لا تعرف المجتمعات الحيّة السكون ولا تسير الحياة فيها على وتيرة واحدة، وإنما تتدافع فيها الأفكار ما بين قديم يتشبث بمواقعه وجديد يطلب الوجود والانتشار، ويمكن لهذه الصراعات أن توقفك على طبيعة التطور العقليّ والرُّوحيّ للمجتمع في فترة زمنية محددة. وقد يكون الأمر أكثر إثارة إذا قارنت بين معارك مجتمعنا في النصف الأول من القرن العشرين ومعاركنا اليوم.

لقد عاشت مجتمعاتنا قرونًا طويلة تنعم بالكسل والثبات، حتى إذا جاء العصر الحديث وتعرفنا على الحضارة الغربية، ازدادت تطلعاتنا ونمَتْ أحلامنا، وتدافعت الأفكار قوية بين الفرقاء من كل اتجاه؛ فهناك من يدعونا إلى اتباع النموذج الغربي ومحاذاته تمامًا، أو لنقل بصريح العبارة: التماهي فيه، وهناك من يدعونا إلى نقيضه، أي اتباع النموذج التراثي، ومحاذاته تمامًا، أو لنقل بصريح العبارة: الحياة به وفيه، وهناك من يحاول التوسط قليلًا أو كثيرًا بين هذا وذاك..!

ويمكنك بالتأكيد أن تتفهم دوافع كل فريق، ويمكنك أيضًا أن تجد في نفسك ميلًا أو انحيازًا لهذا الطرف أو ذاك، ولكن الإنصاف يقتضي منا أن نقدر نوازع كل طرف، وأن نفهم معنى التدافع وفكرة اليقظة (النهضة) التي أوجدت هذا السِّجال، وصحيح أن الحياة تسير إلى الأمام، وكل جديد فيها لا يتوقف حتى يحتل مكانه إمّا بإزاحة القديم وإمّا بالتعايش معه، ثم يصير الجديد قديمًا بعد فترة، وهكذا يتوالى التدافع بين العقول والنماذج المعرفية..

وأنت– بالتأكيد – تدرك أن التغير لا يسير على وتيرة واحدة في كل زمن؛ فبعض الأزمان يكون التغير الاجتماعيّ والسياسيّ فيها أسرع من غيره، ولعلّ ما نعيشه في زماننا أن يكون غير مسبوق؛ فلا يمكن قياس التغيرات التي حدثت مع النصف الثاني من القرن العشرين بما سبقها، حتى لتوشك كلمة “التّحوّل”– بكل ما تنطوي عليه من دلالة التغير المفهوم أو الذي يمكن فهمه- أن تكون غير دالة، فما يحدث أقرب إلى القفزات الخاطفة منه إلى التحولات.

والذين يلمون بأطراف من تدافع مجتمعنا في النصف الأول من القرن العشرين يعرفون القضايا المركزية التي انشغل بها هذا الجيل، مثل: الاستقلال (مقاومة الاستعمار)، والدولة المدنية التي انتزعت دستور1923م أعقاب ثورة المصريين في 1919م، وربما يعرفون طرفًا من انشغال أعلام هذه الفترة كالعقاد وطه حسين وعلى عبد الرازق وغيرهم، بالشأن الثقافي والأدبي والسياسي؛ ففي الوقت الذي عمل فيه العقاد على تحرير “العقل الجماليّ” من قيوده القديمة والانفتاح به على أفق جماليّ ومعرفيّ شديد الاتساع، كان “طه حسين” – في الوقت نفسه- يعمل على ترسيخ المنهجية العلمية وما يتصل بها من قيم، مثل عدم التسليم بكل ما حمله إلينا التراث من مقولات وأفكار، وحقّ الباحث في الشك والاختلاف، وحقّه في نشر ما يتوصل إليه على الناس، وكذلك كان “على عبد الرازق” يسدّ الطريق أمام السُّلطة السياسية المستبدة التي أرادت الخلط بين السياسة والدين؛ فنجده يُقرِّر بوضوح أن الإسلام لم يعرف نظام حُكْمٍ مُحدّد، وأن الخلافة محض اجتهاد بشريّ زمني، وقد لا تكون أفضل السبل للحكم المعاصر.

