كأن التاريخ يمضي بالمقلوب، يجود علينا الزمان في أوائل القرن التاسع عشر بواحد مثل رفاعة رافع الطهطاوي، ثم بعد أكثر من قرن يعود الزمان ليقذف في وجهنا بقنبلة سيد قطب الموقوتة التي ما تزال تتفجر شظاياها في الفكر حتى اليوم.
في مسيرة تحديث مصر، وعلى مسار تقدمها لا يمكن خصم حاكم قدير مثل محمد علي، وفي الوقت نفسه لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه مثقف كبير مثل الطهطاوي من معادلة تحديث مصر وتقدمها، الأول هو مؤسس مصر الحديثة، والثاني هو رائد التنوير الذي وضع قواعد الأساس لتيار فكري ظل يتنامى ويتوالد ويكبر وينمو وأتى حصاده تنويرًا وقادة فكريين على مدار القرنين الماضيين.
خرج من عباءة الطهطاوي الكثير من أعلام الفكر المصري الحديث، وكان هو من صناع الثورة العرابية، ومشاركًا بأبناء رفاعة في ثورتي 1919، و1952، أسماء كثيرة ولامعة في فضاء مصر الحضاري والثقافي بعضها عاصر الطهطاوي، وكثيرٌ منها جاءت من بعده، وكان لكلٍ منهم دوره على مسار التحديث الفكري، ولكن يظل له سبق الريادة، أو كما قال شوقي في رثاء عليٍ ابنه الأصغر (وكان بدوره من نوابغ الحياة الفكرية في مصر) بقوله:
يا ابن الذي أيقظت مصرَ معارفُهُ
أبوك كان لأبناءِ البلاد أبَـا
**
جاء ظهور الطهطاوي وبزوغ نجمه، وتأثيره التنويري مواكبًا للمشروع التحديثي لدولة محمد علي، في حين أتت التوجهات القطبية كأنها جملة اعتراضية زاعقة في مواجهة المشروع التقدمي الذي تبنته دولة جمال عبد الناصر.
تجد الطهطاوي عند كل أساس لكل مناحي الفكر والثقافة المصرية الحديثة، هو أول من وضع بذرة الفكرة الديمقراطية في الأرض المصرية، وهو واضع أساس النظرة الجديدة إلى المرأة ودورها في المجتمع قبل قاسم أمين ب 50 سنة.
ساهمت أفكار الطهطاوي ومنهجه العملي في تخليق حركة فكرية مجتمعية إصلاحية واسعة، بينما جاءت مساهمة قطب ـ ربما على غير ما أراد ـ في تخليق تيار تكفيري يتبنى العنف وسيلة ومنهاجًا للتغيير، وبدا كأن التاريخ يمضي إلى الخلف مع انقلاب سيد قطب على نصف حياته الأول، ليصنع في نصفها الثاني انقطاعًا مفخخًا على المسار الذي كان الطهطاوي قد شق مجراه.
**
في حياة كلٍ منهما: رحلة، وكتاب، ومحنة، كما أن لكلٍ منهما طبعتان.
الطبعة الأولى من رفاعة الطهطاوي تجسدت في الشيخ الأزهري الذي درس علوم الدين، ونبغ في دراستها على الطريقة السائدة وقتها في الأزهر، وجلس للتدريس في أروقته، ثم سافر إلى باريس منتدبا للإشراف على البعثة التعليمية التي ابتعثها محمد علي باشا إلى فرنسا، فعاد مع طبعته الثانية أكثر تمدنا وتحضرا واستنارة، وأنتج لنا كتابه الأهم والأكثر تأثيرًا: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
نسخة سيد قطب الأولى تمثلت في خريج مدرسة دار العلوم، ثم الأديب والشاعر والناقد الأدبي، والمفكر الاجتماعي متقد الذهن، رشيق العبارة، مع حدة في التعبير عن أفكاره، ثم يسافر إلى أمريكا في بعثة يكتنفها الكثير من الغموض، وتثير الكثير من الشكوك، ليعود منها بوجه مختلف، أكثر تشددا وأشد انعزالا ومصادمة مع المجتمع، وهي الطبعة التي أنتجت النسخة المعدلة من تفسير «في ظلال القرآن»، وقد أجرى عليها بعض التنقيحات ضمنها تصورات جهادية فاصل فيها بين مجتمع الإيمان ومجتمعات الجاهلية، شكلت تلك المراجعات نواة الكتاب الأخطر في القرن العشرين: «معالم في الطريق».
