“شاهد” طلّعت قماش. حررت نفسها من القيود أكثر من المعتاد. استثمرت في مشروع مؤلف مؤجل منذ خمسة عشر عامًا كما أخبرني. يحمل هواجسه البكر الأكثر تكثيفًا. كتبها قبل أن يستهلك ذاته في مشروعات نالت حفاوة أكبر. ليقدّم قربانًا لمخرج تردد لسنوات في العمل على مشروعه الإخراجي التليفزيوني الأول. لم تغره سوى البكارة التي ذكّرته بماضيه وطفولة صوّرها في فيلمه الأول.

خطاب مهووس بالغيب والمدينة الملعونة التي يعشقها الجميع. صنعه يسري نصر الله ومحمد أمين راضي. لماذا يمكن للدين أن يؤسس لخطاب تفسيري بالنسبة لي لجنون شاهدته في مسلسلهما “منورة بأهلها”؟ سأحتسي بعض “السوكومونس” مثل أبطاله وأهيم بتأويلي علنًا.

يا زهرة في خيالي.. موسيقى ملحمية قصيرة وثابتة ومقطع ثابت مكرر غير ممل يتغنى أحدهم بالجملة بعد الأخرى دون سبب واضح أو فهم لما يقول. يا زهرة في خيالي لا تنتهي.

مكلفا بالتحقيق في جريمة قتل انتقامية لرجل مجهول. يبدأ وكيل النيابة الكشف عن الحقيقة من خلال قصاصات من الصور يجدها في منزله.

https://www.youtube.com/watch?v=vUcSs2lYkcc

صراع شاهد ونتفليكس

ثمة فلسفة كانت ثمرة لسنوات متراكمة من التبلور والمحاججة. أنتجت خطابا بات يمكن الرهان عليه ووضعه كحجر أساس في إنتاج عمل أصيل يمكنه المنافسة نقديًا من منصة شاهد “العربية”. في وقت اهتراء أعمال تنتجها نتفلكس العالمية التي لم تسع للرهان بعد. تحياتي الحارة إلى “شاهد” التي استغلت فرصة رعونة منافسها لتقلب الطاولة باصطياد عمل ناضج وتقديمه في وجبة دسمة ترفع سقف التجريب واللعب مع الفن قدر الإمكان.

الفلسفة لا تتوقف عن كونها ثقيلة الظل مهما شاهدنا نفعها المباشر وغير المباشر علينا. لذلك يمكنك أن تضغط على أغنية “يا زهرة في خيالي” التي تغنيت بها سابقًا والتي كتبها صالح جودت ولحنها فريد الأطرش لنفسه. أولًا لتُهدّأ من حدة تأويلي الذي قد يبدو شطحات ناقد يحاول الهروب من ارتفاع سعر الدولار المفاجئ. وثانيًا لأنها استخدمت كموسيقى تصويرية على مدار حلقات المسلسل بمبرر درامي قليلًا وفلسفي أكثر.

 

كيف التقى الجمعان؟ سيرة ذاتية للبدء

كيف حدثت هذه المصادفة التي كان يُرتب لها منذ سنوات؟

أن نشاهد محمد أمين راضي السيناريست الشاب ويسري نصر الله المخرج المخضرم. الأول تربى على العمل المضني في أي شيء بأوامر الأسرة والاحتكاك بالواقع أكثر مما يبدو. وآخر ابن لأرستقراطية معذبة تربّى على العقاب من الاحتكاك بهذا الواقع. هذا عذبٌ فرات وهذا مِلحٌ أجاج. جمعتهما النظرة ذاتها إلى مدينة طاحنة هي فقط ما يمكنها أن تحتوي صخبهما الداخلي.

لن يعاني المخرج كثيرًا للعمل على أولى تجاربه الإخراجية. سيقدم على حركة عنترية لتصوير طفولته في فيلم سير ذاتي “سرقات صيفية” قوبل باستهجان جماهيري متوقع وحفاوة نقدية بالغة. منذ اللحظة الأولى التي نرى فيها أعمال “نصر الله” التجريبية لن نحتار كثيرًا أمام ثقة صانعها في صورته. ليست الثقة في جودتها بل في مدى اتساقها مع ما يريده مهما كان هذا الذي يريده صداميا في “مرسيدس” أو غير متوقع في “باب الشمس” كواحد من أطول أفلام السينما العربية. أو حتى في أوضح تجاربه “جنينة الأسماك” ستجلس أمام بعض الغرابة الجماهيرية المتوحدة مع حيرة صاحبها من أبطاله رغم تعاطفه الذي يفوق الحد.