كانت هذه القضايا عناوين على عصر انقضى مع “ثورة الضباط” في يوليو1952م، وهي كما ترى قضايا إشكالية، ولم يزل تدافعنا حولها كما هو؛ فلم نحسم مسألة الخلافة والخلط بين الدينيّ والسياسيّ، ولم تزل فكرة الدولة المدنية تراوح مكانها بعد مائة عام من السِّجال حولها، كما أننا لم نحْسِم المسألة المنهجية العلمية، ولا أقول إننا تراجعنا في هذه المسألة عن الخطوات التي بدأها “طه حسين” في الربع الأول من القرن الماضي؛ فما أكثر العقبات والموانع التي تمنع الباحث من ممارسة الحق في النقد والشك والمساءلة فضلا عن حقّه وحقّ المجتمع في نشر ما يتوصل إليه أبناؤه من خلاصات معرفية تتصل بوعي المجتمع وقيمه وما ينبغي عليه أن يفعل ..!

وفي خضم هذا التدافع وذلك السِّجال الحيّ انشغل الأساتذة في تلك الفترة بقضية ظلت ممتدة حتى بعد ثورة الضباط، وأقصد بها قضية (القديم والجديد) أو المذهب القديم والمذهب الحديث في الأدب والثقافة، ولكلّ مذهب أنصاره، ولكلّ مذهب وجهة نظر فيما يتعرض له من أمور وقضايا، فنجد أسماء مهمة باتت علامات على هذا السِّجال، مثل: مصطفى صادق الرافعي وشكيب أرسلان وطه حسين وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل… إلخ

وقد تجسّد جوهر هذا التدافع –من حيث الظاهر فحسب- في السجال حول اللغة والأدب؛ فقد كان المجددون يرون ضرورة أن تتخلى اللغة عن الزَّخْرفة والتَّوْشية اللغوية التي تثقلها وتحول دون سهولة التواصل بينهم وبين الجمهور الواسع الذي ازداد مع التّوسع في الصُّحف المستقلة والحزبية. كان المجددون يدعون إلى تجديد اللغة والأساليب، وذلك لتناسب الحياة التي نعيشها، ويستدلون على ذلك بما فعله القدماء في العصر العباسي؛ إذ طوروا فنونهم وقدموا لغة تتناسب مع طبيعة حياتهم..!

ولقد اتخذ المجددون من مقالات الرافعي مادة للهجوم والنقد، وكان الرافعي بدوره يتهمهم بـ”الاستغراب” والعجز عن مجاراة العرب الأقدمين على نحو ما يفعل، ومما ورد في هذا الصدد ردّ “طه حسين” على “الرافعيّ” ضمن ردوده الكثيرة، يقول:

“يرى الكاتب الأديب أن أكثر كتاب هذا العصر، وأنا منهم لا يجيدون “هذا الأسلوب” (يقصد طريقة القدماء كما يقدمها الرافعي)، ولا يستطيعونه مهما تكلفوا له، وبالغوا في هذا التكلف، وتحرُّوا هذه المبالغة… وأنا لا أتردد في إقرار الكاتب الأديب، على أننا لا نجيد هذا الأسلوب، وعلى أننا لا نريد أن نجيده؛ لأن الذوق الأدبي ولا سيما في مصر، قد تغير..” (حديث الأربعاء ج(3) ص9

كان “الرافعي” يتخذ من أساليب القدماء نموذجًا يجب الاقتداء به والنّسج على منواله، وكان ذلك بالنسبة للمجددين معنى من معاني ارتهان الحاضر بالماضي، وهذا ما يجب الحذر منه، فالتجديد فيما يراه “طه حسين” وصْل بين الحياتين: حياة الأقدمين وحياتنا، كما أنه إضافة إلى اللغة والحياة، وحين نجدد، فنحن لا نقطع الصلة مع الماضي أو مع لغة القدماء وأساليبهم، وإنما نزيدها قوة ومتانة، ونضيف إلى القديم من الحديث ما يتيح للغة والحياة مزيدًا من الخصب والإثمار.

