زرت تونس عشرات المرات، والمرة الأولى كانت قبل ثورتها بثلاث سنوات، والأخيرة كانت الأسبوع الماضي. وهي أول مرة أزور فيها هذا البلد الساحر عقب إجراءات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو من العام الماضي. وقد أعلن فيها تجميد عمل البرلمان والبدء في إجراء تعديلات على الدستور التونسي.

مشاهدات وانطباعات

إن السؤال الذي كان في ذهني قبل سفري هذه المرة هو: هل تغيرت تونس؟ وهل تحولت إلي بلد أمني سيتعرض فيه أي زائر لمضايقات وس و ج. خاصة في ظل الدعاية الإخوانية ضد إجراءات الرئيس؟

والحقيقة أن تونس لم تتغير ولم تكن هناك أي إجراءات أمنية استثنائية في الدخول والخروج. فلم يتغير نفس الطابور الطويل الذي تقف فيه حتى تصل إلى “مراقبة الجوازات” مثل معظم المرات السابقة. خاصة لو كنت تستقل طائرة مصر للطيران التي تصل تونس في الحادية عشر والنصف صباحًا (تأخرت ساعة). فهذا وقت ذروة تمضي فيه على الأقل ساعة حتى تختم جواز سفرك دون أي إجراءات أمنية استثنائية.

ومع ذلك، فإن السؤال المطروح: لماذا في بلد عدد سكانه لا يتجاوز 12 مليون نسمة ويمتلك مقومات سياحية متنوعة لا يكون مطاره هو الأكثر تنظيمًا والأكثر جذبًا وسهولة للمواطنين والزائرين؟

نفس السؤال تطرحه حين تضطر للبحث عن تاكسي يوصلك إلى مكانك. خاصة في وقت الذروة. تضطر إلى البقاء لساعات. ولذا تكون سعادتي كبيرة حين أكون في فندق في وسط البلد أو قريب منها، وأستطيع التحرك مشيًا على الأقدام، كما جرى هذه المرة. ففي تونس تجد رصيف آدمي للسير وأماكن شبه آمنة لعبور المشاة ولا يوجد نفس ضجيج وكلاكسات القاهرة.

وحين تتساءل عن أسباب عدم حل مشكلة السيارات الأجرة في تونس بوضع تطبيق “أوبر” مثلًا، يكون الرد أن نقابات العمال ترفض دخول شركة عالمية مثل “أوبر” للسوق التونسي. ذلك لأنها تؤثر على عمل سائقي الأجرة؟ وهو موقف يحترم. ولكن لماذا لا تؤسس شركة وطنية تونسية للنقل الخاص مثل أوبر. وهنا لا يجيب أحد، وهنا الأزمة.

والحقيقة أن مصر وتونس متشاركتان في جانب مهم، وهو “الفرص الضائعة”. فكل بلد يمتلك مصادر قوة مهدرة. مصر قوتها أنها دولة مركزية في المنطقة وحضورها لا يكون بالشعارات إنما بنموذج سياسي له رسالة ملهمة على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي، وتحرسه دولة قانون راسخة. أما تونس فقوتها أنها بلد متجانس وتعداد سكانها 12 مليون نسمة، وبها تعليم عام جيد، ونسبه أمية أقل من مصر (15%)، ومنفتحة على العالم. وهو ما يؤهلها أن تكون نموذجًا حقيقيًا لأفضل خدمات وأفضل نظام مصرفي ونقطة جذب سياحية وثقافية. وهو للأسف الشديد لم يحدث.

المجال العام لا يزال مفتوحًا

المجال العام والسياسي لم يغلق في تونس، ولا تزال حرية الرأي والتعبير مصانة، ولا تزال القوى السياسية والنقابية تعبر عن رأيها بحرية تامة. وكثير منها ينتقد الرئيس وسياساته رغم قناعة الكثيرين بنزاهته وطهارة يده.

