التعليم تحدي يواجه الوطن العربي في ظل تراجع العديد من الدول عن ضخ موازانات كافية لجعل التعليم ممكنا للجميع، خاصة مع بدء تسرب التعليم الخاص كتجارة في العملية التعليمية، ضف إليه التعليم الأجنبي الذي بات يهدد الهوية الوطنية، لكن أيضا فضاء التعليم بات فضاء غير ملاءم للأجيال الجديدة لاكتساب العلم والمعرفة، فبنايات المدارس يمكن وصفها بالغبية التي تولد الإحساس لدى الطفل بكراهية المكان. وبالتالي عدم بناء علاقة بين المكان والطفل، لها طابع حميمي تجعله يكتسب المعرفة والعلم بروح فيها قبول لما يطلب منه. هذا ما يؤشر إلى غياب علمين أساسيين من المجتمعات العربية علم النفس المعماري الذي يعني بالعلاقة النفسية بين الإنسان والمكان وعلم الاجتماع المعماري الذي يعني بتفاعل الإنسان اجتماعيًا مع المكان. هذا ما يقودنا إلى غياب العلم الذي يتطور بصورة مستمرة في قيادة المنظومة التعليمية العربية.

يواجه الوطن العربي تحديات غير مسبوقة الآن تفوق تحديات مرحلة ما قبل وبعد الاستقلال، والتي ارتبطت ببناء الدولة الوطنية. الآن التحديات تتطلب تغيرات جذرية لكي تواكب المنطقة العربية المتغيرات والتهديدات على أصعدة متعددة. لذا فإن من سيقود حركة التغيير وتفاعلاتها مع المعطيات الجديدة المتسارعة هو التعليم.

التعليم النظامي والتعليم الرقمي عن بعد هما أسس هذه السياسات، فلسنوات قريبة كان مجرد الحصول على شهادة جامعية كافيا لكي يندمج الخريج في سوق العمل. الآن التعليم المستمر حتمي لمواكبة الجديد في التقنية. وهذا أمر لا مفر منه. فسنظل نتعلم لكي نبقي على قيد المنافسة أو بصورة أوضح الوجود في هذا العالم سريع التغير.

هنا الحديث عن اقتصاديات التعليم أمر لا مفر، فالدول التي أحدثت قفزات اقتصادية في مدى زمني لا يتجاوز عشر سنوات كان التعليم الجاد والمستمر هو استثمارها الأول. مثل سنغافورة والهند ورواندا وماليزيا وغيرها.

إن تحديات التعليم في عصر كورونا خلخت طبيعة نظم التعليم التقليدية في الفصل الدراسي، وأفسحت المجال بطريقة غير مسبوقة للتعليم عن بعد عبر شبكات الإنترنت. لذا هنا السؤال حول فاعلية التعليم عن بعد عبر الإنترنت.

في حقيقة الأمر، إن هناك إجماع في العديد من مراكز الأبحاث أن التعليم عن بعد ليس له فاعلية كبيرة في نقل المعرفة وتشربها. خاصة المناهج الدراسية الطويلة التي تهدف للتعليم. بينما قد يكون أثرها جيد في الدورات التدريبية القصيرة المحددة الموضوع. لذا الاتجاه الدولي حاليًا إلى التعليم المدمج. وهو ما أخذت به بصورة نسبية العديد من الجامعات العربية. لكن بصورة ما زالت في حاجة إلى مراجعة لبناء هذا النمط من التعليم بصورة جيدة.

التعليم المدمج نهج يقوم علي الدمج بين التعلم وجها لوجه والتعلم عبر الإنترنت. هذا ما يعني أن الطالب يتلقى دروسه من المعلم مباشرة، ويتلقى بعضها في المنزل. هذا ما يجعل بيئة التعلم متواكبة مع التطورات الحديثة، ولا تفقد مميزات التفاعل المباشر بين المعلم والطالب. خاصة في الكليات العملية كالطب والزراعة وغيرها.

