تعددت التنبؤات بالنتائج المحتملة للغزو الروسي لأوكرانيا ، فيذهب البعض الي التبشير بنظام عالمي متعدد الأقطاب ،تشارك فيه الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي ، أو علي الأقل عالم ثلاثي الأقطاب ،يبقي فيه الأوروبيون شريكا أصغر للولايات المتحدة ، ويذهب فريق ثان إلي انقسام العالم الي معسكرين يخوضان حربا باردة جديدة وحروبا محدودة بالوكالة ضد بعضهما البعض ، فتقود الصين وروسيا معسكر الدول الفاشستية ، التي تركز علي عقيدة الأمة فوق المواطن، ضد معسكر الدول الديمقراطية تحت القيادة الامريكية ،وهو المعسكر الذي يركز علي الحرية الفردية ،وحقوق الانسان . فيما يتنبأ فريق ثالث بأن حرب أوكرانيا لن تؤدي الا الي عزل روسيا عالميا ،وقد يفضي ذلك الي اضطرابات داخلية عميقة في الداخل الروسي ، تتمخض عن التخلص من الرئيس فلاديمير بوتين ، وقد تتمخض أيضا عن تفكك روسيا الحالية باستقلال الأقاليم الإسلامية عنها ، ومن هذا الفريق الأخير المفكر الاستراتيجي الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما، واضع نظرية نهاية التاريخ.


لكنني في السطور التالية لن أنشغل بأي من هذه السيناريوهات بعيدة المدي بل وبعيدة الاحتمال في تقديري ، وإنما سوف أنشغل بالنتائج التي تتبلور الآن أمام أعيننا للحرب الروسية الدائرة علي الأرض الاوكرانية ، وهي أولا عودة الروح لحلف الأطلنطي ،بعد عقود من الشك في جدوي بقائه في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة نفسها ، وثانيا عودة قضية الامن الأوروبي لاحتلال مكان الصدارة في العلاقات الدولية ،كما كان الوضع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتي سقوط سور برلين ومعه حلف وارسو ،مرورا باتفاقية هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبيين ، و ثالثا وأخيرا إضعاف تيارات اليمين القومي الفاشية في الغرب الديمقراطي ٠

من الناحية العملية يصعب الفصل بين عودة الروح لحلف الأطلنطي ،وبين قضية الأمن الأوروبي ، إذ أن هذا الحلف لم ينشأ أصلا الا للدفاع عن أوروبا الغربية ضد أي عدوان سوفيتي محتمل ، وذلك بسبب خروج الاتحاد السوفيتي من الحرب العالمية الثانية في حالة تفوق عسكري كاسح علي كل الدول الأوروبية الغربية مجتمعة ، خاصة بعد إخراج ألمانيا المحطمة نهائيا من حسابات الغرب العسكرية آنذاك ، وذلك الي جانب السيطرة السوفييتية علي كل أوروبا الشرقية حتي حدود ألمانيا الغربية ، وإلي جانب تسلح السوفييت بالإيديولوجية الماركسية الجاذبة لشطر مؤثر من القوي السياسية في الداخل الأوروبي بأجمعه ، فما هو الجديد الذي سيترتب علي غزو روسيا لأوكرانيا ،فيما يختص بسياسات الدفاع والأمن الأوروبية تحت مظلة الروح العائدة للتحالف الأورو أمريكي ؟

بالاضافة الي التوسع االجيوسياسي لحدود الأطلنطي ،وبالتالي حدود الأمن الاوروبي ليشمل أغلب دول حلف وارسو السابقة ، ويلامس الحدود الروسية ذاتها في البلطيق ،فإن لدينا أيضا تطورين مهمين ،أولهما الشعور بالحاجة الماسة لما سماه رئيس الوزراء البريطاني المنتصر في الحرب العالمية الثانية بالسد الجرماني المنيع ،أي الحاجة الي العسكرية الألمانية ، التي سبق وأن أشعلت حربين عالميتين بعد سلسلة من الحروب الأوروبية ، والثاني هو إخراج فكرة الدفاع الأوروبي الموحد من بطون الكتب ، ومتون البحوث الأكاديمية ، ومن أضغاث أحلام بعض الساسة الأوروبيين الي حيز الواقع العملي ، بما يقتضيه ذلك من زيادة كبيرة ومطردة في الانفاق الدفاعي ، وانشاء قوات مشتركة ، وتأسيس قيادة موحدة للعمليات ، ومن ثم التدريب والتخطيط والإنذار المبكر ، علي نحو ما بحث واتفق عليه مبدئيا في الاجتماع الأخير لوزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي ، وكما نعلم فقد قررت ألمانيا بالفعل زيادة مخصصات الدفاع في ميزانيتها الحالية بأكثر من مائة مليار يورو ، كذلك نعلم أن فرنسا – التي تكون مع ألمانيا مايسمي بموتور أوروبا – تمتلك سلاح الردع النووي.


