تراكمت -منذ الثورة الإيرانية 1979- ثلاث موجات متداخلة من الخلاف بين السنة والشيعة، والذي اتخذ مظاهر عنف متبادل وامتزجت فيه القوة الصلبة بالناعمة، وحروب الوكلاء بالحرب المباشرة بين الدول، وسيطر عليه التدخل الخارجي والصراع الجيوسياسي بين السعودية وإيران وإن دخلت إليه تركيا لاحقا، ولأنها موجات متداخلة متراكمة وليست متعاقبة متتالية فقد حرقت فيه الجسور التي كانت تخفف حدة الاحتقان المذهبي؛ ولم يتبق منها غير جسرين: الأول؛ فلسطين والعداء للكيان الصهيوني الذي يجري دمجه بعد اتفاقات التطبيع في نظام جديد للأمن يقوم علي العداء لإيران، والثاني؛ سردية الربيع العربي -خاصة في موجتها الثانية 2019- التي تعيد تعريف الهوية الوطنية بل والعربية على أسس غير طائفية ولا مذهبية.
خصائص خمس -إذن- اتسم بها الصراع السني الشيعي علي مدار العقود الخمسة الماضية، نخصص لها هذا المقال، على أن يتلوه ثان يحاول أن يستشرف تأثير الاتفاق النووي الإيراني على ملامح هذا الصراع.
إلا إني أحب أن أؤكد على نقطة محورية في تحليلي وهي أني أنتمي لمدرسة تعلي من أهمية السياق الوطني والإقليمي والدولي في فهم الصراعات المتضمنة بعدا طائفيا أو مذهبيا أو ثقافيا، وتقدم السياسة والاقتصاد علي الخطابات الدينية أو المذهبية أو الثقافية في فهم الصراعات، وعلى هذا؛ فهذه النوعية من الصراعات ليست أزلية ولا أساسية ولا محددة سلفا، ولا الهويات ثابتة وغير متغيرة وتعمل باستمرار وبحكم طبيعتها على تأجيج الحروب في دول المنطقة مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين.
إني أفهم هذه الصراعات باعتبارها صراعات سياسية تختبر فيها الأطراف الأساسية موازين القوى فيما بينها في ظل امتزاج شديد للمشاعر الدينية والمذهبية والطائفية بالمصالح السياسية والاقتصادية، ويجري استدعاء الديني والمذهبي والطائفي على أرضية السياسي/الاقتصادي، ويتخذ ذلك حشد وتعبئة مستعرة تضمن استمرار الصراع في حلقة جهنمية لا تنتهي حين تتحول الخطابات المأزومة التي أنتجها الصراع وقام بتوظيفها إلى قوة دفع ذاتية تضمن استمرار الصراعات أو استدعائها في صراعات جديدة.
بعبارة أخرى، فإن استمرار العوامل الهيكلية التي تنتج الصراع لفترات طويلة مع استمرار التعبئة والحشد الخطابي تظهر الهويات كأنها تكاد تكون ثابتة.
تتبقى نقطة أخيرة في منهج النظر وهي أنه من الخطأ أن يتم النظر باعتبار السنة والشيعة كتلة واحدة لا يوجد بينهم تعدديات تصل إلى حد الخلاف والصراع؛ فسنة سوريا -مثالا- لم يستطيعوا أن يوحدوا قوتهم في مواجهة نظام الأسد، وشيعة العراق يتوزعون على أحزاب سياسية متنافسة بينهم على السلطة والموقف من إيران.
1-موجات متداخلة متراكمة: بدأت الموجة الأولى عقب الثورة الإيرانية مباشرة وكان ملمحها الأساسي احتواء الثورة ومنع تصديرها بالحرب العراقية الإيرانية التي امتدت على مدار عقد الثمانينات من القرن الماضي، ثم كانت الموجة الثانية التي كان عنوانها الأبرز عراق مابعد صدام الذي نتج عن الغزو الأمريكي 2003 تحت ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وهنا لم يعد الصدام بين الدول مباشرة ولكن بين جماعات واتخذ بعدا أهليًا وتطهيرا مذهبيا بعد أن كانت الزيجات المختلطة بين العراقيين والعراقيات تبلغ 40 في المائة منها.
وأخيرا وليس آخرا، كانت حقبة الربيع العربي (بالمناسبة لم يحمل بعدا طائفيا ولا مذهبيا واتسم بأنه غير ايديولوجي) والتي كان عنوانها سوريا -التي تحولت لحرب استنزاف مذهبي- حين تدخل حزب الله والميليشيات الشيعية بقيادة إيران لمساندة نظام الأسد في مواجهة انتفاضة شعبية تحولت إلى حرب أهلية، وكان التدخل تحت ذريعة مواجهة الجماعات التكفيرية.