عاد الشاب الأزهري من فرنسا حاملا مشاعل التنوير، ورجع الأديب الدرعمي من أمريكا رافعا معاول التكفير.
**
لن نجد أثرا ايجابيا واحدا من زيارة قطب إلى أمريكا، ولم يرشح عنها الكثير غير شذرات قليلة، وربما التأثير السلبي أكثر حضورا في تجربته، بينما بدا الطهطاوي أكثر إيجابية في التفاعل مع زيارته لفرنسا التي استغلها أفضل استغلال، وباشر من فوره إلى تعلم اللغة الفرنسية وأتقنها، وترجم عنها قبل أن يعود إلى مصر سنة 1931 أكثر من اثني عشر نصا بين رسالة ومقالة وكتاب.
كتابه «تخليص الابريز» قدمه الطهطاوي في صورة بحث ليجتاز به الامتحان النهائي، وكان تقييم أحد أساتذته أنه أراد أن «يوقظ أهل الإسلام، ويدخل الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد لديهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي والترقي في صنائع المعاش»، وهي الغاية التي كتبها الطهطاوي وهو يسأل الله سبحانه وتعالى في مقدمة كتابه «أن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم».
«الغاية» نفسها لا شك كانت تراود سيد قطب، فقد أراد بدوره أن يوقظ الأمة من غفلتها، ولكن على الطريق العكسي للنهج الذي اختاره الطهطاوي لهذه اليقظة، التي رآها متمثلة في الاستفادة بالتطور الذي أحدثة الغرب مع التمسك بالدين والقيم الأساسية فيه، ولم يجد في ذلك النهج أي تناقض بين الأمرين، في حين انطلقت «يقظة قطب» من رفض قيم الغرب وعلى رأسه أمريكا، ولم يرفض إمكانية الاستفادة من تقدمه المادي، وقد سجل مشاهداته وآراءه بشأن الولايات المتحدة في كتاب صغير سماه «أمريكا التي رأيت» ذكر فيه «إن البشرية تملك أن تستفيد كثيرا من إبداع العبقرية الأمريكية في مجالات الصناعة والإنتاج والإدارة، ولكنها تخطئ كثيراَ، وتعرِّض قيمها الإنسانية الموروثة للضياع إذا ما جعلت من المثل العليا الأمريكية مثلها العليا في الشعور والسلوك».
**
يعود الطهطاوي من فرنسا ليشرع في وضع حجر الأساس للتنوير، وليفتتح مسار التحديث الفكري الذي ظل يتحرك إلى الأمام تارة، أو تتعرج به السبل تاراتٍ أخرى، ولكنه بقي قادرا على ضخ المياه في نهر التقدم، بينما يعود سيد قطب من أمريكا ليؤسس اتجاه التكفير والمفاصلة والمصادمة ليس مع سلطة يعاديها، أو حاكم يعارضه، ولكن مع مجتمع يحكم عليه بالجاهلية، ويصمه بالكفر، وهو المسار الذي جرت فيه مياه عكرة كثيرة حملت في طياتها كل الجماعات والمجموعات الخارجة على المجتمعات الإسلامية، وتنظيمات العنف المسلح المتسربل باسم الدين.
سافر رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا، وعاد بمشروع إسلامي نهضوي تنويري يستوعب التقدّم الناجز في الغرب، وسافر بعده سيد قطب بـ(100) سنة إلى أمريكا، وعاد منها بمشروع إسلامي احتجاجي معادٍّ للغرب، ومتخاصم مع المجتمعات العربية والإسلامية، وبدا كأن مشروعه هو انقلاب على مشروع الطهطاوي، وأن كتابه المعالم جبَّ كتاب التخليص.
**
كتاب «تخليص الابريز في تلخيص باريز» كتبه الشيخ رفاعة الطهطاوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1834)، أما كتاب «معالم في الطريق» فقد كتبه سيد قطب قرب منتصف الستينيات من القرن العشرين (1964)، تكمن أهمية الكتابين (التخليص، والمعالم) في أن كلا منهما كان بمثابة نقطة انطلاق، الأول باتجاه التنوير، والثاني باتجاه التكفير.
