ربما كان الشعار الأليق بالأطباء في كل زمان ومكان هو “الرحمة قبل كسب المال”. لكن انقلبت أحوالهم في أيامنا تلك التي تكدس الدراهم والدنانير فصاروا يتاجرون بكل شيء. وأولها المتاجرة في أوجاع الناس. كأنها طريقهم إلى الثراء ولتسقط المهنة المقدسة في الوحل ولتسقط دموع “أبوقراط” جنب بريق المال!.

سمسرة طبية

“فوجئت بالطبيب بيسألني عن محل سكني. فقلت له المعادي. فاقترح عليا أسماء مستشفيات خاصة قريبة ليا لأحجز ابني بها. فسألته: هل الحالة تستدعي؟ قال: أنت بتقول إ ن الطفل بيرجع كثير ومش عارفين تدوله أدوية. قلت له يا دكتور قولنا إنه بيرجع الأدوية والأكل. ماقلتش مش عارفين نديهاله فرد: خلاص أنت حر لكن أنا مش مسؤول عنه إذا حالته اتدهورت. أفضل يتحجر بمستشفى خاص يومين ثلاثة لضبط جرعات الدواء”.

هكذا روى إيهاب جمعة لـ”مصر 360″ كيف اكتشف حقيقة طبيب أطفال كان يتعامل معه بحي مدينة نصر -سعر كشفه 250 جنيها- ويذهب له بابنه “حازم” -4 سنوات- والذي أصيب بميكروب في الحلق نتج عنه حالة قيء شديد وإسهال.

وتابع: “الطبيب كتب الروشتة ووصف لي صيدلية معينة بحجة أن هناك نوع من الحقن ناقص مش موجود إلا هناك”. وأضاف: “ذهبت للصيدلية واشتريت الحقنة وأثناء عودتي مررت بصيدلية في طريقي فسألت بها عن اسم الحقنة فقال لي موجودة. فقلت له هل هي ناقصة في السوق. قال لا. مين قال لك كدا؟. قلت له الدكتور فلان. فقال أصله بياخد نسبة من الصيدليات اللي بيبعتلها الروشتات الخاصة بيه.

لم يكن أمر الذهاب لمستشفى خاص بالمعادي إلا نوعا من التربح. بدا لـ”إيهاب” ذلك ولم يكن لديه شك حينئذ –حسبما قال لـ”مصر 360″.

 

الطب والتجارة
الطب والتجارة

“مالكيش حاجة عندي”

حنان مهدي -مدرسة- تروي: “رحت لطبيب قلب في شبرا كشفة 350 جنيه. فكتب لي مجموعة أشعة وتحاليل أعملها في معمل معين. فقلت له عندي تأمين صحي وممكن أعملها في معامل تانية مشهورة عشان آخد نسبة خصم النقابة. فرفض”.

تضيف “حنان”: “عملت الأشعة والتحاليل في معمل تاني غير اللي قالي عليه. ورحت للدكتور بيها بعد 3 أيام حسب الاتفاق. فرفض الطبيب أن ينظر في الأشعة لمجرد إني عملتها في مركز غير اللي قالي عليه. كما رفض الكشف عليا وكمان رفض يرجع لي قيمة الكشف وقالي (انتي ضيعتي وقتي مالكيش حاجة عندي”.

هند عبد الحافظ -إخصائية اجتماعية- حكت عن إصابة ابنها بحمى شديدة نتيجة مكروب في المعدة. احتجز على أثره بمستشفى حميات العباسية. وتابعت: “المستشفى عملت له أشعة مقطعية على البطن وتحاليل تشخيصية كاملة وبعد خروجه رحت بيه لطبيب باطنة في منطقة المنيل لمزيد من الاطمئنان. فرفض الطبيب كل أشعة المستشفى والتحاليل وطلب عمل مجموعة جديدة رغم أنه لم يمر عليها شهر. ووصف لنا مركز أشعة في المهندسين بشارع مصدق ومعمل مجاور للطبيب في المنيل”.