موجات ثلاث لا نكاد تنتهي إحداها حتى تشتعل الأخرى وقد تغذت من الركام الذي خلفته الأولى فتزداد استعارا وتتسع حلقاتها: ففي الأولى تمت شيطنة كل الشيعة تحت مسمى الرافضة، ولم نلحظ التمييز بين تشيع عربي وآخر فارسي، ولا بين من يقول بولاية الفقيه -كما صاغها الخوميني- ولا بين من يرفضها متمسكا بالفكر الشيعي التقليدي الذي يقول بعودة الإمام المهدي ووجوب انتظاره، ولا من يتجاوز هذا وذاك ليقول بولاية الأمة على نفسها- كما رأي الإمام محمد مهدي شمس الدين، رحمه الله.
واتسمت الموجات الثلاث بعناصر استمرارية أبرزها التدخلات الخارجية والتنافس السعودي الإيراني، كما أضيفت إليها عناصر جديدة في المرحلة التالية لتستمر معنا بعد ذلك فيما تلاها وأهمها: الجماعات من غير الدول التي استخدمت في حروب بالوكالة لا تزال مشتعلة.
لكن المراحل الثلاث جرى فيها استدعاء للذاكرة التاريخية وكأننا في حرب ممتدة منذ وفاة الرسول -صلي الله عليه وسلم- في القرن الأول الهجري وعلى مدار خمس عشر قرنا، وتحول التاريخ إلى ساحة معركة لوجهات نظر متضاربة حول التعايش والمواجهة، كما جرى تسليح وتعبئة الهوية المذهبية بشكل متصاعد عبر المراحل الثلاث.
2-تنافس جيوسياسي: ظلل التنافس السعودي الإيراني هذه العقود جميعا بمراحلها الثلاث وتعمق بعد انهيار الدولة في العراق وخروجها من المشهد لتضاف إلى أراضي المنافسة بينهما.
في هذا السياق يشكل التفاعل بين القومية وسياسة القوة والحكم أرضًا خصبة لاشتعال التوتر المذهبي والطائفي.
وفاقم الأمر أن الدولتين تلجآن للدين كأحد أسس الشرعية السياسية، وكلاهما منخرط في تنافس استراتيجي على القيادة في العالم الإسلامي، إلا أن ما “يحفز استراتيجيتهما السياسية هو القومية الواقعية أكثر من المثالية الدينية، والبراغماتية العقلانية أكثر من اللاهوت العقائدي”- وفق تعبير عمر تاسبينار في كتابه: “ما الخطأ الذي يقع فيه الغرب تجاه الشرق الأوسط”.
تُظهر الديناميكيات في البلدان التي تشهد صراعا سنيا شيعيا بوضوح أن الاختلاف المذهبي هو واقع إقليمي؛ خاصة أن الهويات الدينية والطائفية منفتحة على التحالفات والحسابات الاستراتيجية في السعي وراء سياسات القوة، والمشكل أنه عندما تنجرف دول كثيرة في صراع تصبح الأزمة الوطنية إقليمية؛ بل وعالمية- وهو شأن الصراعات المتضمنة بعدا مذهبيا أو طائفيا في المنطقة.
وإذا كانت إيران هي الرابح الأكبر فقد أورثت شعوب المنطقة دولا فاشلة في كل ركن؛ في العراق ولبنان واليمن وسوريا.
3-مذهبية وطائفية من أعلى لأسفل ومن أسفل لأعلى: الملمح العام الذي يظلل هذه الصراعات هو ضعف الدولة وانهيار السلطة المركزية فيها أو تآكلها: يؤدي انهيار الدولة إلى تفاقم المذهبية والطائفية ويمهد الطريق أمام تدخل إيران والسعودية في شكل حرب بالوكالة.
ويلاحظ أن مذهبية وطائفية الصراعات الإقليمية تنبع من الانقسامات داخل هذه الدول؛ تستغل إيران والسعودية ذلك لكنهم لا يفرضونه على وكلاء غير راغبين.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون سوريا والعراق واليمن ولبنان دولا ضعيفة أو فاشلة. الصراع الطائفي في هذه البلدان يحدث في سياق الحكم الفاشل – عندما لم تعد الدول قادرة على توفير الأمن والخدمات.
أدى انهيار مؤسسات الدولة إلى خلق فراغ تملأه جهات فاعلة متعددة -محلية وخارجية- تتلاعب بالهوية الدينية والطائفية وتستغلها لصالحها.
وهناك ملمح يكاد يكون مستقرا ومستمرا في الصراع السني الشيعي؛ وهو تصاعد دور الفواعل دون الدولة للعب دور سواء لتوفير الحماية والأمن أو للمشاركة في حروب بالوكالة، وفي الوقت نفسه تتجه المجتمعات إلى انتمائها الذاتي من أجل البقاء والحماية.