مثَّل كتاب «التخليص» علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، ونسجت جميع الكتب التي جاءت بعد كتاب الطهطاوي على المنوال نفسه، أو بتعبير قرأته لأحد الباحثين «كانت مجرد حواشٍ للكتاب الأم».
على الجانب الآخر بات كتاب «المعالم» مرجعًا في مد أجيال متعاقبة من «الجهاديين»، بزادها المسموم، وتحول إلى أيقونة فكرية لجماعات التطرف والعنف باسم الدين، وجاءت من بعده كتب وأفكار جديدة كأنها عزف متنوع على ذات الأفكار التي وضع قطب لحنها الأول في «المعالم»، لنقرأها مجددا في «الفريضة الغائبة»، و«ميثاق العمل الإسلامي»، و«حكم قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام»، و«حتمية المواجهة»، ثم في «إدارة التوحش»، وغيرها من الأفكار والمراجع التي تبنتها جماعات العنف في العالم الإسلامي، وجاءت كلها كأنها حواش على المتن الذي وضعه سيد قطب في «المعالم».
**
المأساة تكمن في أن حركة الطهطاوي وأفكاره جاءت مسايرة لحركة التاريخ، بل ودافعة له نحو التقدم، بينما جاءت أفكار قطب مصادمة ومفاصلة وغاضبة، كان السؤال المطروح على الأمة في الربع الأول من القرن التاسع عشر هو سؤال الحداثة، وجاء رفاعة ليطرح إجابته في التمدن والتحديث والعلم والتعليم، ثم كانت الأمة في أواسط القرن العشرين أمام أسئلة الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي فكانت إجابة قطب هي المفاصلة مع الواقع والصدام مع المجتمع ووصمه بالجاهلية وتكفيره بالجملة.
انطلق الطهطاوي باتجاه تطوير واقع المجتمع والسعي إلى تحرير العقل المسلم من غفلة الجمود الفكري وانتشاله من وهدة التخلف الحضاري، بينما انقلب سيد قطب على حركة المجتمع التي ساندها في البداية وانخرط في تأييدها أشد التأييد، ثم لم يكتف بمعارضة ما رآه اعوجاجا في مسيرتها ـ بل راح يتخذ موقفا انعزاليا من الواقع، وأعاد العقل المسلم إلى الكهوف التي كاد يخرج منها ويتعافى من أمراضها المزمنة.
**
الطهطاوي نفسه له اسهامات فكرية أنضج وأفضل مما جاء في التخليص، وقطب أيضا له كتابات سابقة على «المعالم»، هي بالطبع أفضل مما جاء في «المعالم»، رغم أن بعض السلفيين لهم رأي سلبي في كتبه السابقة هذه، خاصة كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي تمنى أحد مشايخ السلفية المشهورين لو أن قطب تبرأ منه قبل مماته.
مشكلة سيد قطب ـ كما هي مشكلة الحركة الإسلامية التي ظهرت بعد سقوط الخلافة العثمانية ـ أنهم جعلوا سؤال الهوية في مواجهة سؤال التحديث والحرية والعدل الاجتماعي والنهضة، وتبقى المفارقة في مشوار سيد قطب أنه انتهى إلى غير ما بدأ منه، انتهى متشددا متطرفا انعزاليا مكفرا.
الطهطاوي كما سيد قطب انطلق كل منهما في سياق مواجهة وصراع فكري مع المجتمع وفي مواجهة الأفكار السائدة، الطهطاوي كان يواجه جمودا وانغلاقا فكريا مدعوما باسم الدين وهو لا يزيد عن كونه فهما محدودا للدين، وقطب على الناحية الأخرى بدا وكأنه ارتد إلى القرن الماضي وحوَّل الدين وكيَّفه وحصره في إطار فكري يقيد ويضعف حركة التجديد والتطوير، بل وينقض عليها.
المفارقة تأتي من أن سيد قطب جاء تاليا على الطهطاوي بما يزيد عن القرن من الزمان.