لم تكن هذه القضية كما يشير ظاهرها قضية نخبوية تتعلق بالمفاضلة الشكلية بين الأساليب اللغوية، وإنما تتصل في العمق بمنظومة مركّبة من المفاهيم والأفكار التي انشغل بها هذا الجيل بشكل عام؛ إذ لا يمكنك فصل هذه القضية (ولك أن تقول تلك المعركة) عن قضايا: الحريات والاستقلال والنهوض والهوية في بعديها الفردي والجمعي… إلخ.

لقد كان تجديد اللغة جزءا من تجديد الحياة، وقدرة اللغة على التعبير الميسور عن إنسان هذا العصر -وجدانه وعلومه ومعارفه- إحياء لها وتأكيدا على مشروعية بقائها، وحين تعجز لغة ما عن ذلك سوف تتجمد، ويتحول الطامحون من أبنائها إلى غيرها من اللغات الحيّة، وهذا ما كان يخشاه المجددون، الذين أكدوا – بوعي لافت- على ملكيتهم للغة، وحقهم في الإضافة إليها والزيادة فيها “كلما دعت إلى ذلك الحاجة أو قضت الضرورة الفهم والإفهام، أو كلما دعا إليه الظرف الفني، لا يقيدنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تفسد اللغة إذا جاوزناها..”.

وإذا كانت هذه معارك جيل الأساتذة قديمًا، فما هي معاركنا اليوم؟

 

 معاركنا اليوم..!

أشرتُ سابقًا إلى أننا لم نزل نخوض معظم المعارك القديمة نفسها بالعناوين ذاتها، وإن كان ذلك في سياق سياسي واجتماعي مغاير؛ يتصل بالأساس بالتغيرات المتسارعة التي يتسم بها عصرنا، ويتصل أكثر بالتحولات العالمية والتكنولوجية التي أدخلتنا عصرًا مُعولمًا وفرضت علينا قيمًا جديدة، وجعلت عيوننا أكثر انفتاحًا على ما يحدث في العالم المتقدم من حولنا بما لم يخطر على بال الأساتذة في القرن الماضي كله.

لم تعد معارك اليوم منحصرة بين الكُتّاب والأساتذة ثم تنتقل من خلالهم إلى القُرّاء، على نحو ما كان يحدث سابقًا؛ فقد دخلت الجماهير على خط السِّجال، وباتتْ القضايا منفتحة على كل الآراء، وبات بمقدور أي منشغل بها أن يُسجّل رأيه؛ لم يعد الكاتب رائدًا لأهله أو بتعبير أدق لم يعد هو “الرّائيّ الوحيد وحامل الشعلة؛ فنحن لم نعد نشاهد ما يحدث على الجانب الآخر (أوروبا وأمريكا) من خلال ما يقدمه لنا المثقفون والكُتّاب، وبعدها ننحاز لهذه النظرة أو تلك لهذا الكاتب أو ذاك، وإنما أصبحنا نشاهده بأنفسنا وعبر وسائل ووسائط لا حصر لها، وقد نشاهده في الوقت الذي يحدث فيه، ثم نتساءل ونقارن وننشغل بالتغيير الذي لم يعد مطلبًا نخبويًا بقدر ما بات حُلمًا جماهيريًا وجد تجليه الأعظم في ثورة المصريين في يناير2011م.

لقد صارت المعارك الآن ذات بعد جماهيري، وهو بعد لا يخلو من إيجابيات، كما أنه لا يخلو من معايب، وهذا التغير يحتاج إلى وقفة مطولة لفهم طبيعته وميكانيزمات عمله، وما يتوقع منه في الأفق المنظور.