابز الأفرنجية لا يتم حساب آجر العامل بالشيكارة، لكن باليومية، ويومية العامل تختلف تبعًا لنوعية عمله. فأحيانًا تصل إلى 180 جنيهًا وأحيانًا 300 جنيهًا، سواء كان عجان أو خراط.
ويقول تهامي إن الرغيف الفينو كان يُباع قبل الزيادة بجنيه بالنسبة للسادة، والرغيف أبوسمسم بجنيه وربع، وبعد زيادة سعر الدقيق، زودنا ربع جنيه على الرغيف. ويلفت إلى أنه قد إذ أصرت الحكومة على تنفيذ التسعيرة، فسيقوم بإغفال بعض البنود من العجين. ذلك مثل عدم إضافة السكر أو محسن الخبز، أو توفيره لنفقات العمالة، أو تخفيف الوزن بطرق كثيرة للرغيف.
اقرأ أيضًا: هل تستطيع التسعيرة الاسترشادية مساعدة الحكومة في ضبط الأسعار؟
وينهي حديثه، بأن ذلك سيؤثر على جودة الرغيف الفينو. لكن الزبون من سيتضرر، لا الحكومة. وبالتالي، يجب مراجعة التسعيرة مرة أخرى. وكذلك العمل على علاج المشكلة من أعلى، سواء كان المطاحن أو مستوردي القمح.
إلى ذلك، يقول عبد اللطيف وهبة، نائب رئيس الشعبة العامة للمخابز باتحاد الغرف التجارية، إن قرار التسعير الحكومي أغفل نقاط مهمة في العملية الحسابية للتكلفة. حيث أنه أجرى العملية على شيكارة الدقيق وزن 100 كجم. بينما أغلب الأفران تحسب التكلفة على شيكارة 50 كجم.
ويفسر لمصر 360، سبب خبزهم شيكارة 50 كجم، بأنه متعلق بحجم البيع لصاحب الفرن. يقول: “أنا مش فرن بلدي عندي حصة دقيق لازم أخبزها، أنا بشتغل على حسب الزبائن وكمية المباع يوميًا، لذا نقوم بخبز شيكارة 50 كجم”.
على ذلك، تختلف تسعيرة التكلفة الحكومية عن تسعيرة أصحاب الأفران بنحو 200 جنيه للعيش السياحي الحر، وحوالي 182 جنيهًا للعيش الفينو على الشيكارة وزن 50 كجم.
ويضيف وهبة، أنه بسبب هذه التسعيرة الجبرية، سيغلق عدد من الأفران أبوابه أو يسرح بعض العمالة. إذ أن هناك العديد من أصحاب الأفران الصغار الذين يخبزون شيكارة أو شيكارتين في اليوم، وهذا لن يستمر طويلًا.
ويختم حديثه: “أما بالنسبة للأفران الكبرى، فإنها ستقوم بتغيير مدخلات الإنتاج”. ما قد يؤدي إلى تردي جودة الرغيف. “يعني المواطن مش هيعرف ياكل رغيف الفينو حاف”.