بينما ستظل المعاناة في الوجود ملازمة للشاب الجديد محمد أمين راضي الذي ظهر بمسلسل حروف الدم الذي تغير إلى “نيران صديقة”. الذي نجح أكثر مما توقع الجميع. هكذا حظ المبتدئ. وهكذا مأساته. سيظل محط أنظار وريبة ستنجح مسلسلاته جماهيريًا فيما بعد بالرغم من قلة جودتها على الأقل مقارنة بالأول. وستنحدر تمامًا في “وكل ما نفترق” بينما ينقذه ماضيه الأول -لحظات صدقه الأولى- التي ستظهر للعلن لأن كل شيء بميعاد.

الدنجوان والصدق الأول

كلاهما تجلس لتشاهده يتحدث مرة ولن تعود برأي محايد. على أغلب الظن ستعلن حبك لهذا المخرج الدونجوان الهادئ تمامًا والأكثر صراحة في كل حوار أو تبدي تأففك من بروده وثقته الزائدة. ستفتح هاتفك لكتابة منشور سب للمؤلف العنيف العليم بكل شيء أو ستتوحد مع عالمه ويصبح صديقك المُتخيّل.

لحظة. ما الذي يهمنا في هذا الحديث السريع عن ماضي المخرج والمؤلف في سياق الحديث عن عملهما الدرامي الأخير؟

هل يمكن لهذا التفسير أن يضيّق المديح على شخصيهما وينزعه من مدير تصوير مذهل سنتحدث عنه لاحقًا وآخرين يتوارون عن الصورة؟

لا أعتقد.

امتص المسلسل ذو الحلقات العشر ما يزيد على خمسة عشر عامًا لتطويره من عُمر المؤلف. وربما مثلهم ما يزيد ما تردد خلاله المخرج للعمل على أول مسلسل يحمل بصمته. ومنصة جديدة تراهن على ماضيهما ونجاحهما هذا كجزء مؤسس للمعادلة والرهان. هذه لحظة نتيجة ماض وإيمان مسبق. هنا التقى الجمعان. وهنا يمكن البدء.

هذا الماضي الذي يبدو حشوا معلوماتيا يستعرض عضلات كاتبه ومعلوماته يصلح للبدء من خلاله كتأصيل لخطاب أصحابه “المخرج والمؤلف” -الواقفين على حافة العالم- غير راضين بالحلول الوسط. أحدهما ساعدته نشأته أن يخرج من عباءة صناعة الفن للانتشار وإعجاب الجمهور والآخر شاء قدره أن تخرج أعماله التي كتبها بعد “منورة بأهلها” للجمهور لتحمل معها تخبط البدايات ومحاولات لفت الأنظار والمط والحشو الذي يأكل منه جمهور يستلطف البهرجة الزائدة عن الحد.

تأويل طويل للدين كمجاز فني

شخصيتان مؤهلتان لوضعهما في إطار موازٍ للدين كنموذج تفسيري للعالم الذي خلقه “منورة بأهلها”. الدين يبدأ كمُعتقد. ثمة عقيدة مؤسسة تتحرك حولها الأشياء. يقف كل فرد غير مؤمن بهذه العقيدة على مسافة مفهومة منه. هكذا يمكن النظر إلى العمل الحاد. وصنّاعه لا يعبر عنهما ولا يعبّران عنه بالطبع. هو فقط أكثر جذرية كتمثيل لذلك.

خطاب تليفزيوني جديد يحمل في قلبه سنوات تكوين مضغوطة تفسر نظرتهما الصارمة إلى المدينة/العالم/المكان الوحيد الصالح للحياة والموت. لمدينة كبيرة “منورة بأهلها” أو “محترقة بهم”. لتغري بأنوارها القادمين الأكثر سذاجة وبراءة. النار في حاجة دائمة لحطب كي لا تنطفئ. ادخل بقدمك اليمنى إلى الدنيا المغرية إلى هذا العذاب الجميل. قبل أن تدرك الحقيقة عن دار الفناء. هكذا ترى الأديان العالم كله. ليست المدينة فقط. خدعة العطاء الوهمي الأولى والأخيرة.

يحتاج الإغراء إلى براءة مفرطة. قد تصل إلى السذاجة. هكذا سنضع ممثلا لم ير البطولة من قبل لنشاهد دهشته واهتمامه الحقيقي والمجازي إلى جانب أبطال آخرين أكثر شهرة وأقل وجودا.

وسنشاهد صورة صنعها مدير تصوير برهافة اختيار ملحوظ لألوان الدم والسواد. ألوان تعيد نظرتنا للعالم المديني وتُعيد تأويله. البطولة موزعة بالتساوي لأنه لا بطل في الحياة الدنيا بينما المحورية للنبي المعذب “محمد حاتم” أو مهاب. تصب القصص كلها في قلبه. لا نحتاج إلى إتقان تمثيلي فقط. ثمة تماهٍ تام مع ما يحدث. “إيمان” كامل بالرحلة التي يمكن أن تصبح استثناء بعد قتل البراءة ومحاولة استعادتها.