ويمكن تقسيم الخريطة السياسية إلي ثلاثة:

تيار معارض للرئيس ويرفض إجراءاته الاستثنائية وكل توجهاته. وهذا تقوده حركة “النهضة” وبعض القوى المدنية واليسارية الثورية. والحقيقة أن حركة النهضة هي المسؤول الأول عن الصعوبات التي يواجهها مسار الانتقال الديمقراطي في تونس. ولولا سيطرتها على المنظومة السياسية على مدار عشر سنوات لربما ما احتاجت تونس لإجراءات سعيد الاستثنائية، ولكانت الآن في مصاف الديمقراطيات الناشئة.

التيار الثاني: المؤيد للرئيس من خبراء وتكنوقراط وبعض النخب المستقلة وتيار واسع من الرأي العام. وهو يدعم الرئيس قلبًا وقالبًا، وغير متمسك بالديمقراطية، ويعتبر هدفه هو الحفاظ على الدولة وإقصاء تيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسها حركة النهضة.

التيار الثالث، وهو تيار المساندة المشروطة للرئيس، ويقوده الاتحاد التونسي للشغل. وقد ظل بيانه الذي أصدره عقب قرارات الرئيس العام الماضي هو الإطار الحاكم لحركته حتى اللحظة. وقال فيه: إنّ التدابير الاستثنائية التي اتّخذها رئيس الجمهورية كانت استجابة لمطالب شعبية وحلًا أخيرًا لتعقّد الأزمة التي تمرّ بها البلاد، في غياب أيّ مؤشّر لحلول أخرى عمل كثيرون على إحباطها.

ونذكّر بضرورة توفير كلّ الضمانات للحفاظ على المكتسبات المجتمعية وضمان الحقوق والحريات، وفي مقدّمتها الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية والنقابية المضمّنة في الدستور وتدعيم المسار الديمقراطي وتطويره بالاحتكام إلى الآليات الديمقراطية والتشاركية”.

ظلت قنوات الاتحاد مفتوحة مع الرئيس، فدعمه في إجراءاته، واختلف معه في اعتبار الاستشارات الوطنية التي أجراها مباشرة مع الشعب عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وهي المقياس الذي سيحدد على ضوءها إجراءاته الإصلاحية. وقد طالبه بشكل واضح بضرورة الحوار مع المؤسسات الوسيطة من أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني. وقال أمينه العام جملته الشهيرة “نحن لانعطي صكًا على بياض لأحد”.

وهناك حزب حركة الشعب ذو التوجهات الناصرية، ولديه 15 نائبًا في البرلمان. وسيعقد اليوم الخميس مؤتمره العام. ودعا إليه كثير من القيادات القومية والناصرية واليسارية في العالم العربي والعالم. ومنهم المرشح الرئاسي المصري السابق حمدين صباحي.

وقد التقيت في هذه الزيارة بأحد قيادات الحزب ووزير العمل السابق فتحي بلحاج. وهو صديق قديم منذ أيام الدراسة في فرنسا. وقد شرح لي موقف الحزب الذي ينتمي أيضًا إلى تيار المساندة المشروطة للرئيس. ولديه موقف مضاد لحركة النهضة، ويحملها المسؤولية الأولى للأزمة السياسية. ولكنه يتحفظ أيضًا على الخطاب المضاد للنخبة والأحزاب والسياسة.

كما يعتبر أن الفرصة لا تزال سانحة لتجديد النظام السياسي في تونس. وذلك بالحوار مع المؤسسات الوسيطة التي لديها قاعدة اجتماعية. مع ضرورة الابتعاد عن أي أفكار تتعلق بالديمقراطية المباشرة أو الشعبية التي تتجاهل الوسائط المنتخبة من نقابات وأحزاب.

في تونس، لن يستطيع رئيس أو غفير أن يغلق المجال العام. وفرصة انتقال البلاد لنظام رئاسي ديمقراطي فعال ومنجز لا تزال كبيرة. لكن بشرط التخلي عن بعض الأفكار المثالية، وكثير من الأفكار الشعبوية، في بلد لا يزال نشيده الوطني يقول: إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدرْ، ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر”.