كما أن هذا يوفر للتلاميذ في المراحل التعليمية الأساسية فرصة للتحصيل الدراسي في حالة غيابهم عن المدرسة لأسباب المرض أو السفر أو الأوبئة. هنا لابد أ نشير أن مواد التعلم عن بعد قد تكون مكملة للتعلم في الفصل الدراسي. بل شارحة لها بصورة وافية قد لا تتاح في ساعات الدرس في الفصل. فمادة التاريخ في المدرسة التي تحكي عصر الدولة القديمة في مصر الفرعونية يتكامل معها فيلم وثائقي وجرافيك شارح لبناء الأهرامات. هذا ما يجعل التاريخ هنا ليس مادة تلقينية بل مادة تفاعلية يتفاعل فيها الطالب مع المادة المشاهدة، وهذا ما يحل أزمة عربية ممتدة منذ زمن حول جفاف مادة التاريخ على سبيل المثال.

هذا ما يتطلب تغييرًا نوعيًا في بيئة التعلم في المدارس والجامعات لتلائم القدرات اللا محدودة التي يوفرها هذا النمط من التعلم. المتعلم هنا نشط يولد أفكار ويحصل المعرفة بطريقة فردية وجماعية. إذ يكفل التعلم عن بعد فرصة عبر شبكة الإنترنت لكي يفكر الطلاب جميعًا في الدرس ومعطياته من المنزل. ما يتيح الوقت في الفصل الدراسي للمناقشات والأنشطة التطبيقية. وهو ما يرفع من القدرات المعرفية للمتعلمين.

من معطيات هذا النوع من التعليم:

العصف الذهني: فمشاركة الأفكار علي مدار مناقشات جادة حول موضوع الدرس ينمي قدرة العقل علي توليد الأفكار. هذا ما يتطلب تمارين حول طرق التفكير واستنباط الحلول، وهو يولد أجيالا جديدة غير تلك التي اعتاد التعليم في الوطن العربي أن يقدمها، القائمة على الترديد والحفظ فقط دون إعمال العقل. وهذا ما ينمي أيضًا الشعور بالمسؤولية، نظرا لأن المعلم لن يكون مصدرا للمعلومات بقدر ما سيكون دليلا إلى بناء الأفكار عبر المعلومات. وهذا ما يدفع الأجيال الجديدة نحو الإبحار في فضاء المعرفة واكتساب قدرات التعلم الذاتي.

رسم خرائط المفاهيم: إن إنشاء بنية أو مخطط معرفي لأي موضوع في العقل هو أفضل تمرين معرفي للمتعلمين، ويساعد هذا في بناء خرائط للعلاقات بين المفاهيم. من هنا تبني خرائط للمفاهيم من خلال أدوات التعلم الرقمي غير المحدودة، مثل الصور والرسومات. هذا ما يجعل عملية التعلم ممتعة في حد ذاتها، ويساعد الطالب على الانغماس فيها. خاصة إذا طلب منه تنفيذ شرح لمادته وفقًا لفهمه.

العروض الإبداعية: ينمي هذا النوع من التعليم القدرات الابداعية، فهم أي الطلاب لديهم فرص لبناء قصص ومقاطع فيديو قصيرة وبود كاست، حول مادة التعليم. هذا ما ينمي مهارات التعبير لدى الطلبة، ويساعدهم في تقديم أفكارهم في مجال العمل بعد تخرجهم.

استراتيجية التعليم التعاوني: مثلت المنافسات الفردية في التعليم في الوطن العربي عمومًا كارثة في خلق النزعات الفردية عبر المنافسة في الفصل الدراسي. بينما أثبتت استراتيجيات التعلم التعاوني فعاليتها في تنمية الشعور بالمسؤولية لدى الطلبة، واكتساب مهارات العمل الجماعي والتفكير المنطقي والتحليلي. ومن خلالها يمكن للمعلمين ضمان مشاركة جميع المتعلمين في عملية التعلم الهادفة.