منورة بأهلها والبراءة المفرطة

كيف يمكن أن نستعيد براءتنا المفرطة؟ بتذكر القتل. الفعل الأكثر عنفًا كمقابل للبراءة عديمة الفهم. الحدث البشري الأول الذي تحركت من خلاله كل الخيوط. كل الأديان تتفق على الحدث المحوري الأول. قتل قابيل لهابيل. من هنا نتنازل عن البراءة ونحاول فهمها بأثر رجعي. لا توجد براءة حقيقية. فقط ثمة حنين إلى وجودها المُلهم.

باسم سمرة
باسم سمرة

هكذا ستتحرك كل الأحداث سواء بشكل رجعي أو متقدم على متقل البراءة/ هابيل/ مهاب على جثته. سنتحرك بصريًا لمحاولة حل اللعز. تدعي الأديان تفوق معتنقها بأسبقية معرفته للنهايات. الرحلة فقط لمعرفة لعز الأحجية ليس نتيجته. نعلم نهاية الرحلة ونخوض مسلكها الغامض. هكذا سنشاهد المسلسل الذي سنعرف نهايته من البداية لكننا نجلس أمام تفاصيل اللعبة التي لا تنتهي حتى بنهاية المسلسل.

في أغلب أعمال “راضي” سنشاهد مجموعة من البشر جمعتهم الحياة والظروف لشيء ما أو فرقتهم لشيء آخر. جميعم اضطر للسير عكس الاتجاه. بشر هائمون يبحثون عن طوق نجاة بالمال والنفوذ والشعوذة مقابل آخرين يرتكنون للزهد والاتكال والبصيرة. بينما في أعمال “نصر الله” سنشاهد مستهجنين غير مرغوب فيهم. هل تجد فارقا بين أبطالهم وبين من يخاطبهم الأديان؟

لم تجد مهارة مهاب أو عليا في رؤية المستقبل والأشرار أو سماع الأفكار الداخلية سوى بقايا براءة لرؤية الأشياء على صورتها. وعد صادق لعدم رغبتهم في ممارسة شرور المدينة التي لوثتهم بالرغم من كل شيء.

“يا زهرة في خيالي/راعيتها في فؤادي/ جنت عليها الليالي/ وأذبلتها الأيادي/وشاغلتها العيون فمات سحر الجفون”.

لا نفع مع الهروب أبدًا. كيف يهرب الإنسان من ذاته؟ من قدره؟

في فيلمه الأكثر مباشرة “المدينة” الذي صنعه عام 2000 نستمع لقصيدة كفافيس التي ختم المسلسل بها أيضًا “لا تأمل في بقاع أخرى. ما من سفين من أجلك/ وما من سبيل/ ما دمت قد خربت حياتك هنا/ في هذا الركن الصغير/ فهي خراب أينما كنت في الوجود”.

لا يهرب الإنسان “الديني” من ذاته كمعتقد مؤسس. لا ينسب للدين الفضل لكن مجرد التسليم به يصبح هذا الهروب ذنبا كبيرا ليس للمدينة شأن به.

الفجاجة المفرطة التي تصلح لقصة بداية الخلق

لماذا الفجاجة والحدة جزء من صناعة هذا العمل؟

أقدمت على تجربة معملية صغيرة أجريتها على أصدقائي. تركت أحمد عماد ومحمود الديب -غير المهتمين بالتليفزيون كثيرًا- يشاهدان أجزاء من المسلسل لأشاهد بدوري ردود فعلهما. كان أحدهما شديد الامتعاض من الدماء والصخب. كم كنت سعيدًا من ذلك. لأن الفجاجة جزؤه الأصيل.

الوضوح الزائد على الحد والكليشيه المصنوع بعلم كبير بصريًا وكتابيًا هو رهن عين المؤمن. في المدينة البلاء ستجد النقيض كما في المسلسل. ستجد قصورًا وفيلات شديدة الفخامة والتبذير لا تدرك عينك نهايتها. مقابل مقابر يسكنها آخرون وفتات يأكلونه. لم أر منزلا طبيعيا يشبهنا في المسلسل باستثناء منزل وكيل النيابة “أحمد السعدني” أو “آدم” الإنسان الأول. الحاكم بأمر الله في رحلة كشف.

منورة بأهلها
منورة بأهلها

الفجاجة ستجدها في الرغبة في المزيد من القتل من قبل رجل دونجوان لا ينقصه شيء بينما في لحظة نشوة يشتاق لمزيد من الدم دون منطق. هكذا تخبرنا الأديان أن المنطق ليس جزءًا من لعبة الحياة.

الاستهجان الذي وجدته على عين صديقي في مشهد اعتداء جنسي جماعي على غادة عادل هو عين العقل.