يعلمنا الدرس المذهبي والطائفي بالمنطقة أن غياب الحوكمة الرشيدة ومؤسسات الدولة الفعالة يترك فراغًا يمكن استغلاله بسهولة من قبل الأطراف المذهبية والطائفية، التي تميل إلى الزيادة عندما تتراجع سلطة الدولة.
تظهر الدول الضعيفة أو الفاشلة -كما في حالة سوريا والعراق واليمن ولبنان بوضوح- العلاقة بين مشاكل الحكم وصعود المذهبية والطائفية، ويلاحظ أن الطائفية العنيفة لم تتسبب في انهيار الأمن، العكس هو الصحيح: الانهيار الأمني تسبب في اندلاع العنف الطائفي.
وهنا نقطتان يجب الإشارة إليهما سريعا -وإن قمت بمناقشتها بالتفصيل في موضع آخر:
أ- استبداد وقمع دول ما بعد الاستقلال، ومصادرتها للتنوع، وتأميمها للسياسة -على حد قول أ. نبيل عبدالفتاح– أجل صراعات الهوية الوطنية التي تفاقمت وبرزت إلى السطح عندما انهارت السلطة المركزية للدولة -كما جرى في العراق واليمن وليبيا.
ب- ففي غياب مشاريع لبناء المواطنة الحاضنة للتنوع وتجديد الهوية الوطنية لتحترم التعدد داخل المجتمعات؛ فإن الصراعات من كل نوع ستستمر وتتصاعد؛ خاصة إذا لم يصاحب ذلك تقوية مؤسسات الدولة، وتوفير الأمن المقترن بالتنمية الاقتصادية للمجتمعات، مع الثقة في المؤسسات السياسية.
إن بناء الأمة هو عملية طويلة وشاقة يحاول خلالها المركز السياسي تشكيل هوية وطنية شاملة تحتضن في نهاية المطاف الهويات دون الوطنية.
4-صدام المتطرفين: في لحظات الصراع الممتد ينتفي الاعتدال ويكون التطرف على كل جانب هو الأعلى صوتا ويجد خطاب أصحابه قبولا اجتماعيا متسعا.
في المراحل الثلاث شهدنا إخراج الشيعة من الملة وسب عائشة والصحابة، وأبو مصعب الزرقاوي في مقابل قاسم سليماني والمهندس، وداعش والقاعدة وكل جماعات السلفية الجهادية في مواجهة الحشد الشعبي وتعبئة عقائدية داخل حزب الله بلبنان يؤسس بها وعليها بين قواعده حربه في سوريا؛ وإن إدرك قادته أن مساندة النظام السوري كانت لأسباب جيوسياسية وليست عقائدية -وفق ما انتهي إليه د. شفيق شقير في بحثه الميداني عن رواية حزب الله للحرب السورية.
شهدنا في مجمل المنطقة -خاصة في العراق وسوريا واليمن ولبنان- تعبئة الهويات وتسليحها في ظل انهيار أمني وغياب لسلطات الدولة، وقد خلق هذا الخلل الوظيفي المحلي مساحة للتدخل الخارجي.
يؤدي صدام المتطرفين إلى حلقة مفرغة من الاستفزاز والانتقام يتبعها المزيد من الشيء نفسه.
5- العوامل الخارجية: أخطر ما جرى في هذه الخاصية أمران: الأول: أن ما حكم هذا التدخل النظر للمنطقة -وعلى ما يبدو تأثرا بكتابات المستشرق برنارد لويس المرتبط بدوائر السياسية الصهيونية- من منظور الانقسامات الطائفية والعرقية والمذهبية؛ فالمسؤولون الأمريكيون لم يروا في العراق دولة؛ بل مجموعة من الأقليات.
الثاني: هيكلة الطائفية والمذهبية دستوريا ونظاميا؛ فلقد أرست سلطات الاحتلال الأمريكية الهوية الطائفية كمعيار أساسي للتوزيع السياسي والإداري للسلطة في العراق “المحرر”، وبدلاً من تقاسم السلطة على اساس المنافسة السياسية، تحول التنافس على السلطة السياسية والموارد الاقتصادية إلى صراع مذهبي وعرقي، مما أدى إلى تأليب السنة والشيعة والأكراد ضد بعضهم البعض، كما لم يجر فقط تخصيص حصة محددة لكل طائفة بل تم توجيه جميع المواطنين العراقيين أيضًا للإعلان عن طائفتهم في الوثائق التي تصدرها الدولة.
وهكذا؛ أصبحنا بإزاء طائفية نظامية وهيكلية، ووفق هذا المنظور -الذي ثبت فشله- يجري إعادة توزيع السلطة في مرحلة الربيع العربي من خلال طرح الانتخابات باعتبارها حلا لتقاسم السلطة برغم غياب التوافق على قواعد تحكم توزيع السلطة والثروة في البلاد.
كيف ستتفاعل هذه السمات الخمس في حال إعادة توقيع الإتفاق النووي الإيراني؟ – هذا ما سأتناوله في مقالي القادم.