كانت أفكار الطهطاوي في مواجهة تحديات عصره هادئة متزنة بينما واجه قطب تحديات عصره بخطابه الغاضب تارة والحالم تارات أخرى، فلم يستطع أن يرى في عصره غير المفاصلة والتكفير والخروج عليه.
في حين واجه الطهطاوي مجتمعا وأفكارا غارقة في التخلف والرجعية والجمود والانغلاق، أشعل قطب فتائل التناقض مع مجتمع ناهض وأفكار أكثر حداثة، بعد قرن من النضال الشعبي والتدافع الفكري كانت بوصلته متجه على الدوام إلى التقدم.
**
مضت في حياة كل منهما محنة، وقد يعتبر حواريو سيد قطب محنته أشد وقعا وأكثر إيلاما، لكن محنة الطهطاوي كانت لا تقل وجيعة على نفسه، وهو الذي نذر جهده وجهاده من أجل نصرة قضية العلم وتطوير التعليم، ثم يجد نفسه منفيا أوائل خمسينيات القرن إلى السودان بعد أن أغلقت المدارس التي سهر على إنشائها ومن بينها مدرسة الألسن، ويعزل من كل وظائفه.
ولكنه لم ييأس وراح يحاول أن يعمل أفكاره نفسها في السودان، وفي الخرطوم التي قضى فيها خمس سنوات انكب الطهطاوي على ترجمة رواية الكاتب الفرنسي «فينيلون» «مغامرات تليماكوس» ونشرها لأول مرة في بيروت عام 1867 تحت عنوان «مواقع الأفلاك في مغامرات تليماك»، وهو الكتاب الذي ألفه فينيلون للاحتجاج على الحكم المطلق للويس الرابع عشر، وهو ما جر عليه النفي في أسقفية كامبري، كأن الطهطاوي يستأنس في منفاه بتجربة فينيلون.
أما قطب فقد دخل السجن سنة 1954 عقب محاولة الإخوان اغتيال عبد الناصر، ليحكم عليه بالسجن 15 عاما، ثم أفرج عنه العام 1964 لأسباب صحية لازمته منذ طفولته.
بعض مناصري قطب يرون أن محنة السجن كانت وراء الآراء المتشددة التي خرج بها، وقد يكون لذلك ظل من الحقيقة، ولكن لا يجب ألَّا ننسى أنه توفر له (على عكس ما تسمح به لوائح السجون) ما لم يتوفر لغيره، وكان الشيخ محمد الغزالي بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر قائما على توفير ما يحتاجه قطب من مراجع ليتمكن من الاستمرار في الكتابة.
وقد أصدر من محبسه «هذا الدين» و«المستقبل لهذا الدين»، واستكمل بعض أجزاء كتابه «في ظلال القرآن» في طبعته قبل التنقيح الذي أجراه عليه بعد الإفراج عنه وهو التنقيح الذي اشتطت فيه أفكاره واشتد فيه غلوه، وركز في تنقيحاته على المعاني والتوجهات الحركية والدعوية والجهادية في القرآن، وقد وضع قطب في طبعته الجديدة تصورات جهادية فاصل فيها بين مجتمع الإيمان ومجتمعات الجاهلية على حسب تقديره، وكان حجم الجزء من الطبعة المنقحة ضِعف حجم الجزء من الطبعة الأولى.
**
كانت معركة الطهطاوي في مواجهة مع التخلف، وجاءت معركة قطب تواجه حركة التقدم، وتلك هي المأساة الكبرى التي تولدت عنها الكثير من المآسي العديدة واحدة تلوى أخرى، فالطهطاوي ـ بدون شك ـ هو رائد التنوير في العصر الحديث، وقطب ـ بدون لبس ـ هو حادي التكفير في تاريخنا المعاصر، جاءت طبعة الطهطاوي الثانية لتلقي حجرا في بحيرة راكدة كادت مياهها تتعفن، بينما جاءت نسخة سيد قطب الثانية لتكون حجر عثرة في بحيرة تمور بالتغيير وتتطلع إلى التقدم.
يقول الخال عبد الرحمن الأبنودي:
تكرم جميع العِمَم.. لاجلك يا طهطاوي
لو كلهم كانوا زيك كنا فين دلوقت؟
صعيدي يا ابن الضفاف السمرا.. مصراوي
أنت اللي وفرت ع الأمة سنين الوقت
**