لكي نفهم أن إقرار وإنشاء نظام دفاع أوروبي موحد ( متكاملا بالطبع مع حلف الأطلنطي ) هو من النتائج المباشرة للعدوان الروسي علي أوكرانيا ، فيجب أن نعرف أن هذه الفكرة كانت مستهجنة ،بل وموضع سخرية لدي أغلب الأوروبيين في الماضي ، و كانت أيضا مستبعدة – بل وتُقاوم -من جانب السياسة الأمريكية ، فمثلا عندما كان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول يردد مقولته الشهيرة بأن أمريكا لن تضحي بنيويورك أو واشنطن دفاعا عن باريس أو لندن في حرب نووية ، كان يقابل بتهكم أو بصمت في أنحاء أوروبا الغربية ، ويتهم بأنه معاد لأمريكا أو للأنجلو ساكسون عموما ، ويريد فقط أن يظفر لبلاده -التي احتلت في الحرب العالمية -بمكانة لاتستحقها ، وعندما عرض ديجول علي حكومة ألمانيا الغربية مشروع اتفاقية تشملها بالمظلة النووية الفرنسية فإن الألمان رفضوا الاقتراح فورا ودون كثير من التفكير .
أما حينما استعادت ألمانيا الثقة في نفسها بعد اعادة توحيدها ، و استعادت ثقة الأوروبيين فيها كقيادة مسئولة للاتحاد الأوروبي، وزالت رواسب العداء التاريخي بينها وبين فرنسا ، كانت المعارضة المشتركة بين باريس وبرلين للغزو الأمريكي /البريطاني فرصة جديدة لإحياء مشروع الدفاع الأوروبي الموحد ، وبالفعل وقع المستشار الألماني (وقتها )جيرهارد شرودر ،والرئيس الفرنسي (وقتها أيضا )جاك شيراك ورئيس وزراء بلجيكا اتفاقية تأسيس الجيش الأوروبي الموحد ، ولكن الاتفاقية أهملت ، بمجئ نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا خلفا لشيراك ،ومجئ أنجيلا ميركيل مستشارة لألمانيا خلفا لشرودر ، إذ سرعان ما أعلن ساركوزي تأييده للغزو الأمريكي للعراق بأثر رجعي ، في تحول وصفته في تعليق لي حينذاك بأنه مثل رجل يذهب إلي الحج والناس عائدون ، أما ميركيل فقد فضلت بناء الثقة مع روسيا لتكون الأخيرة هي المصدر الرئيسي لاحتياجات ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي من الترول والغاز .


هنا يجدر التنويه بأن ألمانيا لم تخف معارضتها لضم أوكرانيا لحلف الأطلنطي ، و هو ماكان يكفي لطمأنة بوتين بحكم أن ميثاق الأطلنطي يحتم الاجماع لقبول عضو جديد ، لكنه الآن سيجد نفسه في مواجهة صياغات جديدة للأمن الأوروبي ،لا ترتكز فقط علي حلف الأطلنطي ،ولكن أيضا علي دفاع أوروبي موحد خططا وتسلحا وقيادة ، ومن ثم أمام سباق تسلح مزدوج يفرضه عليه منافسوه الأقوي اقتصاديا وتكنولوجيا و تماسكا في الجبهات الداخلية ، غير عابئ بأن أحد الأسباب المهمة للتعجيل بانهيار الاتحاد السوفيتي كان سباق التسلح الذي جره اليه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان ببرنامج حرب النجوم .
هذا عن الجزء الأول من النتائج الواضحة والعاجلة للغزو الروسي لأوكرانيا ، وهي علي أية حال ليست شيئا يستحق الترحيب من منظور السلام والتعاون الدوليين ،بغض النظر عن تفهمنا لشعور الأوروبيين المشروع بالقلق من النزعة القومية المسلحة للرئيس بوتين ، أما التنبؤ بأن تؤدي تلك النزعة الي اضعاف تيارات اليمين القومي الفاشية علي جانبي الأطلنطي فهو تطور يستحق الترحيب من كل النواحي ، و هاهي ذي ملامحه تتبدي في حملات انتخابات الرئاسة الفرنسية ، وفي خفوت ظاهرة ترامب ومناصريه في الولايات المتحدة ، غير أنه يتعين الانتظار بعض الوقت حتي يقرر الناخبون مصير تلك التيارات ، كل في بلده وفي موعده .