تقول “هند”: أوضحت للطبيب أن ابني مدرج معي على مشروع العلاج وممكن أعمل له التحاليل في معمل تاني. رفض وقال أنه لا يتعامل إلا مع هذا المعمل لأنه يثق بنتائجه”.

 هدايا ورحلات ترفيهية

رشاوى طبية
رشاوى طبية

الدكتورة أميرة الريفي -أستاذ مساعد بكلية الطب جامعة القاهرة- كشفت أن السلوكيات الملتوية عند بعض ممارسي مهنة الطب لم تتوقف فقط عند التربح من معامل التحاليل والأشعة وشركات الأدوية. بل تمتد إلى منح مالية وهدايا ودعوات حضور مؤتمرات علمية ورحلات ترفيهية. مبينة أن ورش التدريب والمحاضرات يدفع فيها مبالغ كبيرة للترويج لبعض أسماء الأدوية.

ووصفت “الريفي” هذه الممارسات من بعض الأطباء بأنها “خيانة” بأن يبيع الطبيب مريضه لشركات الأدوية مقابل أن يكتب الدواء الذي تنتجه هذه الشركات. مع وجود مثيل له في السوق بنفس الفاعلية وقد يكون أقل منه سعرا. معتبرة ذلك نوعا من الرغبة في تكوين ثروة سريعة دون اعتبارات أخلاقية تراعي دخول المواطنين. فيما اعتبره أحمد سيد -طبيب أذن واتزان- مخالفة لضمير الطبيب الإنساني وأعراف وتقاليد المهنة. التي تحتم على الطبيب المسؤولية في الحفاظ على أرواح البشر وحياتهم. فيقوم باستغلال ثقتهم به واستغلالهم ماديا واستنزاف جيوبهم.

ضرورة لتشخيص الحالة

وقلل الدكتور كمال مدكور -استشاري أمراض النساء والتوليد- من شأن تربح بعض الأطباء من حالات المرضى. ويرى ضرورة ألا تبعدنا هذه السلوكيات الفردية السلبية عن النماذج الإيجابية والرسالة الأسمى للطبيب في الحفاظ على حياة البشر. في ظل ظروف عمل شاقة لساعات طويلة في غرف العمليات والطوارئ لإنقاذ إنسان وشفائه.

وقال “كمال” لـ”مصر 360″: “إصرار الطبيب على عمل فحوصات في مختبرات ومراكز معينة يأتي في الغالب من ثقته بنتائجها وسلامة تقاريرها. وطلب كثرة الأشعة يأتي لتوضيح وتشخيص الحالة لوجود أكثر من احتمال في المرض لتشابه الأعراض. فالأشعة والتحاليل لحسم الأمر”.

وأشار إلى وجود بعض الاستغلال للمرضى في المستوصفات الأهلية. التي تطلب من الأطباء العاملين بها أن “يشغّلوا” معامل التحاليل ومراكز الأشعة، فيضطر الطبيب لطلب تحاليل أو أشعة لا يحتاج إليها إرضاءً للإدارة.

أطباء العينات المجانية

تغرق شركات الأدوية الأطباء بعينات مجانية من الأدوية للتعرف على خصائصه. ورغم وجود ورقة داخلية بالدواء تحوي خصائصه. فإن الطبيب عادة لا يأبه بها ويؤثر العينة المجانية. فتنقلب الحال ليتربح بعض الأطباء من هذه العينات ببيعها للمرضى المترددين عليه. ويتحول الأمر إلى رشوة على حساب المريض.

الدكتور ثروث حجاج -رئيس لجنة الصيدليات بالنقابة العامة للصيادلة- ألقى بالمسؤولية على الأطباء في الترويج لأصناف الأدوية الأعلى سعرا. حيث يقوم بكتابة الدواء بالاسم التجاري له في روشتة المريض. وليس باسمه العلمي. حتى لا يعطي للمريض حرية اختيار بديل مناسب لظروفه الاقتصادية والمادية.

