في يوليو 1952 عاد المصريون لحكم أنفسهم بعد قرابة ألفي عام من الاحتلال المتتابع الذي حافظ بدأب على نهب ثرواته، فكانت نسبة الفقراء المعدمين من أبناء الشعب المصري حوالي 80%، منحنين الظهور في حقول الاقطاع. فأطاح الضباط بالحكم الملكي تحت شعار: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد، لكن ما ترفعهاش أوي أحسن لك.

خلال 15 عاماً تقريبا من حكم دولة يوليو العسكري تذبذبت العلاقة بين السلطة والشعب، بشكل ربما يليق بشعب ينتزع حكم نفسه بعد قرون طويلة من الاحتلال، لكن من انتزعها كانوا ضباطا صغار السن معدومي الخبرة في الحكم، لديهم الكثير من الآمال والطموحات لوطنهم وشعبهم، والكثير جداً من النزعات الفردية والشهوات والأطماع الشخصية التي لم يكن لها ضابط ولا رقيب ولا حساب ولا عقاب بالطبع، تراوحت سلطتهم بين توجه لتعويض الناس ورفعهم من مستوى الفقر المدقع، وبين الحكم الديكتاتوري الذي لا يخلو من الفساد جعل مجموعة الحكم ودوائرهم تستأثر بأعلى هرمي السلطة والثروة. بين ذهب المعز الذي سن قوانين الإصلاح الزراعي، وسيفه الذي أعدم العاملين الشيوعيين مصطفى خميس ومحمد البقري على خلفية إضرابات عمالية*

ووفق قواعد المقارنة الفيسبوكية فقد حافظ الجنيه على قيمته أمام الدولار طوال عهد الثورة وعبد الناصر وما بعده، فعندما أُطيح بالملك كان الدولار يساوي 0.35 جنيه، وظل على هذا السعر حتى عام 1962 ليصبح 0.4 جنيه، ثم 0.43 جنيه من عام 1963 إلى 1972، وعاد إلى 0.39 جنيه عام 1973 واستقر حتى عام 1978. لكن كانت هذه الأرقام والنسب لا تشغل بال أحد ولا يهتم لها إلا أعلى هرم السلطة، حيث كانت الدولة منذ قيام الثورة وحتى وفاة عبد الناصر هي المكلفة بالاستيراد والمعاملات الخارجية التي تحتاج العملات الأجنبية.

الغريب أن هذه الفترة تتمتع بقدر كبير جدا من التضليل من خصومها وأنصارها معا، فعلى عكس ما يروجه الجانبان حول الإصلاح الزراعي كانت التجربة الناصرية تدريجية وبطيئة ومحدودة مقارنة بتجارب لبلدان أخرى في ذلك الوقت مثل كوريا الجنوبية التي وضعت خمسة فدادين حدا أقصى للملكية الزراعية، بينما نفذ نظام يوليو برنامجه على ثلاث مراحل هي: حد أقصى 200 فدان عام 1952، ثم 100 فدان عام 1961، وأخيرا 50 فدان عام 1969 وهو ما لم يسعفها الوقت لتتحقق، والملفت أن هذه القوانين لم تطل حتى نهاية الخمسينات سوى 12 % من الأراضي، وعلى الرغم من أنها فتحت آفاق تدرج اجتماعي لأبناء طبقات كانت معدومة بدرجات معينة لا تسمح لهم بتنازع سلطة الضباط، إلا أن المستفيد الأكبر من هذه العملية كانت الشريحة الأعلى الذين تراوحت ملكيتهم بين 10 إلى 50 فدانا، الذين هيمنوا على علاقة الدولة بالإنتاج الزراعي من خلال دورهم في الجمعيات الزراعية.

وقد تزامن جزء كبير من هذه الفترة مع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية، والتي استغلها النظام الناصري بمكاسب من الطرفين. فعلى عكس ما هو شائع، كانت الولايات المتحدة الامريكية من أهم داعمي الدولة الناصرية لفترات طويلة بالمعونات والقروض الميسرة، ففي عام 1961 على سبيل المثال كانت المساعدات الغذائية الأمريكية لمصر تشكل 77% من واردات القمح، وفي العام التالي وصلت تلك النسبة إلى 99%، ثم اتفاقية مساعدات “الغذاء من أجل السلام. وعلى الجانب الآخر كانت المساعدات والقروض العسكرية الميسرة السوفيتية، وبعض المنح الأخرى مثل إسقاط 50 % من الديون العسكرية على مصر عام 1965.

وقد حقق الاقتصاد المصري طفرة خلال تلك الفترة على مستوى معيشة الأفراد وعلى المستوى الاقتصادي بشكل عام، فمن الفترة من 23 يوليو 1952 حتى وفاة عبد الناصر عام 1970 زاد عدد المدارس من 4800 مدرسة إلى 18 ألف مدرسة، وعدد المدرسين والمدرسات من 40 ألفا إلى 250 ألفا، وعدد الطلاب في كل مراحل التعليم من 840 ألف طالب إلى 5 مليون و500 ألف طالب، وهو ما خفض نسبة الأمية بمقدار النصف تقريباً. كما حملت التجربة كثيرا من الإنجازات القومية والصناعية مثل السد العالي وتأميم قناة السويس -التي لا تزال أهم مصادر الدخل القومي إلى يومنا هذا- وزيادة مساحة الأرض الزراعية بنسبة 15 %، وقرابة 1200 مصنع منها مشروعات ضخمة مثل مجمع الحديد والصلب في حلوان، ومجمع مصانع الألومنيوم في نجع حمادي.

وعلى الجانب الآخر بدأت رحلة الديون المصرية الخارجية عام 1958 والتي بلغت مع رحيل جمال عبد الناصر 1.7 مليار دولار منها 385 مليون دولار للاتحاد السوفيتي، و205 ملايين دولار للولايات المتحدة الأمريكية، إيطاليا 122مليون دولار، ألمانيا الغربية ١٠٦ ملايين دولار، الكويت ١٣٠ مليون دولار، بالإضافة إلى ديون لليابان وبعض البنوك الأجنبية.

ويمكن القول -بتبسيط مخل -بأن هذه المرحلة التأسيسية للجمهورية وحكم المصريين لأنفسهم استعاد خلالها الشعب كثيرا من الامتيازات وانتقل فيها إلى مرحلة جديدة تماما في التاريخ، لكنها لم ترق إلى ما يستحق.. أخذ جزءا من حقوقه وحُرّم عليه السعي للحصول على بقيتها، ربما كانت خطوة عرجاء على طريق بناء الدولة، احتاجت للتقويم والإصلاح، لكنه لم يحدث، ولا يسمح له بأن يحدث حتى يومنا هذا. بل على العكس، فسرعان ما سلب كثير جدا من تلك الحقوق، وترسخت مواطن العطب وقويت بشكل أكبر وأشد، فحتى قليل الحقوق والخدمات التي أعطتها دولة يوليو للمصريين عن طريق كارنيه وبطاقة وأبونيه تم سحبها منهم لاحقا وألقوا بهم إلى غابة الرأسمالية دون درع أو سيف، وهو ما نكمله في المقال القادم.

مصادر:

الأمية في مصر، آية سمير غريب 

*تاريخ العصامية والجربعة، محمد نعيم

الحركة الوطنية في مصر، د. رؤوف عباس

في تشريح الهزيمة، (هزيمة 1967 وفشل الدولة التنموية الناصرية سامح نجيب)