الرغبة القاتلة في المزيد من الجنس ونهاية مسرحية لمشهد في صورة ذبيحة ترقد بجانب ملايين الدولارات هو حلم المدينة المثالي: حسناء وأموال وفيرة. حلم. مجرد حلم مصور في كابوس. هكذا تنظر الأديان للرغبة عمومًا بتلك الحدة والامتعاض نوعًا ما.

الحدة لم تتوقف في قطعات مونتاج ثقيلة الأثر ووضوح “كليشيهي” تام لاختيار الملابس والإضاءة. في أغلب الأحيان ستجد عليا أو آدم أو مهاب ملائكة بملابس زاهية بيضاء. بينما سنجد سواد باسم سمرة وليلى علوي لا يحمل المجاز. أسود كامل ينضح بسواد القلوب ودمائها القذرة. تقسيمات حادة للشر والخير بتشابه ديني مثير للتأمل.

أصل السكومونس

في التسعينيات كان الفنان رضا حامد الذي أجلسه عادل إمام في منزله لأن دمه خفيف أكثر من اللازم. يغني أغنية اسمها السكومونس، لا مجال للهروب من تسمية المشروب الروحي داخل المسلسل بالاسم ذاته إلّا أنه من هناك. قد أكون مدعيا لكني لم أسمع الاسم سوى من تأليف العدمي رضا حامد الذي جلست معه وأضحكني حتى البكاء. يصبح جزء كبير من الإعجاب بالسوكومونس “مشروب الكركديه” قائما على الوهم. يذهب العقل قليلًا من العلم وكثيرًا من الوهم. لتلك التفصيلة المؤسسة تُحرم الأديان السُكر وذهاب العقل.

يبدو المجاز الواضح للمسلسل هو ضياع القادمين من الخارج إلى المدينة الطاحنة الهائم سكانها في العدم. لكنه يبدو تأسيسا أكثر تسطيحًا في رأيي. هل تقسو المدينة على أهلها؟ تساؤل ساذج قد يمكن مطّه للنهاية والتساؤل: هل للمدينة أهل أساسًا؟ بشكل مجازي بالطبع الإجابة لا.

المدينة ليس لها أهل. كذلك شرورها. مدينة المسلسل أبناؤها القدامى هم مجرد غرباء ورطتهم اللعبة في الاستمرار لتوريط جدد. المدينة هي محطة قتل البراءة. والمحاولة للرجوع والترك هي العقبة الأمثل أمام الديني وأمام البطل عمومًا ليس عدم المجيء مطلقًا.

هل تملك غير التعاطف مع كل شخصيات المسلسل أو على الأقل تفهم دوافع شرورهم؟ لا أعتقد. هكذا تحرق المدينة ذاتها وأبناءها. السر الأعظم كان في عصابة تبيع أطفالا أو تبيع “هرمونات نمو” للدقة. يستحل ابن المدينة ذاته وجسده كقربان للإقامة. ومعها يستحل دماء الآخرين. رؤية القسوة الشديدة قد تخلق دافعا إنسانيا لإعادة إنتاجها. رضيع كمجاز لمادة خام من البراءة ينتهكه إنسان لوثت المدينة/الدنيا كل عقله.

إذا كنت قد وقعت في الحب في مرة وفشلت فأنت وطاقتك قد تجلس لأيام أو سنوات تعيد وتزيد في تمني عدم حدوث ذلك من الأساس. في البقاء على ملائكيتك. بينما الأديان تخبرنا بغيرة الملائكة. فقط بسبب الاختيار والتجربة. الوقوع في الخطأ والخروج منه. الدخول للمدينة والخروج منها لإعادة البراءة.

هل يمكننا التوقف عن ممارسة الشر؟ السعي لممارسة الخير؟

مهما كانت تصوراتنا عن مدى سوئنا الداخلي الموهوم بعد العيش في هذه المدينة بكل حقارتها وقسوتها وارتكاب كافة الشرور علينا أن نعيد التساؤل الفلسفي الأكثر وضوحًا وجذرية وتأسيسا والإجابة عنه بهدوء: هل يمكننا تقبل بشريتنا التي تسببت في غيرة الملائكة؟

“هي غرامي كل شيْ ضاع مني/فنزعت الحب من قلبي وروحي”. في كل حلقة يكرر الأطرش الكوبليه. يبرر الضياع الشخصي بالتنازل عن الحب. قد يصلح ذلك كإجابة شافية للبعض. أنا أحببت مرة. وسأقول لك قبل أن أشرب آخر كأس سوكومونس معي. لن أراهن أبدًا على ضياع أن أحب مرة أخرى. على أن أدخل المدينة وأتنازل عن ملائكيتي المزيفة رغم كل ما فعلته بقلبي. الآن أدرك إنسانيتي “واللي صدق في الحب قليل”.