واعتبر “حجاج” ذلك التوجه متعمدا بالتنسيق مع الشركات المنتجة لهذه الأنواع. والتي يحصل الطبيب على نسب منها مقابل كتابتها أو الاعتماد عليها في رأيه.

مارسيل خالد -تعمل بقسم المبيعات بشركة أدوية إنترناشونال- أكدت أن الشركات الدولية لا تعمل بهذه الطريقة. فلها قواعد وقوانين تمنع مثل هذه الممارسات الاستغلالية. مشيرة إلى أن ذلك يحدث في شركات الأدوية المحلية فقط.

وذكرت أنها قبل التحاقها للعمل بشركتها الحالية كانت تعمل إخصائي تحاليل بمعمل في شارع قصر العيني. وعلمت أن بعض المعامل تتعاقد مع أطباء تحظى عياداتهم بعدد كبير من الزائرين مقابل نسبة يتفق عليها تبدأ من 30%-50% حسب شهرة الطبيب وعدد المرضى الذين يحولهم من عيادته للمعمل.

وأكدت أن المعمل الذي كانت تعمل به حدد نسبة خصم 35% تذهب للأطباء المتعاقد معهم. مبينة أن قيمة وسعر التحليل يتم تحديده على أساس عدد الفروع التابعة له وعدد العاملين بها والأجهزة والمواد التي يعمل بها. كل ذلك يضع في “الباكدج” الخاص بالتحاليل أو الأشعة لتغطية نفقاته لضمان تحديد هامش ربح.

دور النقابة في الرقابة

الدكتور محمد حسن خليل -استشاري أمراض القلب ومنسق لجنة الحق في الصحة- أكد أن نقابة الأطباء ليس لديها جهاز إداري لمتابعة آليات العمل بالعيادات الخاصة. وقال إن متابعة العيادات والرقابة المهنية مسؤولية وزارة الصحة لمنع مثل هذه الانحرافات.

وأكد أنه في حالة تقديم شكوى رسمية للنقابة عن أي طبيب يستغل الناس في مهنته يمكنها إيقافه عن ممارسة عمله. وذلك بعد تشكيل لجنة تفحص ملف كل مريض وما طلب منه من أشعة وتحاليل وتقييم مصروفاته عنها. وقال إنه يمكن جدا أن يتم غلق المنشأة/العيادة حال مخالفة الطبيب معايير المهنة وقسَمها.

جريمة مكتملة الأركان

وقال “خليل” لـ”مصر 360″: “بعض الأطباء يطلبون تحاليل وأشعة لا مسوغ لها. وقد يكون لها آثار جانبية على المرضي كالأشعة المقطعية متعددة المقاطع في أوقات متقاربة”.

واعتبر ذلك “جريمة مكتملة الأركان”. حيث يتعرض المريض لقدر كبير من الإشعاع الذي يترك آثاره السلبية بشكل متراكم تمتد أضرارها لسنوات. مؤكدا أن إلزام الطبيب المريض بعمل أشعة مقطعية بشكل متكرر بمعدل كل شهرين سلوك مخالف طبيا. ولو تم التعرض لها في نقابة الأطباء في صورة شكوى رسمية يمكن تطبيق جزاء مهني وجنائي على الطبيب.

وعن كيفية الحد من هذه الانحرافات المشينة بمهنة شريفة كمهنة الطب. قال “خليل”: لا يمكن الاعتماد على أخلاق الطبيب فقط للحد منها. ولكن الارتكاز على وعي المريض.

وطالب نقابة الأطباء ووزارة الصحة بدعوة الأطباء وإلزامهم كتابة هذه التقارير الطبية لمعرفة نوعية الفحوصات التي أجراها. والتي تحتاج إليها الحالة للحدة من ظاهرة التربح على حساب المرضى.