التعلم القائم على المشروع: يجمع التعليم المدمج القائم على المشروع بين مزايا التعلم القائم على المشاريع في بيئات التعلم التقليدية، والتعلم عبر بيئة الإنترنت. ففي هذا النوع من التعليم، يتعلم الطلبة المفاهيم الأساسية من خلال المصادر المتوفرة عبر الإنترنت، ثم يقومون بصقل مهاراتهم العملية من خلال الانخراط في مشاريع جماعية في بيئة التعلم وجها لوجه.

يزيد التعليم المدمج من قدرة المعلم على تحليل أعمال الطلبة ومراجعتها وتقديم الملاحظات عليها بشكل سريع، ما يمنحه القدرة علي تكييف أساليب التدريس الخاصة به والتغذية الراجعة لكل طالب، وتحسين كفاءته في إدارة الوقت.

هذا كله له سياقات لابد من توافرها، وهي بمثابة إطار يحدد العمل في هذا الفضاء. ومنها: سياسة أمان الحوسبة السحابية، سياسة العمل عن بعد، سياسة استخدام منصة التدريب، سياسة الاتصالات الرقمية، سياسة أمن المعلومات.

إن تحديات التعليم قبل الجامعي والفني والجامعي في المنطقة العربية، تتوقف أمام سوق العمل الذي يفرز احتياجات جديدة واختصاصات حديثة تتطلب الاستجابة من النظام التعليمي من خلال مخرجاته، ما يتطلب تحديث مستمر في أدوات التعليم ليكون أداة فعالة في النمو الاقتصادي. خاصة مع تحدي التحول من الاقتصاديات التقليدية إلى اقتصاد المعرفة، والذي يقود هذا التحول عمليًا هو الجامعات الأجنبية وعدد محدود من الجامعات الخاصة والوطنية ثم المدارس الأجنبية التي تعددت ما بين بريطانية وكندية وفرنسية وأمريكية، ثم المدارس الخاصة بصورة أقل ثم المدارس الحكومية التي تراجع دورها بصورة كبيرة.

ففي السبعينيات كان التعليم الحكومي في العديد من الدول العربية لديه حد أدني مقبول من الكفاءة ومواكبة المتغيرات. لكن مع تراجع دور الدول في مواكبة هذه المتغيرات وتراجع مخصصات التعليم في الموازنة العامة تراجع التعليم الحكومي.

إن مأزق الهوية في تصاعد بسبب اعتماد الإنجليزية في المدارس الأجنبية والخاصة بسبب أيضًا سوق العمل الذي يفضل خريجي هذه المدارس عن غيرها، لتبرز هنا العلاقة السببية بين سياسات التعليم وسوق العمل. وهذه نقطة في حاجة ماسة لمعالجة حيوية ومناقشات موسعة، فلابد من الانسجام بين سياسات التعليم وسياسات التوظيف.

هنا تبرز لنا تجربة فريدة من الممكن أن يكون لها أثر إيجابي على المدي البعيد. وهي تجربة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية في برنامج إعداد القادة التقنيين. كما أن العديد من برامج التدريب والتعليم المستمر في الجامعات العربية ما زالت قيد التقييم في ظل منافسة شرسة من مراكز في العديد من الدول مثل بريطانيا وماليزيا وتركيا وفرنسا، والتي يفضلها سوق العمل لجديتها.

هذا ما يطرح تساؤلات للمستقبل تدور حول مصداقية المؤسسات التعليمية في المنطقة من مدارس وجامعات أمام القادم من الخارج. فدولة مثل فنلندا نجحت في بناء اسم لها على الصعيد الدولي ارتبط بجودة وفرادة ومخرجات التعليم بها. هذا ما هو مطلوب عربيًا؛ بناء نظم تعليمية تعد ذات اعتمادية واعتراف على كافة الأصعدة. خاصة مع تقدم دول الخليج العربي في مؤشرات جودة التعليم دوليا. ما يجعل فرص القادمين لها مستقبلًا محدودة. حيث ستفضل خريجين من دول أعلى في مستوى التعليم وليس أقل. هذا ما يتطلب إجراء دراسات مسحية دائمة لقياس  الآتي:

المعلمون: يهتم القياس هنا باتجاهات المعلمين نحو استخدام الأجهزة الحديثة والتقنية بشكل عام، واتجاهاتهم نحو المتعلمين، وخبراتهم التقنية والتدريسية، وإلمامهم بالمحتوى التعليمي، وسرعة استجابتهم لاحتياجات الطلبة، وتوفير الملعلومات لهم.

المتعلمون: وتشمل قياس اتجاهاتهم نحو التقنية والتعلم والفريق التدريسي. كذلك قياس مستوى دافعيتهم نحو المقرر الدراسي، وعادات التعلم التي يتبعونها، ومعارفهم وخبرات تعلمهم الحالية والسابقة، وشعورهم بالرضا والراحة في السياق التعليمي الذي يتعلمون منه، ومدى ما يشعرون به من جدوى المحتوى الذي يدرسونه، ومدى استمتاعهم به، والتفاعل بين الطلبة، والدعم الذي يقدمونه لبعضهم البعض.

هذا ما سيرفع من مخرجات التعليم في ظل التقييم المستمر، مع رفع القدرات لدى المعلمين والمتعلمين. هنا لابد أن نقرر أن العملية التعليمية وفق هذه الأطروحات الجديدة لابد أن يراعي فيها ما يلي:

الفرق الكبير بين دمج التكنولوجيا في التعليم والتعليم المدمج. إذ أن الدمج المقصود هو دمج أساليب التعليم والتعليم، ونشاطاتها المبتكرة في عملية التعليم. وتعد التقنية مجرد عنصر مساعد فيها، إذا ما تم استخدامها بكفاءة.

التعليم المدمج أكثر من مجرد كونه دروسًا افتراضية تضاف إلى الدروس في الفصل الدراسي. إذ أنه إعادة صياغة لخبرات التعليم بشكل كلي، ولكن بصورة مرنة وعملية، بحيث يصبح الطالب من خلاله متعلمًا نشطًا مبادرًا. فالتعليم المدمج مرن، يقوم على استخدام الزمن المخصص للتعلم بأساليب تتناسب وأنماط التعلم لدى الطلبة، واستعدادتهم الفردية، والسرعة التي يتحلى بها كل طالب في القراءة والتحليل، ومدى تمكنه من استخدام التقنيات الجديدة، لذا فهو يقوم على:

تصميم الصف المرن، أو ما يطلق عليه أحيانا (التصميم الموجه نحو التعلم وجها لوجه). وتتم أغلب النشاطات فيه على هيئة حصص دراسية. على أن يستكمل بعض منها على هيئة نشاطات أو واجبات يتم تنفيذها خارج الصف، سواء كانت في المنزل أو في أي مكان آخر.

تصميم الصف المقلوب، ويعد هذا التصميم معاكسا لبنية الصف المدرسي المرن. حيث يقرأ الطلبة حول موضوع الدرس في المنزل، ويجيبون عن الأسئلة، ويحلون التدريبات ويطلعون على ما يتصل به من مصادر مرئية ومسموعة، ويدونون تساؤلاتهم وتعليقاتهم، وينفذون مشروعات العمل المطلوبة منهم، على أن يخصص زمن الحصة في المدرسة لطرح الأسئلة والتفكير فيها والإجابة عليها، وطرح هذا للنقاش التفاعلي.

إننا هنا في المنطقة العربية ككل أمام تحديات في العملية التعليمية ومخرجاتها مرتبطة بالمستقبل نكون أو لا نكون، وتتشابه المنطقة في كل شيء من حيث المشكلات بل حتى المغرب العربي الذي كان خارج نطاق التأثر بانتشار اللغة الإنجليزية بات الآن تحت رحمة زحف اللغة الإنجليزية المتزايد بوتيرة متصاعدة في التعليم والحياة.